وسائل تربية الشباب: العبادة وأثرها في تربية الشباب

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-03-17 - 1444/08/25 2023-03-28 - 1444/09/06
عناصر الخطبة
1/أهمية العبادة في تربية الشباب. 2/نماذج من العبادات المعينة على تهذيب الشباب. 3/سبل ربط الشباب بالعبادة وتعلقهم بها. 4/أثر العبادة على الشباب ودورها في صلاحهم.

اقتباس

الْعِبَادَةُ إِذَا لَازَمَهَا الشَّبَابُ وَأَحْسَنُوا الْحَيَاةَ مَعَهَا: صَلَحَتْ عَلَاقَتُهُمْ مَعَ أُسَرِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، وَقَلَّتْ مُشْكِلَاتُهُمْ فِي الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا، أَوِ الْبِيئَاتِ الَّتِي يَتَّصِلُونَ بِهَا، فَكَمْ مِنْ مُشْكِلَاتٍ مُجْتَمَعِيَّةٍ وَرَاءَهَا الشَّبَابُ الْبَعِيدُ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاحِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُفُقٌ مِنْ آفَاقِ اللَّذَّةِ، وَوُجْهَةٌ مِنْ وُجُهَاتِ السَّعَادَةِ، وَمَوْطِنٌ مِنْ مَوَاطِنِ الرَّاحَةِ؛ لِأَهْلِهَا فِيهَا ظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَمَوْرِدٌ عَذْبٌ، وَمَقَامٌ جَلِيلٌ. فِي أَفْيَائِهَا تَتَرَحَّلُ الْهُمُومُ، وَتَتَلَاشَى الْغُمُومُ، وَتَنْمَحِي الْأَحْزَانُ، وَيُرَفْرِفُ فِيهَا الْقَلْبُ أُنْسًا، وَتُغْمَرُ أَرْجَاؤُهُ بِالسَّكِينَةِ.

 

يُدْرِكُ الْعَبْدُ فِي الْحَيَاةِ أَعْلَى مَرَاتِبِ النَّعِيمِ حِينَ يَرْتَقِي فِي مَرَاتِبِهَا؛ إِنَّهَا الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا خُلِقَ الْإِنْسَانُ؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذَّارِيَاتِ: 56]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 21].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ -تَعَالَى- غَايَةٌ لَهَا أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَكِنَّ أَهَمِّيَّتَهَا فِي حَقِّ الشَّبَابِ كَبِيرَةٌ، خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي زَخِرَ بِالصَّوَارِفِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمُلْهِيَاتِ الْعَدِيدَةِ الَّتِي تَسْتَهْوِي الشَّبَابَ وَتَصْرِفُهُمْ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ إِلَى تَلْبِيَتِهِمْ نِدَاءَ شَهَوَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ.

 

وَالْعِبَادَةُ طَوْقُ النَّجَاةِ فِي زَمَنِ الْفِتَنِ، وَمَرْكَبُ الْأَمَانِ فِي زَمَنِ الْخَوْفِ، تُهَذِّبُ الشَّابَّ وَتُزَكِّيهِ، وَتَنْأَى بِهِ عَنْ أَسْبَابِ الشَّقَاءِ وَإِلَى طَرِيقِ السَّعَادَةِ تَهْدِيهِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- أَنَّ هَذَا الْعَصْرَ بَحْرٌ تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَالْإِغْرَاءَاتِ الَّتِي تُنَادِي الشَّبَابَ وَالْفَتَيَاتِ: هَيْتَ لَكَ، غَيْرَ أَنَّ سَفِينَةَ الْعِبَادَةِ تَلُوحُ أَشْرِعَتُهَا لِكُلِّ شَابٍّ قَائِلَةً لَهُ: ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ، ارْكَبْ مَعَنَا خَشْيَةَ أَنْ تَصِيرَ مَعَ الْمُغْرَقِينَ.

 

وَتَبْدُو أَهَمِّيَّةُ الْعِبَادَةِ لِلشَّبَابِ كَذَلِكَ فِي كَوْنِهَا الْوُجْهَةَ الصَّحِيحَةَ لِهَذِهِ الْمَرْحَلَةِ الْعُمْرِيَّةِ الَّتِي تَتَّسِمُ بِالْقُوَّةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ وَالتَّحَرُّكِ الدَّؤُوبِ، وَالْحَمَاسِ الْجَامِحِ، وَعَنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ يَقُولُ الْمَوْلَى -جَلَّ وَعَلَا-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الرُّومِ: 54].

 

أُولَسْتُمْ -أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ- تُشَاهِدُونَ أَنَّ الشَّبَابَ إِذَا تَوَجَّهُوا نَحْوَ هَذِهِ الْوِجْهَةِ الْآمِنَةِ صَلَحُوا وَأَصْلَحُوا، وَإِذَا حَادُوا عَنْهَا فَسَدُوا وَأَفْسَدُوا؟

 

وَتَبْدُو أَهَمِّيَّةُ الْعِبَادَةِ لِلشَّبَابِ أَيْضًا فِي كَوْنِهَا: الْحِصْنَ الْحَصِينَ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَفَاسِدِ الْفَرَاغِ وَجُلَسَاءِ السُّوءِ؛ فَالْفَرَاغُ فِي حَيَاةِ الشَّبَابِ مُشْكِلَةٌ تَلِدُ مُشْكِلَاتٍ، وَمَفْسَدَةٌ تُنْتِجُ مُفْسِدَاتٍ، فَإِذَا أُضِيفَ إِلَى الْفَرَاغِ الْغِنَى قَادَ إِلَى كُلِّ شَرٍّ وَبَلَاءٍ، وَقَدْ قِيلَ:

إِنَّ الشَّبَابَ وَالْفَرَاغَ وَالْجِدَةْ ** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أَيُّ مَفْسَدَةْ

 

وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى اغْتِنَامِ الْفَرَاغِ بِالنَّافِعِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا؛ فَقَالَ: "وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ".

 

كَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ تَحْمِي صَاحِبَهَا مِنْ صَدِيقِ السُّوءِ الَّذِي يَجُرُّهُ صَاحِبُهُ إِلَى مَهَاوِي الرَّدَى؛ فَفِي الْحَدِيثِ: "وَمَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْكِيرِ إِنْ لَمْ يُصِبْكَ مِنْ سَوَادِهِ أَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ). وَفِي رِوَايَةٍ: "إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: وَالْعِبَادَةُ الَّتِي نَحُثُّ الشَّبَابَ عَلَيْهَا صُوَرُهَا كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ؛ أَهَمُّهَا:

عِبَادَةُ الصَّلَاةِ، الَّتِي هِيَ أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَنُورٌ لِصَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ فَمَا أَجْمَلَ أَنْ نَرَى الشَّبَابَ وَهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَوْقَاتِهَا، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ!

 

وَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ مَنْظَرٍ تَرَوْنَهُ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فِي الْمَسَاجِدِ وَالصُّفُوفُ الْأُوَلِ مُمْتَلِئَةٌ بِالشَّبَابِ الَّذِينَ تَبْدُو عَلَيْهِمْ سِيمَا الصَّالِحِينَ، وَقَدْ تَرَكُوا وَرَاءَهُمْ لَهْوَ الشَّبَابِ وَعَبَثَهُ.

 

وَإِنَّهَا لَكَرَامَةٌ كَبِيرَةٌ أَنْ يَرْتَقِيَ الشَّبَابُ بَعْدَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ إِلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ وِرْدٌ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، تِلْكَ الْعِبَادَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ النَّفِيسِ تُهَذِّبُ النَّفْسَ وَتُصْلِحُهَا، وَتُدَاوِيهَا وَتُقُوِّمُ عِوَجَهَا، قَالَ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا)[الْفُرْقَانِ: 64].

 

وَانْظُرُوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- إِلَى حِرْصِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ، وَكَانَ شَابًّا يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَى رُؤْيَا فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ"، قَالَ سَالِمٌ: "فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ، بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا".

شَبَابٌ ذَلَّلُوا سُبُلَ الْمَعَالِي ** وَمَا عَرَفُوا سِوَى الْإِسْلَامِ دِينَا

وَإِنْ جَنَّ الْمَسَاءُ فَلَا تَرَاهُمْ ** مِنَ الْإِشْفَاقِ إِلَّا سَاجِدِينَا

كَذَلِكَ أَخْرَجَ الْإِسْلَامُ قَوْمِي ** شَبَابًا مُخْلِصًا حُرًّا أَمِينَا

 

وَمِنَ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تُهَذِّبُ نُفُوسَ الشَّبَابِ: عِبَادَةُ الصِّيَامِ، تِلْكَ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَكْبَحُ جِمَاحَ الشَّهَوَاتِ، وَتَقْمَعُ نِدَاءَ سَيِّءِ النَّزَوَاتِ، وَتُرَقِّقُ الْقُلُوبَ، وَتَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَتُعِينُ عَلَى حُسْنِ الْوُصُولِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَطُوبَى لَكُمْ -مَعْشَرَ الشَّبَابِ- إِذَا كُنْتُمْ مُحَافِظِينَ عَلَى صِيَامِ الْإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَأَيَّامِ الْبِيضِ، وَالسِّتِّ مِنْ شَوَّالٍ، وَعَشْرٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَاشُورَاءَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ صِيَامُهَا.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الشَّبَابَ إِذَا تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْعِبَادَةِ، وَغَدَوْا مُلَازِمِينَ لِلتَّأَلُّهِ وَالنُّسُكِ، وَصَارُوا مِنَ الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْقُرُبَاتِ، وَالْمُسَابِقِينَ إِلَى نَوَافِلِ الْخَيْرَاتِ؛ فَمَا أَعْظَمَ أَثَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَكْثَرَ الْخَيْرَ الَّذِي سَيَجِيئُ مِنْهُمْ!

 

فَالْعِبَادَةُ إِذَا لَازَمَهَا الشَّبَابُ أَشْرَقَتْ نُفُوسُهُمْ، وَانْشَرَحَتْ صُدُورُهُمْ، وَتَحَدَّثُ الضِّيَاءُ مِنْ عَلَى قَسَمَاتِ وُجُوهِهِمْ، فَصَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَاسْتَقَامَ سُلُوكُهُمْ.

 

وَالْبُعْدُ عَنِ الْعِبَادَةِ مَوْتٌ، وَالْقُرْبُ مِنْهَا حَيَاةٌ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا ظَلَامٌ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا إِقْبَالٌ عَلَى مِشْكَاةِ النُّورِ الْعُظْمَى، قَالَ تَعَالَى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)[الْأَنْعَامِ: 122].

 

دَخَلَ ثَابِتُ بْنُ مُوسَى الزَّاهِدُ عَلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: "مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ".

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَشَبَابَنَا مِنَ الْعُبَّادِ الصَّالِحِينَ، وَالنَّاسِكِينَ الْقَانِتِينَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِالْإِسْلَامِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا وَافِرَ الْفَضْلِ وَالْإِنْعَامِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا خَيْرِ الْأَنَامِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الْأَخْيَارِ الْعِظَامِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا. أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: وَالْعِبَادَةُ إِذَا لَازَمَهَا الشَّبَابُ وَأَحْسَنُوا الْحَيَاةَ مَعَهَا: صَلَحَتْ عَلَاقَتُهُمْ مَعَ أُسَرِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، وَقَلَّتْ مُشْكِلَاتُهُمْ فِي الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُونَ فِيهَا، أَوِ الْبِيئَاتِ الَّتِي يَتَّصِلُونَ بِهَا، فَكَمْ مِنْ مُشْكِلَاتٍ مُجْتَمَعِيَّةٍ وَرَاءَهَا الشَّبَابُ الْبَعِيدُ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاحِ، فَمَتَى صَلَحَتْ هَذِهِ الشَّرِيحَةُ وَجَدَ الْوَالِدَانِ التَّغَيُّرَ الْحَسَنَ فِي سُلُوكِ وَلَدِهِمَا؛ فَأَصْبَحَ يُحْسِنُ مُعَامَلَتَهُمَا بَعْدَ الْإِسَاءَةِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمَا بَعْدَ الْجَفَاءِ، يَشْكُرُهُ جِيرَانُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ مُعَلِّمُوهُ وَزُمَلَاؤُهُ.

 

وَالسَّبَبُ أَنَّ الْعِبَادَةَ هَذَّبَتْهُ وَنَقَّتْهُ مِنْ أَخْلَاقِ السُّوءِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَصْبَحَ يَتَمَثَّلُ: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ أَحْمَدَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ".

 

فَيَا أَيُّهَا الْآبَاءُ، يَا أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ: إِنَّ الشَّبَابَ بِحَاجَةٍ إِلَى رَبْطِهِمْ بِالْعِبَادَةِ، وَتَحْبِيبِهَا إِلَيْهِمْ؛ حَتَّى يَأْلَفُوهَا وَيُحِبُّوا الْمُدَاوَمَةَ عَلَى لُزُومِهَا، وَيَكْرَهُوا هَجْرَهَا وَالِانْقِطَاعَ عَنْهَا بِبَيَانِ حَلَاوَتِهَا وَعِظَمِ السُّرُورِ تَحْتَ ظِلَالِهَا، وَحُسْنِ آثَارِهَا عَلَى الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، وَعَلَى صَاحِبِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ -تَعَالَى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].

 

اذْكُرُوا لَهُمْ نَمَاذِجَ مِنَ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي يَحْيَاهَا الْعَابِدُونَ، وَيَتَنَعَّمُ بِحَلَاوَتِهَا الصَّالِحُونَ؛ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ شَيْخِهِ الْعَالِمِ بِاللَّهِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -عَلَيْهِمَا رَحْمَةُ اللَّهِ-: "وَعَلِمَ اللَّهُ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَطْيَبَ عَيْشًا مِنْهُ قَطُّ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ وَخِلَافِ الرَّفَاهِيَةِ وَالنَّعِيمِ، بَلْ ضِدِّهَا، وَمَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْحَبْسِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْإِرْهَاقِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَشْرَحِهِمْ صَدْرًا، وَأَقْوَاهُمْ قَلْبًا، وَأَسَرِّهِمْ نَفْسًا، تَلُوحُ نَضْرَةُ النَّعِيمِ عَلَى وَجْهِهِ، وَكُنَّا إِذَا اشْتَدَّ بِنَا الْخَوْفُ وَسَاءَتْ مِنَّا الظُّنُونُ وَضَاقَتْ بِنَا الْأَرْضُ أَتَيْنَاهُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَرَاهُ وَنَسْمَعَ كَلَامَهُ فَيَذْهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ، وَيَنْقَلِبَ انْشِرَاحًا وَقُوَّةً وَيَقِينًا وَطُمَأْنِينَةً، فَسُبْحَانَ مَنْ أَشْهَدَ عِبَادَهُ جَنَّتَهُ قَبْلَ لِقَائِهِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَهَا فِي دَارِ الْعَمَلِ فَآتَاهُمْ مِنْ رَوْحِهَا وَنَسِيمِهَا وَطِيبِهَا مَا اسْتَفْرَغَ قُوَاهُمْ لِطَلَبِهَا وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا"، وَكَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ: "لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ".

 

وَعَلِّقُوا الشَّبَابَ بِالْعِبَادَةِ -أَيُّهَا الْمُرَبُّونَ- بِحَثِّهِمْ عَلَى اخْتِيَارِ الْجُلَسَاءِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ يُذَكِّرُونَهُمْ إِذَا نَسُوا، وَيَهْدُونَهُمْ إِذَا ضَلُّوا، وَيُعَلِّمُونَهُمْ إِذَا جَهِلُوا، وَيُحَافِظُونَ عَلَى بَذْرَةِ الْخَيْرِ فِيهِمْ، لِيُنَمُّوهَا بِسَقْيِهَا بِرُؤْيَةِ الْخَيْرِ وَفِعْلِهِ، وَسَمَاعِهِ وَالْوَعْظِ بِهِ.

 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ)، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ -عَلَيْهِمْ رَحْمَةُ اللَّهِ- يَتَوَاصَوْنَ بِالْجُلُوسِ إِلَى الصَّالِحِينَ وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ؛ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:

مَنْ كَانَ مُلْتَمِسًا جَلِيسًا صَالِحًا ** فَلْيَأْتِ حَلْقَةَ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامِ

فِيهَا السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَأَهْلُهَا ** أَهْلُ الْعَفَافِ وَعِلْيَةُ الْأَقْوَامِ

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ شَبَابَنَا مِنَ الْعَابِدِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَالصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَتَنَا وُولَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

 

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات

وسائل تربية الشباب العبادة وأثرها في تربية الشباب.doc

وسائل تربية الشباب العبادة وأثرها في تربية الشباب.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات