وسعت كل شيء

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تأملات في سعة رحمة الله تعالى 2/ المستحقون لرحمة الله سبحانه 3/ أحاديث في رحمة الله تعالى 4/ الحث على التعرض لأسباب نيل الرحمة.

اقتباس

وماذا لو كانَ الحِسابُ بيدِ أمِّكَ .. تلكَ الرَّحمةُ العجيبةُ .. والشَّفقةُ الغريبةُ .. حنانٌ لا ساحلَ له .. وعطفٌ لا قرارَ له .. تتألمُ قبلَ أن تألمَ أنتَ .. وتتعبُ قبلَ أن تتعبَ أنتَ .. كم من مرةٍ خافتْ عليكَ وأنتَ الرَّجلُ النَّشيطُ .. وكم من مرةٍ حذَّرتكَ من أمرٍ سهلٍ بسيطٍ .. لا لشيءٍ إلا لأنها أرحمُ بكَ من نفسِك. بل هل رأيتُم رحمةَ الآباءِ والأمَّهاتِ والخلائقِ جميعاً .. ومنها تلكَ الرَّحمةُ التي في قلوبِ بعضِ الخلقِ .. حتى إنكَ لتُشفِقَ على تفَطُّرِ قلوبِهم من شِدَّةِ ما فيها من الرَّحمةِ ..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنّ الْحَمْدَ ِللهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ .. اَللهُمّ صَلّ وَسَلّمْ عَلى مُحَمّدٍ وَعَلى آلِهِ وِأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدّيْن.

 

(يَا أَيّهَا الّذَيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوْتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُوْنَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيّهَا النَاسُ اتّقُوْا رَبَّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيْرًا وَنِسَاءً وَاتّقُوا اللهَ الَذِي تَسَاءَلُوْنَ بِهِ وَاْلأَرْحَام َ إِنّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيّهَا الّذِيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ وَقُوْلُوْا قَوْلاً سَدِيْدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا) [الأحزاب: 70- 71].

 

 أَمّا بَعْدُ: فَإنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ-، وَشَرَّ اْلأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةِ فِي النَّارِ.

 

عبادَ الرَّحمنِ .. تعالوا فلنتأملْ في قولِهِ تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف: 156].

 

لو قيلَ لأحدِكم: كما أنكَ ستقرأُ كتابَكَ يومَ القيامةِ كما قالَ سُبحانَه: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء: 13- 14].. ما رأيُّكَ لو جُعِلَ حِسابُكَ في يَدِكَ؟ .. فأنتَ تقبلُ حسناتِكَ .. وأنتَ تتجاوزُ عن سيئاتِكَ .. وأنتَ تغفرُ ذُنوبَكَ .. وأنتَ تسترُ عُيوبَكَ .. ثمَّ تحكمُ على نفسِكَ بجنَّةٍ أو نارٍ .. فماذا تظُنُّونَ هي العاقبةُ؟

 

أنصتوا إلى هذا الحديثِ وستعلمونَ .. عن ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟، فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ .. حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ" .. سُبحانَ اللهِ .. هل رأيتُم كيفَ حكمَ على نفسِه بالهلاكِ؟ .. وأنَّه لمَّا وقفَ أمامَ العزيزِ الجَّبارِ .. فبانتْ له نِعمُ اللهِ -تعالى- التّي تَترى .. ورأى ربَّاً ليسَ لمثلِه أن يُنسى .. ورأى مُلكاً ليسَ لصاحبِه أن يُعصى .. فأقرَّ على نفسِه أنَّه مستحقٌّ للعقوبةِ الكُبرى.

 

ولكنْ اسمعوا ماذا يقولُ له الرَّحيمُ .. "قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ .. فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ .. وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ".

 

ولذلكَ سيطمعُ الإنسانُ في رحمةِ ربِّه العُظمى .. حتى أنَّه يسألُ عن ذُنوبِه الأخرى .. عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، رَجُلٌ يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وَكَذَا؟، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ، فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَيَقُولُ: رَبِّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَا هُنَا". فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- ضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.

 

أيُّها المؤمنُ ..

وماذا لو كانَ الحِسابُ بيدِ أمِّكَ .. تلكَ الرَّحمةُ العجيبةُ .. والشَّفقةُ الغريبةُ .. حنانٌ لا ساحلَ له .. وعطفٌ لا قرارَ له .. تتألمُ قبلَ أن تألمَ أنتَ .. وتتعبُ قبلَ أن تتعبَ أنتَ .. كم من مرةٍ خافتْ عليكَ وأنتَ الرَّجلُ النَّشيطُ .. وكم من مرةٍ حذَّرتكَ من أمرٍ سهلٍ بسيطٍ .. لا لشيءٍ إلا لأنها أرحمُ بكَ من نفسِك.

 

بل ضربَ النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- برحمةِ الأمِّ مِثالاً للصحابةِ الكِرامِ .. يُقرِّبُ إليهم صورةَ رحمةِ العزيزِ الغفارِ .. في يومٍ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ .. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟"، قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: "لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا".

 

لا إلهَ إلا اللهُ .. أرحمُ بالإنسانِ من نفسِه .. وأرحمُ بالولدِ من أمِّه .. فأيُ رحمةٍ هذه؟ .. إنَّها المعنى الحقيقيِّ لقولِه تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

 

بل هل رأيتُم رحمةَ الآباءِ والأمَّهاتِ والخلائقِ جميعاً .. ومنها تلكَ الرَّحمةُ التي في قلوبِ بعضِ الخلقِ .. حتى إنكَ لتُشفِقَ على تفَطُّرِ قلوبِهم من شِدَّةِ ما فيها من الرَّحمةِ .. فهو لا يعرفُ حَسَداً ولا حِقداً .. قد امتلأَ قلبُه بحبِّ الخيرِ للنَّاسِ .. فهو كاظمٌ لغيظِه .. يعفو عمنْ أساءَ إليه .. قلوبٌ بيضاءُ ليسَ فيها إلا الصَّفاءَ .. كلُّ هذه الرَّحمةِ قد اقتسموها من رحمةٍ واحدةٍ أنزلها اللهُ تعالى بينَ عبادِه .. جاءَ في الحديثِ: "إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 

يا اللهُ .. إذا كانت هذه رحمةً واحدةً قد أثارتْ في نفوسِنا العجبَ العُجابَ .. فكيفَ بمائةِ رحمةٍ تنتظرُ العبادَ يومَ الحسابِ .. إنَّها مِصداقُ قولِه تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ).

 

عبادَ اللهِ ..

أضربُ لكم مثلاً لهذه الرَّحمةِ بواقعٍ عمليٍّ لعبدٍ أسرفَ على نفسِه كلَّ الإسرافِ .. ثمَّ تابَ إلى اللهِ تعالى ورجا رحمتَه التي تفوقُ الأوصافَ .. يقولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟، فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟، فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ، انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ، أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ".

 

هل رأيتُم؟ .. هل سمعتُم؟ .. ماتَ على التَّوبةِ فقط .. لم يصلْ إلى قريةِ أهلِ العبادةِ .. ليبدأَ معهم طريقَ الخيرِ والسَّعادةِ .. ومع ذلكَ حرَّكَ اللهُ له القُرى بمن فيها .. فكيفَ بمن تابَ وصلَّى .. كيفَ بمن تابَ وصامَ .. كيفَ بمن تابَ وتصدَّقَ .. كيفَ بمن تابَ وذكرَ اللهَ كثيراً .. ولكنَّه هو اللهُ تعالى الذي نادى عبادَه فقالَ: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء: 110].

 

فالحمدُ للهِ الذي يُحبُّ أن يتوبَ على عبادِه (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) [النساء: 27] .. وأرسلَ رُسلَه ليُخبروا النَّاسَ أنَّ اللهَ تعالى يدعوهم لرحمتِه ومغفرتِه: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) [إبراهيم: 10].. فسبحانَ من وسعتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ.

 

لبِستُ ثوبَ الرَّجا والنَّاسُ قد رَقدوا *** وَقمِتُّ أشكوا إلى مولايَ ما أجدُ

وقُلتُ يا أمَلي في كلِّ نَائبةٍ *** ومَن عليه لكشفِ الضُّرِّ أعتمدُ

أشكو إليك أموراً أنتَ تعلمُها *** ما لي على حِملِها صبرٌ ولا جلدُ

وقد مدَدْتُ يدِي بالذُّلِّ مبتهلاً *** أليك يا خيرَ من مُدَّتْ إليه يدُ

فلا ترُدَّنها يا ربِّ خائبةً *** فبَحْرُ جودِكَ يروي كل منْ يَرِدُ

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ .. وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ .. أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله وَسِعَ كلَّ شيءٍ رَحْمَةً وعلمًا، واتَّصف بالرَّحْمَةِ رَأفَةً وحِلمًا، وأسبغَ علينا رِزْقًا وأمنًا، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له, له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ونشهدُ أنَّ محمَّدَاً عبدُ الله ورسولُهُ بَعَثَهُ ربُّهُ رَحْمَةً وهُدىً، فَأوسَعَ الْخَلْقَ جُوداً ورِفْقَاً، كمَّلَهُ اللهُ بِكريْمِ السَّجايا حَرْبَاً وسِلمَاً، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِهِ ومن تَبِعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّينِ ..

 

 أمَّا بعدُ: فاسمحوا لي أن أُكملَ الآيةَ حتى تكتملَ الصُّورةُ .. يقولُ تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156].. سبحانَ اللهِ .. إذن هناكَ شروطٌ لهذه الرَّحمةِ .. وليستْ لكلِّ أحدٍ.

 

عبادَ الرَّحمنِ ..

من أرادَ تلكَ الرَّحمةَ التي وسِعتْ كلَّ شيءٍ فعليه بتحقيقِ الشُّروطِ من الإيمانِ والتَّقوى والعملِ الصَّالحِ .. (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) .. عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عَنها قَالتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 60- 61]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟، قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ".

 

ومن تدبَّرَ القرآنَ عرفَ أن مثلَ هؤلاءِ هم الذين يرجونَ رحمةَ اللهِ تعالى حقَّاً .. قالَ عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 218].

 

فاللهَ اللهَ بما يُحبُّه اللهُ تعالى من العملِ .. وإيِّاكم وما يجلبُ سخطَ اللهِ تعالى من الزَّللِ.. وعندما تذوقونَ حلاوةَ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ .. ستعلمونَ ماذا قصَدَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ حين: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) [الحجر: 56].

 

رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَينَا إِصْرَاً كَمَا حَمَلْتَهَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا وّاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ.

 

اللَّهُمَّ يَا بَارِئَ البَرِيَّاتِ، وَغَافِرَ الخَطِيَّاتِ، وَعَالِمَ الخَفِيَّاتِ، المُطَّلِعُ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالنِّيَّاتِ، يَا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً، وَوَسِعَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً، وَقَهَرَ كُلّ مَخْلُوقٍ عِزَّةً وَحُكْماً، اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنا، وَاسْتُرْ عُيُوبَنا، وَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِنا إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ..

 

 اللَّهُمَّ يَا سَمِيعَ الدَّعَوَاتِ، يَا مُقِيلَ العَثَرَاتِ، يَا قَاضِيَ الحَاجَاتِ، يَا كَاشِفَ الكَرُبَاتِ، يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، وَيَا غَافِرَ الزَّلاَّتِ، اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، الأحْيَاءِ مِنْهُم وَالأمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ .. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيْمَانِ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَاب الجَحِيمِ).

 

 

 

المرفقات

نفقه الحج؟1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات