وصايا بالصبر والاحتساب والتوبة وإغاثة المنكوبين

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الباقي بعد فناء خلقه، المانِّ عليهم بإدرار رزقه، الموجِب عليهم القيام بأداء حقه، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[الْقَصَصِ: 88]، سبحانه لا مطمعَ في البقاء لسِوَاهُ، نحمده -سبحانه وتعالى- في السراء والضراء، والعافية والبلاء، حمدًا طيِّبًا مباركًا فيه، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، المتفرِّد بالقدرة، والمتعزز بالعظمة، القائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)[الْحَجِّ: 1]، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، شافي العلل، ومفرِّج الكروب، فما جاءه مكروبٌ إلَّا وجَد عندَه تفريجَ كُربَتِه، ولا لهفانُ إلا وجَد عندَه إغاثةَ لهفته، أَلَمْ يُخاطِبْهُ المولى -تبارك وتعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]؟! أوليس هو صاحب الإسراء والمعراج؟! (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)[النَّجْمِ: 18].

 

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه وعلى آله نجوم الاهتداء، وليوث الوغى، وأصحابه المؤيَّدين بالنصر والصبر، كيف لا وهم في البلاء راضون، وفي الرخاء شاكرون؟! وفي السراء حامدون؟ وفي أرزاقهم واثقون، وعلى أنفسهم مُؤثِرُون، ولله -سبحانه وتعالى- متواضعون، وارضَ اللهم عن الأئمة الخلفاء، والأولياء العلماء، والشهداء الأحياء، وارض عَنَّا معهم، بعفوك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: مصابٌ جَلَلٌ، أصاب المسلمين في تركيا وسوريا، فأسال الدموع، وأوحش الربوع، فالدموع من أجله ساكبة، والقلوب من شدة الأسى ذائبة، وشموس الفضل كاسفة، وبُدُور العلم خاسفة، والحسرات متوالية، ونحن نرضى بما يجري بأمر الله -تبارك وتعالى-؛ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 23]، برَّد اللهُ مصيبتَنا بجميل الصبر، وأعظم لنا في رزيته الأجر، ونسأل الله الرحمة لمن قضوا في هذا الحدث الأليم، وبلَّ ثَرَاهُمْ بوابلِ الرحمةِ، وقابلَه بالرضا والنعمة، ونوَّر قلوبَهم وقبورَهم بالقرآن، وأوصَل إحسانَهم إلى دار الجنان، وجمَعَنا وإيَّاهم في مستقر كرامته ورحمته، وجعل الموعد بحبوح جنته. قولوا: آمين.

 

اللهم أعن ويسِّر في سلامة الباقين من تحت الأنقاض يا رب العالمين، واكتب الصحة والسلامة للناجين، وداو جرحاهم ومرضاهم يا ربَّ العالمينَ.

 

عبادَ اللهِ: كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل به هم أو غم قال: "يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث".

 

أيها المصلي في هذه الرحاب الطاهرة: أدام الله الكريم لك الخيرات، وتولَّاك في الحسنات، وبلغك من خيرات الآخرة والأُولى كل آمالك، وبارَك لكَ في جميع أحوالكَ، تذكَّر دومًا ودائمًا أن الدنيا إلى زوال، وهي قريبة من الارتحال، إيَّاكَ أن تغترَّ بها، فدوامُها شيءٌ محالٌ.

 

فيا أيها المسلمون: سابِقوا إلى مغفرة من ربكم؛ من صلاة وصيام وصدقة وذكر وتوبة وإقلاع عن المعاصي، وإقبال على الطاعات، زادكم الله فضلًا وخيرًا، وتمكينًا وعلوًا ونصرًا، وجعلكم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وإزالة الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وطنوا أنفسكم لفعل الخيرات، والمبرَّات، والأعمال الصالحات.

 

واعلموا -يا عباد الله- أن سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، والصبر يقي من المهالك، ويأخذ بيد صاحبه إلى جميع المسالك، اللهم اجعلنا من الراضينَ بقضائكَ، الصابرينَ على بلائكَ، اللهم اكفنا همَّ مَنْ أهمَّنا، وأدخِلْنا في درعكَ الحصينِ، واسترنا بسترك الواقي، يا مَنْ كفانا كلَّ شيء، اكفنا ما أهمَّنا من أمر الدنيا والآخرة، يا شفيقُ يا رفيقُ فرِّج عَنَّا كلَّ ضيق، ولا تُحمِّلْنا ما لا نُطيق، فأنتَ إلهُنا الحقُّ الحقيقُ، يا قويَّ الأركان، احرُسْنا بعينكَ التي لا تنام.

 

وأنتم أيها المسؤولون: عليكم بإضمار الخير، والعزم على العمل به في كل وقت حسبَ الاستطاعة، وتفقَّدوا أمورَ الرعية، انظروا في أحوالهم، وكُفُّوا بعضَهم عن ظُلم بعض، وأنصِفُوا المظلومَ وكونوا معه حتى يستوفي حقَّه من ظالمه، وافتحوا البابَ، وأصغوا السمعَ لكل مَنْ رفَع مظلمةً، الحذرَ الحذرَ من التغافل عن نصرة المظلوم؛ فإنَّها أصل الخراب، واصبروا على القيام بما كُلِّفْتُم به، واللهُ في عونكم، وأهلُ طاعتِه معَكم، ما أنصفتُم وعدلتُم، وأقمتُم حكمَ الله -تبارك وتعالى-.

 

لقد أوجب الله -تعالى- الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضَّعَفة، وإزالة الضرر عنهم، وفي حديث سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: قال صلى الله عليه وسلم: "إنما تُنصَرون وتُرزَقون بضعفائكم"، وقال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كشَف عن مسلم كربةً من كرب الدنيا كشَف اللهُ عنه كربةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبدُ في عون أخيه".

 

وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- من رواية الإمام مسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فرَفَق بهم فارفُقْ به، ومَنْ شَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه"، وقال عليه الصلاة والسلام: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، وقال كذلك: "إنَّ المقسِطِينَ على منابر من نور عن يمين الرحمن".

 

فاتقوا الله يا عبادَ اللهِ، وخذوا بزمام الأمور؛ فأجمعوا أمركم، ووحدوا أنفسكم وصفكم، واحفظوا دينكم ومقدَّساتكم، تكن لكم الكلمة، وإذا بقيتم متفرقين كما هو حالكم فإن عدوكم لكم بالمرصاد، وتذكروا دائمًا أن الله -تبارك وتعالى- مع المتقين وأوليائه الصالحين؛ (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 126]، وإنَّما يستعان إليه بالافتقار إلى الله، واتباع آثار رسول الله، وملازمة أحكام الشرع، ومراعاة مصالح الأمة؛ (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 250].

 

عبادَ اللهِ: توجَّهوا إلى الله بالدعاء والتسليم، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي حكَم على الأعمار بالآجال، وتفرَّد بالعظمة والبقاء والجلال، سبحانه جل جلاله، وعلت كلمتُه، وارتفع سلطانُه، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرَّحْمَنِ: 26-27]، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185]، (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)[الْقَصَصِ: 88]، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، صاحبُ النعمِ والآلاءِ الجسامِ، وصوَّرهم في الأرحام كيف يشاء، لا إلهَ إلا هو، خضعت لجبروته الأكوان، كما خضعت لسلطانه وقدرته الأملاك، فالعجزُ للعبد عن دَركِه إدراكٌ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حذَّر من الدنيا، وحضَّ على التقلل من حطامها، والزهد فيها، وكان عليه الصلاة والسلام أمانًا لأمته، قال الحق -جل وعلا-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 33]، جعلنا الله وإيَّاكم يا عباد الله ممَّن آثَر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- على غيره، وخضَع لقَبول ما ورد عليه من سنته، بترك ما يشتمل عليه القلب من اللذات، وتحتوي عليه النفس من الشهوات، من المفضحات والمحدثات، إنَّه خير مسؤول ومأمول.

 

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إخوانكم في سوريا وتركيا، بحاجة لدعواتكم، ومساندتكم، فكونوا الأوفياء والأمناء، كونوا عونًا لهم في كل ما تستطيعون، وأنتم تحبون الخير وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات، وأفضل الطاعات، وقد أهلتم له، وساقه الله إليكم، وهو من فضل الله عليكم، ويكون سببًا لدوام الخيرات لكم، ويبقى ذكره لكم على الأيام، ويخلد في أعمالكم الحسنة، وتجدون نفعه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا)[آلِ عِمْرَانَ: 30].

 

عبادَ اللهِ: ونحن في أرضنا المقدَّسة يعيش الناس في ضيقِ عيشٍ، وضَعْفِ حالٍ، بسبب غلاء الأسعار، وقلة الغلات، فهدمُ البيوتِ، وتشريدُ الأهالي في ظِلِّ البردِ القارصِ، والاقتحاماتِ للمسجد الأقصى المبارَك، وأسرانا الذين يعانون من ظلم السَّجَّان، والمطلوب إطلاق سراحهم والإفراج عنهم، أليسوا هم من سُكَّان الأرض المقدَّسة؟ أَلَيْسُوا هم جيران الأنبياء في هذه الأرض الطاهرة؟ ولا يزال أهلنا محاصرين، فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفرج كربهم، وأن يرحم ضعفهم، وأن يجبر كسرهم، وأن يتولى أمرهم، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، وعلى حلمك بعد علمك.

 

فيا أيها المسلمُ: لا تستعجل، وارضَ واصبِرْ، فتلك هي طريق الأنبياء والأولياء والصالحين من أبناء هذه الأمة؛ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 2].

تمنيتَ أن تحيا حياةً شهيةً *** وألَّا ترى طول الزمان بلابِلَا

وهيهاتَ هذا الدهرُ سجنٌ وقلَّما *** يمرُّ على المسجونِ يومٌ بِلَا بَلَا

 

أيها المسلمُ: ادفع بصبرك حادث الأيام، وترجَّ لطفَ الواحد العلَّام، لا تيأسنَّ وإن تضايق كربها، ورماكَ ريب صروفها بسهام، فله -تعالى- بعد ذلك فرجة تخفى على الأبصار والأوهام

كم من نجي بين أطراف القنا *** وفريسةٍ سَلِمَتْ من الضرغامِ

 

أفضل العبادة -يا عباد الله- توقُّع الفرج، فالفرج قريب -بإذن الله-.

 

أيها المؤمن: اجعل الله -تبارك وتعالى- أُنْسَكَ إذا استوحشتَ، ومُهدِيكَ إذا ضللتَ، وصاحِبَكَ إذا افتقرتَ، ثم مُدَّ إليه يَدَكَ، فإنَّه لا يخيب السائل، ولا يقطع الرجاء، وقد أمَرَنا -سبحانه وتعالى- بالدعاء، فقال سبحانه: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غَافِرٍ: 60]، وقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)[الْأَعْرَافِ: 55]، وقال كذلك: (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)[النَّمْلِ: 62]، وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186].

 

اللهم زيِّن بالقرآن أسرارَنا، ونوِّر أبصارَنا، واحفظ قلوبنا، واشرح صدورنا، واستر عيوبنا، واشفِ مرضانا، وارحَمْ بالقرآن موتانا، وتقبَّل طاعتنا، وكفِّر بالقرآن سيئاتنا، وارفع درجاتنا، وأعطنا حاجاتنا، سلِّمْنا وسلِّمْ دِينَنا، ولا تَسلُبْ وقتَ النزاع إيمانَنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.

 

(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 126]، اهدنا بهدي القرآن، وعافنا بعناية القرآن، ارفع درجاتنا بفضل القرآن، وأدخلنا الجنة بشفاعة القرآن، ونجنا من النيران بكرامة القرآن، يا ذا الفضل والكرم والجود والإحسان، اكتب لنا براءة من النار، ونجنا من عذاب النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].