وصف الجنة ونعيمها وما يحفز الهمة إليها

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2024-12-06 - 1446/06/04 2024-12-30 - 1446/06/28
عناصر الخطبة
1/الدنيا متاع الغرور 2/صفات الجنة ونعيمها 3/درجات الجنة وأنواعها وأقسامها 4/صفات أهل الجنة 5/النفس بحاجة إلى إقناع وتذكير 6/من أهم مفاتيح الجنة.

اقتباس

الجنة محفوفة بالمكاره، فلا طريق لنا إليها إلا بالمرور على هذه المكاره، التي تُطهِّر ذنوبنا وترفع درجاتنا، إذا صبرنا واحتسبنا، وأن النار محفوفة بالشهوات قلَّ مَن يسلم منها.

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الذي جعل الفردوس لعباده المؤمنين نُزُلًا، ويسَّر لهم الأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا سواها شغلًا، خلقها لهم قبل أن يخلقهم، وأودعها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وجلاّها لهم حتى عاينوها بعين البصيرة، التي هي أنفذ من رؤية البصر، وبشَّرهم بما أعد لهم فيها على لسان رسوله، وكمّل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولًا.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبد لا غنى له طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بجنته إلا بعفوه ورحمته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى-، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين.

 

عباد الله: ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور؛ قال -تعالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)[الحديد: ٢١]، تأملوا -رحمكم الله- فيما أخبر الله به من مغفرته وسعة جنته، وارتفاعها، ونوعية ما فيها من القصور والبساتين، والأنهار والرياحين الطيبة، والأنوار الحسنة، فلا شمس فيها ولا زمهريرًا، بل أغصانها دانية وذللت قطوفها تذليلًا.

 

 تذكروا صفة أوليائه وهم في تلك العلالي والمسرات، وأنواع الملذات مُخلَّدون، تأملوا ما يُحفّز الهمة وينشط النفس على الجد والاجتهاد والمبادرة إلى تلك الخيرات، ثم سارعوا إليها، فلقد أخبرنا -تعالى- عن صفة الجنة؛ فقال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ)[محمد: ١٥].

 

 فبيَّن -تعالى- ما أعدَّه للمتقين من أنواع المشروبات وكمالها، وكذا المطعومات وما  يهنأون به في كل تلك النعيم من غفرانه، وأنهم ليسوا كأهل النار المخلدين فيها، الذين سُقوا ماءً حارًّا شديد الحرارة  فقطَّع أمعاءهم، بل قد غضب عليهم ولعنهم، عياذًا بالله من ذلك.

 

وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صفة الجنة، ومن ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين".

 

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن في الجنة مائة درجة، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة".

 

أيها المسلمون: إن "الجنة" اسم شامل لجميع ما حوته من البساتين، والمساكن والقصور، وهي جنات كثيرة جدًّا، روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أن أم الربيع أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا نبي الله ألا تُحدّثني عن حارثة -وكان قُتِلَ يوم بدر، أصابه سهم غرب-، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غيرُ ذلك، اجتهدت عليه في البكاء، قال: "يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"، فما أعظمه من فوز! وهنيئًا لك يا حارثة!

 

 فالجنة -يا عباد الله- على أنواع؛ قال -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: ٤٦]، وقال: (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ)[سورة الرحمن:62]، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن".

 

فيا عباد الله: بادروا إلى هذه الجنات وتسابقوا إليها، باللجوء إلى الله والذل بين يديه، عَظِّموا أوامره وامتثلوها، وعظِّموا نواهيه واجتنبوها، تذكروا رقابته علينا وابتلاءه لنا لننال أعلى الدرجات، تذكروا أن الجنة محفوفة بالمكاره، فلا طريق لنا إليها إلا بالمرور على هذه المكاره، التي تُطهِّر ذنوبنا وترفع درجاتنا، إذا صبرنا واحتسبنا، وأن النار محفوفة بالشهوات قلَّ مَن يسلم منها.

 

عباد الله: تذكروا صفات المؤمنين في الجنة، وبادروا بالعمل الصالح لتكونوا منهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب دُريّ في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون، ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوَّة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خَلْق رَجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء".

 

وفي رواية: "ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقيهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يُسبّحون الله بكرة وعشيًا"، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدخل أهل الجنةِ الجنةَ جُردًا مُردًا بيضًا جُعْدًا مكملين، أبناء ثلاث وثلاثين، وهم على خَلْق آدم، ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع".

 

 وأخبر -تعالى- عن غُرَفهم فقال: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ)[الزمر: ٢٠]، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلًا، فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا".

 

 وفيها أيضًا: أن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذه خديجة أقرئها السلام من ربها، وبَشِّرها ببيت في الجنة، مِن قَصَب لا صخب فيه ولا نصب"؛ قال ابن القيم -رحمه الله-: "والقصب ههنا قصب اللؤلؤ المجوف".

 

وفي الصحيحين عن أنس -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أُدخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب، فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا لشابّ من قريش، فظننت أني أنا هو، فقلت ومن هو؟ قالوا لعمر بن الخطاب"، فما أعظمها من كرامة! وما أعلاها من درجة!

 

فيا معشر المسلمين: تأملوا في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- صفة الجنة ونعيمها، وصفة أصحابها، اقرؤوا سورة الرحمن، وسورة الواقعة، وسورة الدهر، وغيرهن فإن النفس بحاجة إلى إقناع وتذكير، وسوق إلى رضوان الله والجنة، وبحاجة إلى الرد عن أهوائها، وتخويفها من عذاب الله.

 

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[يونس: ٧ – ١٠].

 

 بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله مُفضِّل بعض عباده على بعض، جزاء تفاضلهم في مسابقتهم للخيرات وهربهم من المحرمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الغفور الرحيم الذي وعد المؤمنين العاملين، جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ومساكن طيبة في جنات عدن، ورضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم.

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الموعود بأعلى منزلة في الجنة، ألا وهي "الوسيلة"؛ فنعم السكن ونعم المُنَزَّل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين منهم من نال البشرى في حياته بالرضى وبالسكنى في تلك العلالي والمسرات، ومنهم مَن مات عاملاً لها موقنًا بوعد الله له وراجيًا، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى-، وجدّوا واجتهدوا في طاعة المولى -جل وعلا-، واعلموا -رحمكم الله- أن مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله، روى ذلك الإمام أحمد -رحمه الله-، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله".

 

 وذكر البخاري في صحيحه عن وهب بن منبه أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: "بلى، ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح".

 

 قال ابن القيم  -رحمه الله-: "وقد جعل الله -سبحانه- لكل مطلوب مفتاحًا يفتح به، فجعل مفتاح الصلاة الطهور، ومفتاح الحج: الإحرام، ومفتاح البِرّ: الصدقَ، ومفتاح الجنة: التوحيد، ومفتاح العلم: حُسْن السؤال وحسن الإصغاء، ومفتاح النصر والظفر: الصبرُ..."، وغير ذلك مما ذكر -رحمه الله-، وقال: "وهذا باب عظيم، من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر".

 

 اللهم اجعلنا من أهل مفاتيح الخير، وارزقنا الولوج فيها، وتقبّلها منا، وسَلِّمْنا من مفاتيح الشر، وجنبنا الْوُلُوج فيها، يا أرحم الراحمين، إنك ولي ذلك القادر عليه.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

وصف الجنة ونعيمها وما يحفز الهمة إليها.doc

وصف الجنة ونعيمها وما يحفز الهمة إليها.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات