عناصر الخطبة
1/اغتنام نعمة الصحة والفراغ قبل السَّقم والانشغال 2/اتقِ الله فيما بقي من عمرك يُغَفرْ لك ما قد مضى 3/محَاسِبة النفس قبل أن تُحاسَب 4/المبادِرة بالأعمال الصالحة قبل الموتاقتباس
حاسب نفسك -يا عبد الله- وقل: ويحك يا نفس، تنشغلين بعمارة دُنياك مع كثرة خطاياك كأنك غير مُرتَحِلة عنها، أما تنظرين إلى أهل القبور، كيف جمعوا كثيرًا؛ فأصبح جمْعهم بورًا، وبنوا مشيدًا؛ فصار بنياهم قبورًا، وأمَّلوا بعيدًا؛ فصار أملهم زورًا. فكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمِله، وكم من مؤمِّل غدًا لا يبلُغه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة: هذه وصايا -أوصي بها نفسي وإياكم- "وصايا قبل المنايا" سائلا المولى أن ينفع بها.
الوصية الأولى: "اغتنِم نعمةَ الصحة والفراغ قبل السَّقم والانشغال" وهي من وصايا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنم فراغك قبل شغلك، وصحتك قبل سقمك".
فليس في الوجود أغلى من الوقت، وليس في الحياة نعمة بعد الإيمان أعظم من نعمة الصحة والفراغ، ولذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس:الصحة، والفراغ".
عباد الله: الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربْحها عن الآخرة، فمَن استعمل فراغه وصحَّتَه في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقُبه الشغل، والصحة يعقُبها السَّقم، ولو لم يكن إلا الهموم.
اغتنِم في الفراغ فضـلَ ركوعٍ *** فعسى أن يكون موتُك بَغْتة
كم صحيحٍ رأيت من غير سُقْمٍ *** ذهبتْ نفسُه السليمةُ فَلْتة
يقول صفوان: "كنا مع الحسن في جنازة، فقال: رحِم الله امرأ عمل لمِثل هذا اليوم، إنكم اليوم تَقدِرون على ما لا يَقدِر عليه إخوانكم هؤلاء من أهل القبور، فاغتنِموا الصحة والفراغ، قبل يوم الفزعة والحساب".
أنتَ في غفلةِ الأمل *** لستَ تدري متى الأجل؟
لا تغرنَّك صحةٌ فهي *** من أوجَعِ العِلَل
فاعملِ الخير واجتَهد *** قبل أن تُمنَع العمل
يقول سعيد بن جبير -رحمه الله-: "كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة".
الوصية الثانية: "اتقِ الله فيما بقي من عمرك يُغَفرْ لك ما قد مضى"، قال الفضيل بن عياض لرجل: "كم عمرك؟ فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذًا أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله تُوشِك أن تَصِل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: يا أخي، هل عرفتَ معناه، قال الرجل: نعم، عرفت أني لله عبد، وأني إليه راجع، فقال الفضيل: يا أخي، مَن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، عرف أنه موقوف بين يديه، ومَن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومَن عرف أنه مسؤول فليُعدَّ للسؤال جوابًا، فبكى الرجل، فقال: يا فضيل، وما الحيلة؟ قال الفضيل: يسيرة، قال الرجل: وما هي يرحمك الله؟ قال الفضيل: أن تتقيَ الله فيما بقي، يَغفِر الله لك ما قد مضى وما قد بقي.
يا عبد الله: ما بقي من عمرك غنيمة باردة، أصلح ما بقي من عمرك، يُغْفَر لك ما مضى.
إلهي لا تُعذِّبني فإني *** مُقِرٌّ بالذي قد كان منِّي
وما لي حيلةٌ إلا رجائي *** لعفوكَ إن عفوتَ وحُسْنُ ظنِّي
وكم من زلة لي في البرايا *** وأنتَ عليَّ ذو فضلٍ ومنِّ
أُجنُّ بزهرة الدنيا جنونًا *** وأقطع طولَ عمري بالتمنِّي
يظنُّ الناس بي خيرًا وإني *** لشرُّ الخَلْق إن لم تَعْفُ عني
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وآمن روعاتنا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة: من الوصايا قبل المنايا: "حَاسِبْ نفسك قبل أن تُحاسَب" فلقد أمرنا الله -عز وجل- بمحاسبة النفس؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
فالله -تعالى- يأمُر المؤمنين بالتقوى، ويَحُثهم على مداومة طاعته، ويدعو كلَّ مؤمنٍ إلى مراقبة نفسه، ومراجعة حسناته وسيئاته، عسى أن يتزوَّد المُحسِن من الطاعات، ويتدارك المسيء ما مضى وفات، ويعلم المُقصِّر أن أمامه يومًا يُحاسَب فيه، وربًّا هو ملاقيه، فيجتهد ويَجِد ويعمل ويكِد، فالكَيِّس مَن دان نفسَه وعمِل لِما بعد الموت، والعاجز مَن أتبَع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني.
كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: "حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنُوا أعمالكم قبل أن تُوزَنُوا، وتهيَّؤوا للعرض الأكبر، يومئذ تُعرَضون لا تخفى منكم خافية".
فالمُفرِّط المُقصِّر يقف مع نفسه وقفةَ صدْق، ويقول لها:
يا نفسُ قد أزِف الرحيل *** وأظلَّك الخَطْبُ الجليل
فتأهَّبي يا نفسي لا *** يلعب بكِ الأملُ الطويل
فلتنزلنَّ بمنزلٍ يَنسى *** الخليل به الخليل
وليَركبَنَّ عليك فيهِ *** من الثرى ثِقْلٌ ثقيل
حاسب نفسك -يا عبد الله- وقل: ويحك يا نفس، تنشغلين بعمارة دُنياك مع كثرة خطاياك كأنك غير مُرتَحِلة عنها، أما تنظرين إلى أهل القبور، كيف جمعوا كثيرًا؛ فأصبح جمْعهم بورًا، وبنوا مشيدًا؛ فصار بنياهم قبورًا، وأمَّلوا بعيدًا؛ فصار أملهم زورًا.
فكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمِله، وكم من مؤمِّل غدًا لا يبلُغه.
ويحك يا نفس، أما لك بهم عِبْرة، أما لك إليهم نظرة.
ويحك يا نفس، تُعرضين عن الآخرة وهى مُقبِلة عليك، وتُقبلين على الدنيا وهى فارَّة مُعرِضة عنك.
يا عبد الله: ما أنت إلا في هدْم عمرك منذ أن سقطتَ من بطن أمك.
لذا، اسمع معي هذه الوصية من وصايا قبل المنايا: "بادِر بالأعمال الصالحة قبل أن يأتيَك الأجلُ".
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يَحُث على المبادرة للعمل الصالح قبل أن يُفتن الإنسان أو يُشغَل أو يموت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بادِروا بالأعمال فتنًا كقطعِ الليل المُظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا".
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اغتنِم خمسًا قبل خمس؛ شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك".
كيف يفرح بالدنيا مَن يومه يَهدِم شهره، وشهره يهدِم سنتَه، وسنته تهدم عمره؟! كيف يلهو مَن يقوده عمره إلى أجله، وحياته إلى موته؟!
عباد الله: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس، لو حُبِست انقطعت عنكم أعمالكم التي تقرَّبون بها إلى الله، رحِم الله امرأ نظر لنفسه، وبكى على ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : 84].
أحبتي في الله: مَن خاف هجوم الأجل قَصر الأمل، وبادَرَ بحسن العمل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن خاف أدلج، ومَن أدْلَج بلغَ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".
اللهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم