وفاة الشيخ ابن باز (1)

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-03 - 1436/02/11
عناصر الخطبة
1/الموت نهاية كل حي والاستعداد له 2/مرض الشيخ ابن باز وتاريخ وفاته 3/مولد الشيخ ابن باز ونشأته 4/بعض المناصب التي تولاها الشيخ ابن باز 5/أخلاق عالية تميز بها الشيخ 6/مصيبة فقد الأمة للشيخ ابن باز 7/أهمية تربية الأجيال على احترام العلماء وخطر تهميشهم 8/بعض واجبات الأمة تجاه الشيخ ابن باز وأهم مميزات دعوته 9/حكم الصلاة على الغائب

اقتباس

أيها المسلمون: ومن عرف الشيخ -رحمه الله تعالى- رأى أنه قد تجمعت فيه أخلاقٌ قل ما تجتمع في أحد في هذا الزمان؛ فقد تميز الشيخ -رحمه الله- بالحلم الواسع، فهو قليلاً ما يغضب، وإن غضب كتم أنفاسه وما تكلم، ولا يجرح المشاعر أبداً، وهو كالنسيم العذب على القلوب، ولذلك جعل الله...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والحمد لله الآخر الذي ليس بعده شيء، والحمد لله الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والحمد لله الباطن الذي ليس دونه شيء، أحمده -تعالى- خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أنزل الله -تعالى- عليه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر:30 - 31].

صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: إن الله جلت قدرته، وتعالت أسماؤه، أوجدنا في هذه الحياة من عدم: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)[الإنسان:1].

 

أوجدنا في هذه الدنيا لا للدوام والبقاء، ولكن للموت وما بعد الموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[العنكبوت:57].

 

حكم المنية في البرية جارِ *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ

بينا يرى الإنسان فيها مخبرا *** حتى يُرى خبراً من الأخبار

 

قال الله -تعالى-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26 - 27].

 

قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت".

 

وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس، اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه".

 

أيها المسلمون -عباد الله-: إن الموت مما ينبغي الاستعداد له، واستشعار قربه، فإنه أقرب غائب ينتظر، وما يدري الإنسان لعله لم يبق من عمره إلا اليسير، وهو مقبل على دنياه، ومعرض عن آخرته.

 

تؤمل في الدنيا طويلاً ولا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من مريض عاش حينا من الدهر

 

الموت باب وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الموت ما الدار

الدار جنة عدن إن عملت بما *** يرضي الإله وإن فرطت فالنار

هما مصيران ما للمرء غيرهما *** فانظر لنفسك ماذا أنت تختار

 

لقد بلغ الجميع نبأ وفاة عالم الأمة، ومفتي هذا الزمان سماحة الوالد الإمام العلامة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته-.

 

فقد انتقل الشيخ إلى جوار ربه ليلة الخميس في ساعة متأخرة من الليل، على إثر تعب أصابه رحمه الله في أول الأسبوع دخل على إثرها المستشفى في الطائف يوم الأحد، وبقي في المستشفى حتى توفاه الله ليلة الخميس.

 

وسيصلى عليه في هذا اليوم بعد صلاة الجمعة في مكة المكرمة -فإنا لله وإنا إليه راجعون-.

 

اليوم فلتبك الجزيرة إنها *** بمصابها مهزوزة الأركان

اليوم فلتبك الجزيرة جهبذاً *** لا كالجهابذ حكمة ببيان

الله أكبر كنت نور مجالس *** يهدى العقول بعيدها والداني

كنت الإمام لكل طالب سنة *** أو مستزيد من هدى الفرقان

أو باحث ما قال أرباب النهى *** في الفقه والتوحيد بالتبيان

حتى لسان العرب كنت مجلياً *** في علمه من قبل كل لسان

ماذا يعزى أمة مكلومة *** قذفت بها الويلات كل سنان

يا للجراح نجيعها قمم النهى *** وذر البيان وأثبت الأركان

ماذا يقول وكل نفسي حرقة *** أعيا من الخطب العضال بياني

أشكو إلى الله القدير مصابنا *** أشكو إليه كآبتي وهواني

رباه إنك عالم بمصابنا *** هل من طريق رب للسلوان

إنا إليك لراجعون وحسبنا *** بالصبر لا السلوان والنسيان

 

أيها المسلمون: كيف نستطيع أن نتحدث عن حياة رجل عاش قرابة تسعين سنة في الدعوة إلى الله والعمل، والبذل والجهاد، والتأليف والإفتاء، في خطبة تستغرق ثلاثين أو أربعين دقيقة؟

 

إن هذا لمن المستحيل، لكنها كلمات نعزي بها أنفسنا، ووالله إن حب هذا الإمام عبادة نتقرب بها عند رب العالمين.

 

فشيخنا هو الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز، إمام أهل السنة في هذا العصر، المحدث الفقيه مفتي الديار.

 

ولد الشيخ في مدينة الرياض في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة عام 1330هـ من أسرة صالحة.

 

نشأ الشيخ منذ صباه على رسالة الإسلام، واقتدى بسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-، وسار على طريق التوحيد، وشهادة: أن "لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله".

 

فحفظ القرآن قبل سن البلوغ.

 

ابتلاه الله -جل وتعالى- بعمى العينين، وهو في أول شبابه، فزاد قلبه بصيرة وعلماً.

 

وما ضره عمى عينيه، فازداد حفظاً، وزاد ورعاً، وزاد علماً.

 

فقد ضعف بصره وعمره ستة عشر سنة، وبقي الضعف يزداد معه، واستمر قرابة أربع سنوات حتى فقد بصره تماماً وعمره عشرون سنة.

 

رأيتك أعمى العين صار ضياؤها *** بقلبك حتى صرت فجراً مبلجاً

فصار سواد العين في القلب فاغتدى*** ينظم من نور الشريعة منهجا

 

تولى الشيخ القضاء في منطقة الخرج مدة أربعة عشر عاماً من عام 1357هـ إلى 1371هـ.

 

ثم انتقل للتدريس في معهد الرياض العلمي لمدة سنة، ثم انتقل إلى كلية الشريعة بالرياض، وبقي فيها حتى عام 1380هـ، حيث عيّن نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبقي نائباً لرئيس الجامعة مدة تسع سنوات، ثم عين رئيساً لها، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1395هـ، حيث عين في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.

 

ثم عين -أخيراً- المفتي العام لهذه البلاد بالإضافة إلى عدد من الأعمال، والتي كان يزاولها الشيخ، فهو رئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ورئيس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، ورئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد، إلى أعمال أخرى كثيرة.

 

أيها المسلمون: إننا عندما نذكر هذه المناصب لا نريد أن نرفع من منزلته في قلوب من يسمع مثل هذا الكلام.

 

فالشيخ -رحمه الله- وأمثاله من العلماء والكبار هم أعظم من هذه المناصب، بل إن هذه المناصب تشرف بأن يضاف أمثال ابن باز لها، فعلماء الأمة لا يزيدهم شيئاً عندما نقول بأنه تولى القضاء، أو درّس في كلية الشريعة، بل إن هذه المناصب تكبر في عيوننا أن يتولاها أمثال ابن باز.

 

لقد شرفت كلية الشريعة بالرياض عندما وضع ابن باز فيها قدمه، وصار لهيئة كبار العلماء قيمة عندما تولى رئاستها ابن باز، فالأمة لم تعرف هذا الإمام؛ لأنه في منصب كذا وكذا، لكن عرفته الأمة؛ لأنه الإمام المصلح، الداعية الفقيه، المفتي الزاهد، الورع، المهتم بشئونها، المعايش لقضاياها في أي منصب كان، بل حتى لو تخلى من المناصب.

 

لكن يكفينا درساً أن هذا الإمام بقي على رأس العمل وهو في التسعين من عمره يعمل ويجهد لم يأخذ إجازة رسمية من عمله منذ أن تقلد الوظائف الرسمية أبداً؛ لأنه كان يعمل لله وكان يشعر أنه يخدم الدين والإسلام من خلال عمله فلماذا الإجازة؟.

 

أيها المسلمون: ومن عرف الشيخ -رحمه الله تعالى- رأى أنه قد تجمعت فيه أخلاقٌ قل ما تجتمع في أحد في هذا الزمان.

 

فقد تميز الشيخ -رحمه الله- بالحلم الواسع، فهو قليلاً ما يغضب، وإن غضب كتم أنفاسه وما تكلم، ولا يجرح المشاعر أبداً، وهو كالنسيم العذب على القلوب، ولذلك جعل الله له محبة عظيمة واسعة في قلوب الخلق، فلا ينال من الأشخاص، ولا يتهكم على أحد ويحفظ للناس قدرهم.

 

وعندما كان مديراً للجامعة الإسلامية في المدينة النبوية كان يفتح مكتبه للطلاب وللمدرسين والمراجعين والزوار والضيوف.

 

وهذه ميزة يفتقدها كثير من العلماء والمسئولين والموظفين، حيث إغلاق الأبواب في وجوه المسلمين.

 

فكان الشيخ يرى أنه ليس من الحكمة أن يغلق بابه، بل يفتحه للجميع ويسمع من الجميع.

 

فهو بحق رجل عامة لا يحجب الناس دونه، وليس على بابه بواب.

 

وهذا النموذج هو الذي تفتقده الأمة في هذا الزمان -إلا من رحم ربي-.

 

إن الأمة بحاجة إلى هذا النمط من العلماء والدعاة الذين لا يحتجبون عن الناس، رجال يربون أنفسهم نفسياً وشخصياً لتقبل مشاكل العامة، والبشاشة في وجوههم، والسؤال عن أحوالهم.

 

وهذا النمط من العلماء والدعاة هم القواد الحقيقيون للمجتمع؛ أخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ولي من أمور المسلمين شيئاً فاحتجب دون خلتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم، احتجب الله عنه يوم القيامة دون خلته وحاجته وفاقته وقفره".

 

وجميع الذين زاروا المراكز الإسلامية، والأكاديميات، والمساجد، في شتى بقاع الأرض ينقلون كلاماً واحداً وهو أنهم لا يفتون إلا بفتاوى الشيخ.

 

فالشيخ -رحمه الله- لم يؤت هذه المكانة من حب الناس له، وقبولهم لعلمه وكلامه وفتاواه من أجل منصبه أو أسرته، ولكن من إخلاصه وتقواه، ولا نزكي على الله أحداً.

 

وفي الصحيح: "أن الله إذا أحب عبداً قال لجبريل فنادى جبريل: نحب فلاناً فيحبه الناس، فينادي جبريل في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه ثم يوضع له القبول في الأرض".

 

أشمس الكون قد منيت بخسف *** أم البدر المنير علاه غيم؟!

أم الشيخ الجليل قضى لنحب *** فغُيب في الثرى علم وحلم؟!

وليس فراقنا للشيخ سهلاً *** ولكن الفنا للخلق حتم

فموت الشيخ نقصان ورزء *** يجل بنا وللإسلام ثلم

قضى العمر المبارك في دروس *** وحل للمشاكل إذ تهم

هو الشيخ المعلم والمربي *** عزيز النفس صمام وشهم

هو المفتي الموفق لا يجارى *** بصير بأنه بحر خضم

تلقاه الرحيم بفيض عفو *** وجنات بها النعمى تتم

 

أيها المسلمون: لقد ضرب الشيخ -رحمه الله- نموذجاً عجيباً في هذا العصر في باب الكرم، فهو بحق حاتم طائيّ هذا العصر.

 

فعطاؤه كان مستمراً للفقراء والمحتاجين، فمن عرف الشيخ علم أنه لا يرد طلباً، ولم يتعود أن يأكل طعامه لوحده، وإنما طعامه دائماً مع طلابه أو ضيوفه، وبيته لا يخلو من مسافر أو عابر سبيل.

 

وضرب الشيخ -رحمه الله- نموذجاً عجيباً أيضاً في الشجاعة، وهذا قلّ ما يتوفر في علماء هذا العصر، فله -رحمه الله- رسائل وخطابات ومكاتبات إلى معظم حكام الدول العربية، فقد كتب خطاباً إلى جمال عبد الناصر يوم أن أعدم الشيخ سيد قطب -رحمه الله- ومن معه من الدعاة خطاباً قوياً مشهوراً، ذكّره فيه بالله، وختم رسالته بقول الله -تعالى-: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93].

 

وكتب إلى رئيس الجزائر، ورئيس تونس، ورئيس اليمن، وغيرهم، يكتب مذكراً وناصحاً، وداعياً إلى تحكيم الكتاب والسنة، والرفق بالشعوب التي تحت أيديهم.

 

وليت ما كتب الشيخ من هذه الرسائل وغيرها تنشر على الناس.

 

أيها المسلمون: لقد خرج الشيخ -رحمه الله تعالى- من الدنيا وليس في يده شيء منها، والذي عرف الشيخ من قرب علم أنه أحياناً كانت تثقله الديون، لكثرة نفقاته وعطاياه وكرمه وجوده.

 

لقد عاش الشيخ قرابة التسعين سنة، لكنه لم يقض هذا العمر في رغد العيش، وفي جو من الراحة، ولو أراد ذلك لحصل له، لكنه -رحمه الله- قضاها في جوٍ من الجهاد والصبر، والاحتساب والمواجهة، فحياة الشيخ كلها كانت بين فتيا، أو كتابة شفاعة، أو تعليم، أو إصلاح بين الناس، أو اتصال أو مساعدة إنسان، أو وقوف مع محتاج.

 

وهذا -أيها الأحبة- والله هو العمر المبارك.

 

لقد ترك الشيخ فراغاً يحتاج إلى عشرات من العلماء -دون مبالغة- لسد هذا الفراغ.

 

نعم، لقد فقد العالم الإسلامي، وفقدت الأمة أهم شخصية في هذا الوقت، وكأني أرى باب الفتوى قد انكسر بوفاة الشيخ، فالذي كان لا يتجرأ على الفتوى في حياة الإمام ممن كان في قلبه مرض سيجد الباب الآن مفتوحاً على مصراعيه.

 

أيها الأحبة: لا شك عندنا أن الجميع متأثر بوفاة الشيخ، العامة والخاصة، الكبار والصغار، النساء والرجال، مع علمنا أيضاً أن هناك فئة فرحت بوفاة الشيخ، وهم: الشهوانيين من هذه الأمة، والحداثيين والعلمانيين، الذين كانوا ينتظرون مثل هذا اليوم، لعلمهم أن تأخر كثير من مخططاتهم إنما كان -بعد توفيق الله عز وجل- من جهود هذا الإمام، وفتاويه وكلامه الذي كان سداً منيعاً في وجوههم، وحائلاً دون الوصول إلى مراداتهم، فنقول لهؤلاء: لا تفرحوا كثيراً، فإن الشيخ -رحمه الله- قد ورّث طلاباً ودعاةً سيأخذون الراية من بعده، وسيلقمون -بإذن الله تعالى- حجراً بازياً في فم كل ناعق.

 

خطب ألم بنا والهول محتدم *** لله كم هاج فينا خطبك العرم

هذي الجزيرة بكت فقدان عالمها *** مفتي الديار الجليل الطاهر العلم

بكت به عالماً فذاً أخا ورعاً *** يزينه اثنان حسن الخلق والشيم

جزاك ربك فيما كنت تبذله *** في رفعة الدين فاهنأ أيها العلم

حققت للدين والإسلام عزته *** حتى زهت مكة بل هلل الحرم

لقد تركت فراغاً ليس يشغله *** سواك أو مخلص في الدين معتصم

سُدوا المكان الذي قد كان يملؤه *** أو فاتركوه وإلا مثله عدم

وجهتها لطريق الخير فاتجهت لك *** القلوب وحامت حولك الأمم

بعثت منها قلوباً من أماكنها *** فدبت الروح وانجابت بك الظلم

أرى الحجاز قريح العين ذا ألم *** دامي الفؤاد ونجداً مضها الألم

تمسي على مضض والحزن يغلبها *** في كل وجه عليه الحزن مرتسم

تركتها وهي حرى النفس قائلة *** أين المنابر والتشريع والقلم

ها نحن نبكيك من نفس ملذعة *** يبكي العفاف ويبكي العلم والكرم

إن غبت عنا فذكراكم بخاطرنا *** فلا تفارقنا الذكرى ولا الحكم

ومن يكن عاملاً للدين منهجه *** هدي الرسول فلا هم ولا سقم

نم هانئ البال مرتاح الضمير فقد *** حظيت بالخلد في الجنات والنعم

 

فنسأل الله -جل وتعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يتغمد شيخنا برحمته، وأن يسكنه فسيح جناته، وأن يرفع منزلته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد ...

 

أما بعد:

 

إن كل أمة لها رجالها وقادتها في الفكر والعلم، والسياسة والجهاد، والطب والإدارة، وغيرها من المجالات المختلفة.

 

وإنه لمن المسلمات عند التربويين: أن تنشئة الجيل على احترام هؤلاء الكبار وتقديرهم؛ أنها ضرورة تربوية لا بد منها، فبمن تقتدي الأجيال؟ وأي شخصية يمكن أن نقدمها لشباب الأمة ونربيهم على تقفي آثارها؟

 

إن تجاهل أجهزة الإعلام في الأمة لعلمائها، ورجال الفكر والدعوة والجهاد، أمر خطير ينبغي أن يكون منا نحن الآباء على بال، من جهة تعويض هذا النقص؛ لأن هذا الإغفال، يعني من جهة أخرى فسح المجال للثناء على رموز الحداثة، وأساطين التسول الفكري من العلمنة والعولمة وغيرهم، أو على أقل تقدير إبراز رموز الرياضة والفن والرقصات الشعبية، وجعلهم هم القدوات للجيل الناشئ؛ لأن فطرة الإنسان تستوجب أن يتمثل أمام ناظريه شخصاً تعتبره هو موضع الأسوة والقدوة.

 

ولهذا لما أنزل الله -جل وتعالى- هذا القرآن أنزله على قلب رجل من البشر تمثل هذا القرآن ليكون قدوة للناس في تطبيق تعاليمه، وهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولو كانت التوجيهات تكفي لوحدها لكفى أن ينزل القرآن لوحده ليعمل الناس به، لكن لعلم الله أن هذا يخالف فطرة الإنسان كان لا بد أن يتمثل القرآن نبياً من عند الله -تعالى-.

 

وهذا هو السر الذي لا يفهمه كثير من الناس، وهو لماذا بعض القرارات الإدارية والتعليمات لا تلقى قبولاً ولا تنفذاً؟

 

السبب هو أن مُصدر هذا القرار أو هذه التعليمات لا يطبقها هو، فكيف يريد من غيره أن يعمل بموجبها؟.

 

أعود فأقول: بأن الجيل إذا فقد القدوات الذين يستحق أن يقتدي بهم، فإنه يلتمس القدوة في الرياضي أو المغني الذي قد يكون منحرفاً في فكره أو خلقه أو دينه، ولكن أجهزة الإعلام نجحت في إبرازه كرمز، والجيل المستغفل انطلت عليه اللعبة، والأب ضعيف الإدراك لم ينتبه، ومن انتبه لم يبالِ في تعويض النقص الضروري.

 

ما بالكم -أيها الأحبة- إذا نشأ جيل وهو يرى ويسمع ليل نهار أن الأمة تتنكر لعظمائها ممن يستحقون أن يكونوا هم القدوات، وتتجاهل تاريخهم، هذا الرجل إما أن ينساق وراء هذا التصرف الخاطئ للأمة، فلا يحترم من يستحق الاحترام، أو أنه على أقل تقدير ينظر للوسط والمجتمع الذي يعيش فيه أنه مجتمع فاسد منهار.

 

لهذا -أيها الأحبة- فليس في مصلحة الأمة أن تهمل أو تهمش أمثال هذه الشخصيات فيها؛ لأن ذلك يعود عليها بالضرر لا محالة.

 

أيها المسلمون: لقد توفي ابن باز، وهذا هو مصير كل حي، وإن لهذا الإمام حق علينا جميعاً، وإن أقل واجب علينا تجاه هذا الإمام العلم الجبل: أن ندعو له، وأن ننشر الأصول والمبادئ التي كان يقول وينادي بها.

 

وإن أهم شيء امتازت به دعوة هذا الإمام وله الفضل الأكبر بعد الله -عز وجل- على هذه الصحوة المباركة، وعلى هذا الشباب الملتزم، هو: نبذ التقليد، والأخذ من المنبع الكتاب والسنة، قال الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

حدثني أحد المشايخ في المنطقة أنه اتصل على الشيخ بالهاتف يوم السبت قبل دخول الشيخ للمستشفى بيوم، يقول: فسألته بعض المسائل، يقول والشيخ يجيب ويفتي وهو حاضر الذهن حتى آخر لحظة، يقول: فسألته عن امرأة حجت وفعلت كل أعمال الحج، وبقي عليها السعي فقط فماتت، فهل يسعى عنها؟

 

فأجاب الشيخ بأنه نعم يسعى عنها، يقول: وقبل أن أسأله السؤال الثاني استدرك الشيخ، وقال: لكن لا بد أن يكون الساعي محرماً، فيذهب ويأتي بعمرة ويسعى عنها.

 

يقول: ثم زادني فائدة، وقال: ولا بأس أن يسعى عنها قبل أن يشرع في عمرته، وإن أراد أخر السعي بعد العمرة.

 

فتأمل أفتى الشيخ ثم استدرك ثم زاد فائدة على أصل السؤال.

 

قال فسألته السؤال الثاني: هل يجوز أن يقول شخص لرجل صالح: إن أعطاك الله الشفاعة يوم القيامة فإني أطلب منك أن تشفع لي؟

 

يقول ففكر الشيخ وتأمل في المسألة للحظات ثم قال: لا أرى بأساً بذلك.

 

خطب دهى القلب حتى استعبر القلم *** تكاد منه ظهور الخلق تنقصم

واستعجم النطق حتى ما كأن دمي *** دمي ولا أن هذا القلب فيه دم

غروب شمسك يا بن الباز أورثنا *** في القلب حسرةَ عمرٍ ملؤها الظلم

وشُلّ فكري حتى ما كأن به *** سوى محياك في الطهر والشيم

أبكيك والدمعة الحرىّ على كبدي *** يا لوعةً في فؤاد الابن تضطرم

نحن اليتامى فمن يأتي ليكفلنا *** من يمسح الرأس من يحنو ويبتسم

لقد فُطمنا ولم تُروى ضمائرنا *** من علمك الجمّ يا من طبعه الكرم

يبكيك من لذّ في أذنيه قولكم *** أماّ أولوا الفسق في آذانهم صمم

ويستضئ بعلمٍ منك أهل تقى *** أماّ أولوا الجهل في أبصارهم ظُلم

قد كنت يا والدي سداً لشرعتنا *** سرب الشياطين إن جاءته تصطدم

قد كنت طوداً عظيماً شامخ الهام *** طوبى لطودٍ ذراه العلم والشمم

أحيا بك الله أمواتاً نشاهدهم *** بين الأنام رموا الأكفان واغتنموا

علومكم بينهم حتى كأنهمُ *** من باطن الأرض والأجداث قد سلموا

قد كنت يا والدي نحو الألى سبقوا *** كأنهم أنت ما ضلوا وما كتموا

أفنيت عمرك يا بن الباز في شغل *** لراحة الناس حتى هدّك الهرم

وكنت تعطيهم جوداً وفيض سخى *** من راحتيك حياة الروح لو علموا

وكنت تبني صروحاً ليس تنهدم *** في حين غيرك للأخلاق قد هدموا

رحماك يا ربنا مما يراد بنا *** استأسد القوم فينا اليوم وانتقموا

مات ابن بازٍ فهل ماتت ضمائرنا *** من بعده أم إلى التوحيد نحتكم

يا والدي مِتّ في وقت تذوب به *** معالم الخير هذا الهمّ واليَتَم

ولا اعتراض على أقدار خالقنا *** سبحان ربي فمنه الحُكم والحِكم

لكن قلبي يبدو خائفاً وجلاً *** من حادثات بها لا ينفع الندم

ما بالنا أصبحت تترى مصائبنا *** ونحن أغفل ما كنّا ونبتسم

وتنقص الأرض من أطرافها أمم *** ماتوا فأنى لهذا الجرح يلتئم

هم أنجمٌ مذ فقدنا ضوءها شمتت *** بنا الأعادي وشقّت ثوبها القيم

للسائرين هدى كانت تؤانسهم *** والركب تسمو بهم في دربهم همم

وللشياطين من جن ومن بشر *** كانت رجوماً كأن الشهب تنتقم

يا رب أنت الإله الحق راحمنا *** اربط على قلب من يعدو به الألم

وارحم إمام الهدى بن الباز عبدكم *** يا من تقدست منك الخير والكرم

 

أيها المسلمون: لعلي أختم بمسألة مهمة كثر النقاش حولها، وهذا أوانها، وهي: مسألة صلاة الغائب.

 

هذه المسألة -أيها الأحبة- كبقية المسائل التي اختلف فيها أقوال أهل العلم بين قائل بجوازها، ومانع لها، ومخصص لها لمن له شأن في الإسلام، ونحوهم.

 

والقول الذي أرتضيه ديناً، هو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وغيره من المحققين من أهل العلم: أن صلاة الغائب لا تشرع، إلا لرجل مسلم مات ثم دفن ولم يصل عليه، فيصلى على هذه الحالة فقط صلاة الغائب، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي؛ لأنه مات بأرض الحبشة، والحبشة في وقته كانوا نصارى فدفنوه ولم يصل عليه، فصلى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة صلاة الغائب، وهذه هي المرة الوحيدة التي ثبت فيها صلاة الغائب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

والذي يرجح هذا القول هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم - نفسه عندما مات صلى الله عليه وسلم صلى عليه الصحابة الذين كانوا في المدينة فقط، ولم يصل أهل مكة أو الطائف أو غيرها من المدن والقرى على النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاة الغائب، ولو صلوا لنقل إلينا، ولا يوجد هناك أحب إليهم منه عليه الصلاة والسلام.

 

وأيضاً عندما توفي أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- صلي عليه في المدينة فقط، ولم تؤمر بقية المناطق والقرى والهجر أن يصلوا على خليفة المسلمين.

 

وقل نفس الكلام عندما توفي عمر وعثمان وعلي، وغيرهم من علماء، وحكام المسلمين.

 

فالقول الراجح -والله أعلم- هو عدم مشروعية صلاة الغائب لمن صلي عليه.

 

ثم إن هناك ملحظ آخر فيما يتعلق بصلاة الغائب على سماحة الوالد، وهو: أنه لم يصل عليه حاضراً إلى الآن فكيف نصلي نحن عليه غائباً؟

 

فسيصلى عليه رحمه الله اليوم بعد صلاة الجمعة في مكة المكرمة، ونحن هنا في المنطقة الشرقية متقدمون في الوقت -كما تعلمون- فننتهي من الصلاة وما يزال خطيب الحرم على المنبر، فالشيخ ما يزال في كفنه، ولم يصل عليه حاضراً، فلا يسوغ أن نصلي نحن عليه غائباً!.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة …

 

اللهم ارحم إمامنا، ووسع له في قبره، واسكنه فسيح جناتك، اللهم جازه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.            

 

 

 

المرفقات

الشيخ ابن باز (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات