وعاد الإفك من جديد

بلال بن إبراهيم الفارس

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ ابتلاء النبي -عليه السلام- في زوجه 2/ اعتداء الرافضة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها 3/ وقائع حادثة الإفك 4/ من مناقب أم المؤمنين عائشة

اقتباس

إن زمانًا أقلَّنا، وإعلامًا أظلَّنا، أسمعنا عجبًا، حتى ضاق المسلمون بذلك أدبًا، أوَتقذف الصديقة بنت الصديق مرة أخرى على لسان رافضي أثيم أفاك زنيم من أحفاد المجوس، رضيع لعن الصحابة، وخدين تحريف القرآن، يدَّعي حب آل البيت ثم يرمي زوج النبي بالزنا؟! (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) [الكهف: 5].

 

 

 

 

الحمد لله الحليم، العزيز الكريم، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم أحمده وأشكره وأثني عليه وأستغفره، مصليًا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. 

أما بعد:

فيا أيها المسلمون، يا من أكملتم عدة رمضان: أوصِيكم ونفسي بتقوى الله -عزّ وجلّ-، فاتقوا الله جميعًا، وقابِلوا إحسانَ ربكم بدوام حمده وشكره، وأحسنوا لأنفسكم بصالح العمل، ولا تظلموها بالمعاصي فتزل: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].

أيّها المسلمون: في العصور الماضيةِ والأحقاب السّالفة عاش كثيرٌ من العظماء ورجالات التاريخ والديانات، نقلتِ الأنباءُ أخبارَهم، ودوّنت الكتب أوصافهم، غيرَ أنه لا يوجد أحدٌ من هؤلاء العظماء من نُقلت أخباره وحُفظت سيرته كما كان لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كانت سيرته دليل صدقه وبرهان نبوته، ولو لم يكن سواها لكفت.

محمد بن عبد الله أطهر رجل وأجل إنسان، الأطهر في دينه ودنياه، الأطيب في عرضه وأهله، الأعظم في صحبه وآله، ولأن سنة الله في أوليائه الابتلاء فلقد ابتلي النبي فصبر، وكان من أشد البلاء رَمْيُ زوجه عائشة الصديقة بنت الصديق وقَذْفِها بالمنكر في حياته الشريفة، رُميت مليكةُ الطهر، وفقيهة الأمة، وهيهات أن يحجب نور الشمس بغربال منافق، أو كف حاقد:

حصان رزان ما تزن بريبـة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينًا ومنصبًا *** نبي الهدى والمكرمات الفواضل
مهذبة قد طيب الله خيمهـا *** وطهرها من كل سوء وباطل

إن زمانًا أقلَّنا، وإعلامًا أظلَّنا، أسمعنا عجبًا، حتى ضاق المسلمون بذلك أدبًا، أوَ تُقذف الصديقة بنت الصديق مرة أخرى على لسان رافضي أثيم أفاك زنيم من أحفاد المجوس، رضيع لعن الصحابة، وخدين تحريف القرآن، يدَّعي حب آل البيت ثم يرمي زوج النبي بالزنا؟! (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) [الكهف: 5].

إن المنافقين الأُوَل قذفوا ولا قرآن في عائشة يتلى، ولما نزل القرآن كفوا، أما رافضة هذا الزمان فحالهم أشنع، وصنيعهم أفظع، فلم يجِلُّوا عرض النبي، ولم يصدقوا بالوحي، بل تمارى غلاتهم في القذف وتحريف كلام الله، وهل يجمع هاتين الخلتين مسلم؟! سبحانك ربنا: (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].

أي إخواني: لنعد إلى الوراء حيث قذفت عائشة لتعلموا أن سَنَنَ المنافقين واحد ومنتظم، روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير -رضي الله عنه وعن أبويه- عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي قالت: كان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله بعدما نَزَلَ الحجابُ، فكنت أُحْمَلُ في هَوْدَجِي وأُنْزَلُ فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودَنَوْنَا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عِقْدٌ لي من جَزَع ظَفَارٍ قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه.

قالت: وأقبل الرَّهْطُ الذين كانوا يرحلُون لي، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إِذْ ذاك خِفَافًا لم يهبلْنَ ولم يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إنما يأكلن العُلْقَةَ من الطعام، فلم يستنكرِ القومُ خِفَّةَ الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيبٌ، فتيمَّمْتُ منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمتُ، وكان صفوان بن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثم الذكوانِيُّ من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان قد رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فَخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي، وَوَاللهِ ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وَهَوَى حتى أَنَاخَ راحلته، فَوَطِئَ على يَدَيْهَا، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش مُوغِرِينَ في نحر الظهيرة وهم نزول. قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أُبِيِّ بن سَلُولٍ.

قالت عائشة -رضي الله عنها-: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يُفِيضُون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ رسول الله فَيُسَلِّمُ، ثم يقول: "كَيْفَ تِيكُمْ؟!"، ثم ينصرف، فذاك الذي يَرِيبُنِي ولا أشعر بالشَّرِّ حتى خرجتُ بعدما نَقهْتُ، فخرجتْ معي أمُّ مِسْطَح قِبَلَ المنَاصِع، وهو مُتَبَرَّزُنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، فانطلقت أنا وأم مسطح وأمها خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أُثَاثَة، فأقبلت أنا وأم مسطح قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مِرْطِهَا، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قُلْتِ! أَتَسُبِّينَ رجلاً شهد بدرًا؟! فقالت: أَيْ هَنْتَاه، أَوَلَمْ تسمعي ما قال؟! قالت: وقلت: وما قال؟! فأخبرتني بقول أهل الإفك.

قالت: فَازْدَدْتُ مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليَّ رسول الله فَسَلّمَ ثم قال: "كيف تيكم؟!"، فقلت له: أتأذن لي أن آتِيَ أَبَوَيَّ؟! قالت: وأنا حينئذٍ أريد أنْ أَسْتَيْقِنَ الخبرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، قالت: فأذن لي رسول الله، فجئت أبويَّ فقلت لأمي: يا أمَّتَاه: ما يتحدث الناس؟! قالت: يا بُنَيَّة، هوِّني عليك، فوالله لَقَلَّمَا كانت امرأةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟! قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يَرْقَأُ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي، فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- حين اسْتَلْبَثَ الوحيُ يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الْوُدِّ، فقال: يا رسول الله: هم أَهْلُكَ، ولا نعلم إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله: لم يُضَيِّقِ الله عليك، والنساء سواها كثير، وإنْ تَسْأَلِ الجاريةَ تَصْدُقْكَ، قالت: فدعا رسول الله بَرِيرَةَ فقال: "أَيْ بريرة: هل رأيت من شيء يَرِيبُكِ؟!"، قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إِنْ رأيت عليها أمرًا قط أغمصه عليها أكثرَ من أنها جاريةٌ حديثةُ السِّنِّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ.

قالت: فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول، إلى أن قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: فأصبح أَبَوَايَ عندي وقد بكيت ليلتين ويومًا لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع، وأبوايَ يَظُنَّانِ أن البكاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار فأذنتُ لها، فجلستْ تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله حين جلس، ثم قال: "أما بعد: يا عائشة: فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه"، قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قَلَصَ دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله عني فيما قال، فقال أبي: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله فيما قال، قالت أمي: والله، ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت -وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن-: إني والله لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرَّ في أنفسكم وصَدَّقْتُمْ به، فلئن قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر -والله يعلم أني منه بريئة- لَتُصَدِّقُنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18].

قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، وأنا أعلم حينئذٍ أني بريئة، وأن الله مُبَرِّئِي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله مُنْزِلٌ في شأني وَحْيًا يتلى، وَلَشَأْنِي في نفسي كان أَحْقَرَ من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتْلَى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللهُ بِهَا، قالت: فوالله، ما رَامَ رسولُ الله مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنْزِلَ عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاءِ، حتى إنه لَيَتَحَدَّرُ منه مثلُ الْجُمَانِ من العَرَقِ، وهو في يومٍ شاتٍ؛ من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فَسُرِّيَ عن رسول الله وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: "يا عائشةُ: أما اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فقد بَرَّأَكِ"، قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله -عز وجل-، فأنزل الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور: 11-19].

قالت : فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله، لا أُنْفِقُ على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: (وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22]، قال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فَرَجَعَ إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.

قالت عائشة: وكان رسول الله يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: "يا زينب: ماذا عَلِمْتِ أَوْ رَأَيْتِ؟!"، فقالت: يا رسول الله: أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تُسَامِينِي من أزواج رسول الله، فعصمها الله بالورع، وطَفِقَتْ أختُها حَمْنَةُ تحارب لها، فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك. رواه البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى-.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها، فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان".

وصدق من قال على لسانها:

وتَكلم اللهُ العظيمُ بحُجَّتـي *** وبَرَاءَتِي في مُحكمِ القُـرآنِ
واللهُ وبَّخَ منْ أراد تَنقُّصي *** إفْكًا وسَبَّحَ نفسـهُ في شانـي
واللهُ في القُرْآنِ قَدْ لَعَنَ الذي *** بَعْدَ البَرَاءَةِ بِالقَبِيحِ رَمَانِـي
إنِّي لَمُحْصَنَةُ الإزارِ بَرِيئَةٌ *** ودَلِيلُ حُسْنِ طَهَارَتِي إحْصَانِي
واللهُ أَحْصَنَنِي بخاتَمِ رُسْلِهِ *** وأَذَلَّ أَهْلَ الإفكِ والبُهتَـانِ
إنِّي لَطَيِّبةٌ خُلِقْتُ لِطَيبٍ *** ونِسَاءُ أَحْمَدَ أَطْيَبُ النِّسْـوَانِ

تلك الصديقة بنت الصديق، المبرأة من فوق سبع سماوات، تلك أمنا الطاهرة العفيفة، الحصان الرزان، فالسلام على عائشة ورحمة الله وبركاته، السلام على عائشة يوم ولدت، والسلام عليها يوم ماتت، والسلام عليها يوم تبعث يوم الجزاء.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

عباد الله: تلك أمكم، بحر زاخر، وطود باهر، إذا تكلم أحد عن العبادة فلها النصيب الأوفى، قال القاسم بن محمد بن أبي بكر -رضي الله عنهم-: "كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة أسلم عليها، فغدوت يومًا فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [الطور: 27]، وتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت، فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي".

تلك أمكم، لم يتزوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكرًا غيرها، وهذا باتفاق أهل النقل، تلك أمكم المباركة، نزلت رخصة التيمم بسبب عقدها حين حَبَسَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس، وقال أُسَيْد بن حضير: "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر". والقصة أخرجها البخاري في صحيحه.

تلك أمكم؛ في البخاري "أن جبريل أتى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام في سَرَقة -أي قطعة- من حرير فقال: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهكِ الثوبَ فإذا هي أنتِ، فقلتُ: إن يكُ هذا من عندِ الله يمضهِ.

تلك أمكم، كانت أحب أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه؛ قال له عمرو بن العاص: يا رسول الله: أي الناس أحب إليك؟! قال: "عائشة"، فقلت: مِن الرجال؟! قال: أبوها، قلت: ثم من؟! قال: "عمر بن الخطاب"، فعدَّ رجالاً. أخرجه البخاري.

تلك أمكم التي اختار -صلى الله عليه وسلم- أن يمرَّض في بيتها. أخرجه البخاري. قال أبو الوفاء بن عقيل -رحمه الله-: "انظر كيف اختار لمرضه بيت البنت واختار لموضعه من الصلاة الأب". فما هذه الغفلة المستحوذة على قلوب الرافضة عن هذا الفضل والمنزلة التي لا تكاد تخفى عن البهيم فضلاً عن الناطق.

تلك أمكم، توفي -صلى الله عليه وسلم- في يومها، وبين سحْرِها ونحرها، ودفن في بيتها.

تلك أمكم، اجتمع ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وريقها في آخر أنفاسه، وذلك حين طيبت له سواكه. أخرجه البخاري.

تلك الصديقة بنت الصديق أكثره النساء علمًا؛ قال الزهري: "لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل". بل إن الأكابر من الصحابة كان إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، فيجدون علمه عندها. قال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: "ما أشكل علينا -أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا". أخرجه الترمذي وصححه الألباني.

ولقد أجلّ الصحب الكرام عائشة أيما إجلال لمكانها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد جاء أن عمر فضَّلها في العطاء على بقية أزواج النبي -عليه السلام-، كما أخرجه الحاكم في مستدركه أن عمر فرض لأمهات المؤمنين عشرة آلاف وزاد عائشة ألفين، وقال: "إنها حبيبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

تلك الصديقة بنت الصديق، حبها إيمان، وبغضها منكر وزور، وقذفها كفر صراح بإجماع المسلمين.

تلك الصديقة بنت الصديق، وهذا خبر الإفك الأول، وها هو الإفك يولد من جديد، فاللهم عليك بمن تولى كبره، اللهم عليك بمن تولى كبره، اللهم عليك بمن تولى كبره، يا أبناء عائشة: أحيوا سنة أمكم، وأعلوا ذكرها، وانتصروا لنبيكم في كل ناحية، واحفظوا عرضه في كل ميدان، حتى توافونه على الحوض. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد...
 

 

 

  

المرفقات

الإفك من جديد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات