وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته

حسين بن عبدالعزيز آل الشيخ

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ سوء أحوال الأمة وضعفها 2/ أهمية العودة إلى السيرة النبوية وتدارسها 3/ الحلول الحقيقية لمُشكلات الأمة وأزماتها 4/ وصيَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباسٍ - رضي الله عنهما - بحفظ الله 5/ كيفية حفظ الله تعالى 6/ أهمية اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.

اقتباس

إن الأمة على مُستوى آحادها ومُجتمعاتها، وبمُختلف مسؤولياتها وتنوُّع مكانتها، متى حفِظَت دينَ الله فحقَّقَت الإيمانَ الصادقَ به، واستسلمَت لأمره بصدقٍ وإخلاصٍ في كل شأنٍ، وتخلَّصَت من أهواء النفوس وشهوات القلوب، وكانت أحوالُها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرُها على مُقتضى منهج الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. متى جعلَت الإسلام الصافي منهجًا كاملاً لحياتها في كل أطوارها ومراحلها، وفي جميع علاقاتها وارتباطاتها، وفي كل حركاتها وسكَناتها، حينئذٍ فقط يتحقَّقُ لها حفظُ الله من كل المكارِه والمشاقِّ والأزمات والمِحَن التي تُعاني منها وستُعاني.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حافظ المُتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفى الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه أجمعين.

 

أما بعد، فيا أيها المسلمون:

أُوصِيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -، وطاعته في السرِّ والنجوى؛ فإن طاعتَه هي الفلاح، وتقواه هو الفوز.

 

أيها المسلمون:

في خِضمِّ ما تمرُّ به أمَّتُنا من المُشكلات المُتعدِّدة، من سياسيةٍ واجتماعيةٍ وأمنيةٍ وغيرها، فإن العُقلاء يتطلَّعون لرؤيةٍ مُستقبليَّةٍ تُنقِذُ الأمةَ مما هي فيه.

 

وقد أدلَى المُثقَّفون برؤيتهم، والساسةُ بحلولهم، والمُفكِّرون بنظراتهم. تعدَّدت عندهم التحليلاتُ للأسباب، وتنوَّعت النظراتُ للمخارِج والحلول، وكثُرت المُؤتمرات والاجتماعات، ولكن لا جدوَى ولا نفعَ من ذلك.

 

وقد آنَ الأوان للأمة جمعاء - شعوبًا وأفرادًا، حُكّامًا ومحكومين - أن يتبصَّروا الحقيقة وأن يستجْلُوا الحلول الناجحة من مُنطلقات ثوابت دينهم، ومُرتكزات أصولهم، فإن الأمةَ اليوم لن تجِد الحلول الناجحة لأدوائِها، والمخارِج لأزماتها ومُشكلاتها إلا من فهمٍ صحيحٍ من كتاب الله - جل وعلا -، واستِلهامٍ من سُنَّة نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.

 

إخوة الإسلام:

اسمعوا واعقِلوا وصيَّةً عظيمةً صدرَت من مُعلِّم البشرية وسيِّد الخليقة نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهو يُوجِّهُ للأمة وثيقةً خالدةً، تصلُح بها حياتُها وأُخراها، وتُفلِح بها في كل عصرٍ وحين. وثيقةٌ يجبُ أن تكون نُصبَ أعيننا اليوم، وأن يكون تطبيقُها حاكم تصرُّفاتنا، ومُوجِّه إراداتنا، ومُصحِّح حركاتنا وتوجُّهاتنا.

 

وصيَّةٌ تصدُرُ ممن لا ينطِقُ عن الهوى، لا تنظُر لتغليب مصلحةٍ قومية، ولا تنطلِقُ من نزعةٍ عِرقية، أو نظرةٍ آنيَّة. وثيقةٌ صدرَت ممن لا ينطِقُ عن الهوى، ولا يصدُر إلا عن وحيٍ يُوحَى. وصيَّةٌ نورانيَّةٌ تنهضُ بالأمة الإسلامية اليوم إلى الحياة المُزدهِرة المُثمِرة بالخير والعزِّ والصلاح والقوة.

 

إنها وصيَّةٌ مُستلهَمةٌ من قوله - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24]، إن الأمة اليوم في سُباتٍ تحتاجُ معه إلى إحياءٍ شاملٍ، للأفراد والجماعات والنفوس والمُقدَّرات.

 

حياةٌ تُبنى على قوة الإيمان بالله - جل وعلا - التي لا غِنى عنها في مُواجهة الأزمات؛ لتصِل بنا إلى صلاحٍ كاملٍ بأشمل معانيه وأدقِّ صُوره، بما يجمعُ للأمة تحقيقَ السعادة، ومُعايشَة الأمن والسلام والخير والازدهار والرُّقيِّ في جميع مجالات الحياة.

 

أيها المسلمون:

إن العزَّ في تحقيق هذه الوصيَّة مضمونٌ، والمجدَ في الدارَين بتنفيذ بنودها مرهُون. كيف لا؟ وقد قال الله - جل وعلا -:(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء: 10]، (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الأعراف: 35].

 

إنها وصيةٌ - أيها المسلمون - الأفرادُ بدون تحقيقها في ضياع، والمُجتمعات في البُعد عن مضامينها إلى شتاتٍ ودمار، والحُكَّام بدون تحقيقها وتحكيمها إلى عاقبةٍ وخيمةٍ ونهايةٍ مأساوية.

 

وثيقةٌ تصدُر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تربط المُسلمين بالأصالة مع اتصالهم بالعصر الذي يعيشُون فيه. وثيقةٌ ووصيةٌ تحقيقُها هو الضامنُ الأوحد للتحديات التي تُواجه الأمة الإسلامية، وتستهدِفُ قيمَها ومُقدَّراتها وخصائصها.

 

قال عُمر الفاروق - رضي الله عنه -: "إنما سبقتُم الناسَ بنصرة هذا الدين".

ولنستمع - يا رعاكم الله - إلى تلك الوصيَّة العظيمة، والوثيقة الخالِدة سماعَ استِجابةٍ وتحقيقٍ، واستماع امتِثالٍ وانقِياد، لعلَّ الله أن يرحمَنا وأن يُصلِح أوضاعَنا.

 

قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: كنتُ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال لي: «يا غُلام! إني أُعلِّمُك كلماتٍ: احفَظ الله يحفَظك، احفَظ الله تجِده تُجاهَك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلَم أن الأمةَ لو اجتمعَت على أن ينفعوك بشيءٍ لن ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيءٍ لن يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك، رُفِعت الأقلامُ، وجفَّت الصُّحُف»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيح".

 

وفي رواية غيره: «احفَظ الله تجِده أمامك، تعرَّف على الله في الرخاء يعرِفك في الشدَّة، واعلَم أن ما أخطأك لم يكُن ليُصيبَك، وأن ما أصابَك لم يكُن ليُخطِئَك، واعلَم أن النصر مع الصبر، وأن الفرَجَ مع الكرب، وأن مع العُسر يُسرًا».

 

قال أهلُ العلم: "هذا الحديثُ يتضمَّنُ وصايا عظيمة، وقواعد من أهم أمور الدين".

حتى قال بعضُهم: تدبَّرتُ هذا الحديث، فأدهشَني وكِدتُّ أن أطيش. فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلَّة التفهُّم لمعناه.

كيف وبحالنا اليوم كثيرٌ لا يتفهَّمون حروفَه، ولا يعقِلون معناه، ولا يمتثِلون بأمره.

 

أيها المسلمون:

حفظُ الله المُراد في هذا الحديث: هو حفظُ حدوده، والالتِزامُ بحقوقه، والوقوف عند أوامره بالامتِثال، وعند مناهيه بالاجتِناب، (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق: 32، 33].

حفظٌ يُوجبُ على الإنسان أن يحفَظ الرأسَ وما وعَى، والبطنَ وما حوَى.

 

أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - مرفوعًا: «الاستحياءُ من الله حقَّ الحياء: أن تحفظَ الرأسَ وما وعَى، والبطنَ وما حوَى».

 

حفظٌ يمنعُ الجوارِح من الزَّلَل، والحواسَّ عن الخلَل. قال - صلى الله عليه وسلم -: «من يضمنُ لي ما بين لَحيَيه وما بين رِجلَيه، أضمنُ له الجنة»؛ رواه البخاري.

 

حفظٌ يُوجبُ على الأمة أن تضبط شهواتها أن تميلَ بها إلى الضلال، أو أن تجنَحَ بهم عن مبادئ القِيَم وكريم الخِلال، (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 35].

 

معاشر المسلمين:

من قواعد الدين: أن الجزاءَ من جنسِ العمل؛ فمن حقَّق حفظَ الله بالمعنى المُتقدِّم تحقَّق له حفظُ الله - جل وعلا -، ورعايتُه وعنايتُه، ونصرُه وتمكينُه، حفظًا يشملُ دينَه ودُنياه، ويُحقِّقُ له المصالِح بأنواعها، ويدفعُ عنه الأضرار بشتَّى أشكالها.

 

قال أهلُ العلم: "وحفظُ الله للعبد يدخلُ فيه نوعان من الحفظ:

أحدهما: حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه، بحفظه من الشُّبهات المُضلَّة، ومن الشهوات المُحرَّمة، بالحيلولة بينه وبين ما يُفسِدُ عليه دينَه، (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].

 

النوع الثاني: حفظٌ للعبد في مصالح دُنياه؛ كحفظِه في بدنه وولده وأهله وماله".

قال - جل وعلا -: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد: 11].

قال ابن عباسٍ: "أي: ملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء قدرُ الله تخلَّوا عنه".

 

قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: "ومن عجيب حفظِ الله بمن حفِظَه: أن يجعل الحيوانات المُؤذِية بالطبع حافظًا له من الأذى، كما جرى لسفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حينما كُسِر به المركبُ وخرجَ إلى جزيرةٍ فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دلَّه على الطريق".

 

وقد أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك المعنى في هذه الوصيَّة بقوله: «احفَظ الله تجِده تُجاهك».

 

فمن حفِظ حدودَ الله، ورعَى حقوقه أحاطَه الله بحفظِه من حيث لا يحتسِب، ومنَّ عليه بتوفيقه وتسديده، وعادَ عليه بتأييده وإعانته،(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل: 128].

 

فوالله! لو أن الأمة حفِظَت حدودَ الله كما ينبغي، وكما أمر به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لجعل الله لها من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا.

 

قال قتادةُ: "من يتَّق الله يكُن الله معه، ومن يكُن الله معه فمعه الفئةُ التي لا تُغلب، والحارسُ الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضلُّ".

 

وكتبَ بعضُ السلف إلى أخٍ له: "أما بعد: فإن كان الله معك فمن تخاف؟! وإن كان عليك فمن ترجُو؟!".

فعسى الله - جل وعلا - أن يُلهِم المُسلمين أن يكون هذا لسانُ مقالهم، ولسانُ حالهم.

 

إخوة الإسلام:

ومن مضامين هذا النوع: أن الله يحفظُ ذريَّة العبد الصالح بعد موته، كما قال الله - جل وعلا -: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف: 82]، قيل: إنهما حُفِظَا بصلاح أبيهما. كما قال الله - جل وعلا -:(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [النساء: 9].

 

ومن حفِظ الله في صِباه وقوَّته، حفِظَه الله في حال كِبَره وضعف قوَّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوَّته.

جاوزَ بعضُ السلف مائةَ سنة، وهو مُمتَّعٌ بقوَّته وعقله، فوثبَ يومًا وثبةً شديدةً، فقيل له، فقال: "هذه جوارِح حفِظناها من المعاصِي في الصِّغَر، فحفِظَها الله علينا في الكِبَر".

 

معاشر المسلمين:

إن الأمة على مُستوى آحادها ومُجتمعاتها، وبمُختلف مسؤولياتها وتنوُّع مكانتها، متى حفِظَت دينَ الله فحقَّقَت الإيمانَ الصادقَ به، واستسلمَت لأمره بصدقٍ وإخلاصٍ في كل شأنٍ، وتخلَّصَت من أهواء النفوس وشهوات القلوب، وكانت أحوالُها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرُها على مُقتضى منهج الله وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

 

متى جعلَت الإسلام الصافي منهجًا كاملاً لحياتها في كل أطوارها ومراحلها، وفي جميع علاقاتها وارتباطاتها، وفي كل حركاتها وسكَناتها، حينئذٍ فقط يتحقَّقُ لها حفظُ الله من كل المكارِه والمشاقِّ والأزمات والمِحَن التي تُعاني منها وستُعاني.

 

ويحصُلُ لها عندئذٍ الأمنُ والاستقرار والعزَّة والانتصار، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].

 

إن الأمة متى صدقَت في الإيمان بالله - جل وعلا -، والاهتِداء برسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكان ذلك هو المُحرِّكُ والقائدُ مهما ضُحِّيَت بمصالح الدنيا، متى كان ذلك قائدًا لحياتها، وسيدًا لتوجُّهاتها وتحرُّكاتها - كما كانت الأمة سابقًا - حصل لها الأمنُ بكل مُقوِّماته، وشتَّى صوره؛ الأمنُ من الأعداء والمخاطر، الأمنُ من المخاوف والأضرار.

 

متى قام المُسلمون جميعًا بحقائق دينهم ومبادئ إسلامهم، وجانَبُوا الأهواء والشهوات المُحرَّمة المُتنوِّعة، وعملوا بصدقٍ للإسلام، مع الأخذ بالأسباب وإعداد العُدَّة، والأخذ بالوسائل التي أمرَ الله بها، عندئذٍ يُمكِّنُهم الله - جل وعلا - من الأرض، ويُقوِّي شوكتَهم، ويُعزُّ كلمتَهم، ويُرهِبُ بهم أعداءَهم، ويعمُّ لهم الخير والعدل والسلام، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون: 8].

 

إن الأمةَ الإسلامية متى وقع بها البلاءُ وقاسَت الابتلاء، وخافَت فطلبَت الأمن، وذلَّت فطلبَت العزَّة، وتخلَّفَت فطلبَت الاستخلاف والاستقرار، كما هو حالُ أمتنا اليوم؛ فلن تجِد لذلك سبيلاً طريقًا، ولن يتحقَّق لها شيءٌ مما تبتغي حتى تقوم بشرط الله - جل وعلا -، من القيامِ بطاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والرِّضا التامِ بشريعةِ الإسلام، وتحقيقِ النهجِ المُرتضَى.

 

فحينئذٍ فقط يرتفعُ عنها الفسادُ والانحِدار، ويزولُ منها الخوفُ والقلقُ والاضطرابُ، ولن تقِفَ إذًا في طريقِها قوةٌ من قُوَى الأرض جميعًا، وإلا فستزيدُ مُعاناتُها، ويرتفعُ شقاؤُها، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه: 123، 124].

 

وما من أمةٍ مُسلمةٍ عبر التأريخ تخلَّف عنها هذا النهج إلا تخلَّفَت في ذيل القافلة، واستبدَّ فيها الخوف، وتخطَّفها الأعداءُ من كل جانب، كما قال الله - جل وعلا -: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].

 

وكما ثبتَ عن المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تبايعتُم بالعِينة، وأخذتُم أذنبَ البقر، ورضيتُم بالزرع، وتركتُم الجهادَ؛ سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دينكم».

 

أمة الإسلام في كل مكان:

وعد الله قائِمٌ مهما اختلَفَت العصور، وتغيَّرَت الأحوال، متى قامَ الشرطُ المذكور. فمن شاءَ تحقُّق الوعد فليقُم بالشرط، (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [التوبة: 111].

 

ولهذا لما سارَ سلفُ هذه الأمة من الصحابة ومن بعدهم على هذا المنهج، ثقةً بالله، واعتمادًا عليه، وقوةَ إيمانٍ به، مع ثباتٍ في العزيمة، وصبرٍ على الشدائد، وتأسٍّ كاملٍ بخير أُسوةٍ رسولِنا - صلى الله عليه وسلم -، مع جهادٍ واجتهادٍ وعملٍ خيِّر مُتواصل لا ينقطِع، حينئذٍ أقامَ الله بهم شوامِخ صرح هذا الدين، وقامَت بهم دولةُ الإسلام القويةُ في أصقاع الأرض، عدلاً وصلاحًا وخيرًا.

 

ذلكم أنهم وزنوا الدنيا في واقعها بميزانها الحقيقي، فلم يركَنوا إليها كما ركنَّا إليها، عرفوا حقارتَها، وسرعة زوالها، فلم يخدَعوا أنفسهم بها كما خدعنا أنفسنا اليوم بنا؛ بل عرفوا الآخرة وقدرها حقَّ قدرها، وجعلوها نصبَ أعينهم، فلخلودها يعملون، وعليها يحرِصون، فهانَت عليهم الصِّعابُ من أجلها. أما نحن فهانَت علينا الصِّعابُ من أجل الدنيا، وتركَ كثيرٌ منا العمل الحقيقي للآخرة.

 

ذكرَ ابن كثيرٍ - رحمه الله - في أحداثِ سنةِ ثلاثٍ وستين وأربعمائةٍ من الهجرة، قال: "أقبل ملكُ الرومِ في جحافلَ لا تُحصَى كأمثال الجبال، وعُددٍ عظيمةٍ، وجمْعٍ هائِلٍ، ومن عزمِه أن يجْتَثَّ الإسلامَ وأهلَه، فالتقَى به سلطانُ المسلمين في جيشٍ وهُم قريبٌ من عشرين ألفًا، وخافَ من كثرةِ المشركين.

 

فأشار عليه الفقيهُ أبو نصرٍ محمدُ بن عبد الملك البخاري بأن يجعلَ وقتَ الواقعةِ يوم الجمعة بعد الزوال، حين يكونُ الخطباءُ يدعُون للمُجاهدين.

 

فلما تواجَهَت الفئتان، نزلَ سُلطانُ المُسلمين عن فرسِه، وسجدَ لله - جل وعلا -، ودعا اللهَ تعالى واستنصَرَه، فأنزلَ الله نصرَه على المُسلمين، ومنحَهم أكتافَ المُشركين، وكان نصرًا مُؤزَّرًا مجيدًا".

الحالُ اليوم تحتاجُ إلى مُراجعةٍ وتصحيحٍ صادقٍ.

 

معاشر المسلمين:

كيف يتحقَّقُ الوعدُ بالحفظ لقومٍ أعرضوا عن تحقيق الوحيين، وهرعُوا إلى القوانين الوضعية، والدساتير البشرية، كما هو حالُ الأمة منذ أكثر من قرنٍ؟! ولا يزالُ كثير من بُلدانهم على تلك الحال.

 

كيف يتمُّ النصرُ والعزُّ والصلاحُ لقومٍ كثُر فيهم التوجُّه إلى غير الله - جل وعلا -، كما هو الحالُ عند بعض الأضرحة في مواطن لا تخفَى من بلاد المُسلمين؟!

 

كيف يُفلِحُ قومٌ قام منهجُهم الاقتصاديُّ على الرِّبا المُحرَّم والتعامُلات التي تُخالفُ كتابَ الله وسُنَة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، اقتداءً بالشرق أو الغرب؟!

 

كيف تنجُو أمةٌ قد فشَت فيها كثيرٌ من القبائِح والمُنكرات، كما هو الحالُ في بعض بُلدان المُسلمين اليوم؟!

 

كيف يعلُو قومٌ انتشرَت فيهم الرِّشوةُ والمحسوبية، وغزاهم في تعامُلاتهم الكذبُ والفجورُ والغشُّ والخداعُ، وغابَ عنهم في كثيرٍ من التعامُلات الصدقُ، وغابَت الأمانة بكل مُقوِّماتها وأشكالها؟!

 

كيف تصلُح أحوالُ كثيرٍ من المُسلمين، وقد فُقد عند بعض أبنائِها لواءُ الحب في الله - جل وعلا -، والبُغض فيه، وأصبحَت الدنيا هي الحاكمُ في الولاء والبراء؟!

 

اللهم أصلِح أوضاع المُسلمين، اللهم أصلِح أوضاعنا وأوضاع المُسلمين، اللهم أصلِح أوضاعنا وأوضاع المُسلمين، يا أرحم الراحمين.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعَنا بهدي سيِّد الأنبياء والمُرسلين، أقول هذا القول، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِه.

 

أما بعد .. فيا أيها المسلمون:

من اتَّقى الله وقاه، وجعل له من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزقَه من حيث لا يحتسِب.

 

معاشر المُسلمين:

تمرُّ الأيام، تمرُّ اللحظات، وإخوانُنا في مواطن مُختلفة يعلمُها كل أحدٍ يُعانون من مشاهد مُرعِبة من الدماء والأشلاء، والتشريد والتقتيل، يستحيلُ أن تمحُوها الأيام، أو تنساها الذاكرة.

فحسبُنا الله ونعم الوكيل. والله نسألُك أن تنصُر أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.

 

ألا فليعلَم العالَمُ كلُّه أن الحلَّ كلَّ الحلِّ في إعطاء الحقوق لأصحابها، ونشر العدل الحقيقي بين البشرية، وحفظ الكرامة الإنسانية التي جاء بها الإسلام، وإلا فسينالُ ضررُها ويعمُّ شررُها العالَم كلَّه.

 

فيا أبناءَ أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -:

الأمرُ جدُّ خطيرٍ، والواجبُ عظيم، والمسؤوليةُ أمام الله كبيرة في نصرة قضايا المُسلمين، والوقوف مع إخواننا المؤمنين، لا لشيءٍ من المصالِح إلا لوجه الله - جل وعلا -، والقيام بالواجبِ الإيمانيِّ الذي افترضَه الله - جل وعلا - علينا جميعًا.

 

فاللهَ اللهَ في أداء الواجب، كلٌّ حسب استطاعته، وفي حدود إمكانيته. ابذلُوا الأموال لهم بسخاء، توجَّهوا إلى الله - جل وعلا - للأمة جميعًا بصالح الدعاء في كل وقتٍ وحينٍ أن يُصلِح أوضاعها، وأن يُنجِيها من كل كربٍ وشدَّة.

فالله المُستعان، وإليه المُشتكَى، وعليه التُّكلان، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.

 

ثم إن من أفضل الأعمال: الصلاة والسلام على النبيِّ الكريم.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدنا ونبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ والآل، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

اللهم يا حيُّ يا قيوم فرِّج هموم المُسلمين في كل مكان، اللهم فرِّج هموم المُسلمين في كل مكان، اللهم فرِّج هموم المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم صُن أعراضَهم، اللهم احفَظ لهم الأموال والأنفُس والأعراض والمُقدَّرات، يا حي يا قيوم.

 

اللهم نصرُك للمؤمنين، اللهم نصرُك للمؤمنين، اللهم أصلِح أوضاعنا وأوضاع المسلمين بالإسلام وتحكيمه، اللهم أصلِح أوضاع المسلمين بتحكيم القرآن وسُنَّة سيِّد المُرسلين - عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم -.

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

 

اللهم وفِّقنا لمرضاتك، اللهم وفِّقنا لمرضاتك، اللهم وفِّقنا لمرضاتك، اللهم أعنَّا على أمور ديننا ودُنيانا، اللهم أعنَّا على أمور ديننا ودُنيانا، اللهم اكفِنا شِرارَنا، اللهم اكفِنا شِرارَنا، اللهم اكفِنا شِرارَنا، اللهم اكفِنا شِرارَنا، اللهم اكفِنا شِرارَنا، اللهم اكفِنا شِرارَنا، اللهم اكفِنا شِرارَنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اكفِنا شِرارَنا يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم وحِّد صفَّ المسلمين، اللهم وحِّد صفَّ المسلمين، اللهم قوِ شوكتَهم، اللهم واخذُل أعداءَهم في كل مكان، اللهم اخذُل أعداءَهم في كل مكان، اللهم اخذُل أعداءَهم في كل مكان، اللهم اجعل ما أصابَ المُسلمين رفعةً لهم في الدنيا والدين، اللهم اجعل ما أصابَ المُسلمين رفعةً لهم في الدنيا والدين يا حي يا قيوم.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه.

اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، اللهم من تولَّى عليهم فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، اللهم من تولَّى على المُسلمين فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، اللهم من تولَّى على المُسلمين فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، اللهم أنزِل عليه أمرَك، اللهم أنزِل عليه أمرَك يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا سُقيا رحمة، لا هدمٍ ولا غرقٍ ولا بلاءٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أغِثنا وأغِث ديارَ المُسلمين، اللهم أغِث ديارَنا وديارَ المُسلمين، اللهم أغِث ديارَنا وديارَ المُسلمين.

 

اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان، وبسيرة سيِّد الأنام - عليه أفضلُ الصلاة والسلام -.

 

اللهم احفَظ جنودَنا في كل مكان، اللهم احفَظ جنودَنا في كل مكان، اللهم احفَظ جنودَنا في كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.

 

عباد الله:

اذكروا الله ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات