وحدة المسلمين الواقع والواجب

د. منصور الصقعوب

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ المَثَلان اللذان ضربهما النبي الكريم لوحدة المسلمين 2/ تنعُّم المسلمين بالوحدة حتى سقوط الخلافة العثمانية 3/ استمرار تقسيم المسلمين لدول بيد الأعداء منذ اتفاقية \"سايكس بيكو\" وإلى اليوم 4/ تفرق المسلمين على مستوى الأفراد 5/ أسس مهمة لقيام وحدة المسلمين 6/ تحقيق صورة الوحدة بإعانة إخواننا في الشام 7/ غرس قيم الوحدة في النفوس وتضافر الجهود لتحقيقها.

اقتباس

إن المسلمين -مهما تفرقت بلادهم, واختلفت لغاتهم- تجمعهم عقيدةٌ واحدةٌ, المسلمون تجمعهم شعائر واحدة, يصلون جميعاً, ويحجون سوياً, ويصومون في آن واحد, ويتوجهون لإله واحد. في الإسلام يؤمر المسلم بالشعور بإخوانه القريبين والبعيدين, والفرحِ لفرح المسلمين والحزنِ لحزنهم, وهنا تعلم أن الاجتماع والوحدة ليست على...

 

 

 

 

 

هل سمعتم يوماً من الأيام أن جسداً يشكو طرفه, وطرفه الآخر لا يحس بألمه؟ وما تقولون في بناءٍ لا تتعاضد أطرافه فيشد بعضه بعضاً؟ أليس يكون آيلاً للسقوط؟.

لقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلا لوحدة المسلمين وتناصرهم فقال: "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".

ووصف المسلمين بالجسد الواحد حين يشتكي عضو منه فإن الجميع يئن ويشكو, فقال -كما في الصحيحين-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".

إن الإسلام- أيها الكرام- وسامُ شرف, وكرامةُ هداية؛ وحق تلك النعمة القيام بحق الأخوّة.

الإسلام ليست له دولة محددة, ولا تحده حدود, ولا تقطع أوصاله حواجز.

لقد ظل المسلمون قروناً طويلة جنسيتهم واحدة, وظل حاكمهم واحدا, كانوا على هذا العهد في صدر الإسلام, وعهد الأمويين والعباسيين والعثمانيين, وما زالوا على ذلك العهد يهابهم عدوهم؛ لأنهم مجتمعون.

وحين سقطت الدولة العثمانية عام اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف بعد الهجرة، اتفق البريطانيون والفرنسيون آنذاك على تقاسم التركة الإسلامية, وكانت تلك الاتفاقية الجائرة المسماة بـ "سايكس بيكو", وهي ترمز إلى اسم الدبلوماسيين الفرنسي والبريطاني الذين قاما بتوقيع الاتفاقية.

وتلاها بعد سنوات تقاسم مصر ودول المغرب العربي وأجزاء من أفريقيا, فصارت دولة الإسلام متفرقة الأشلاء, بيد وإمرة الأعداء.

ظلت على هذا الأمر عدداً من السنين حتى استقلت تلك الدول واحدة تلو الأخرى, فكان أخطرُ أمرٍ عزم عليه العدو تقطيعَ أوصال المسلمين, فصار كل إقليم يستقل يجعل له حكومة مستقلة, فيتحقق أمران خطيران: حكومةٌ موالية لأعداء المسلمين, وبلادٌ فرقتها الحدود.

ولم يكتف أعداء المسلمين بهذا, فالسعْيُ مازال حثيثاً لتفريق بلاد المسلمين لإيهان القوى, ومثال: السودان وتقسيمه، والحديث عن تقسيم العراق وسوريا شاهدٌ على هذا؛ وللقوم تقارير تبين سعي العدو لتقسيم بلاد المسلمين قدر الطاقة, وها قد نالوا كثيراً مما سعوا له, فصارت بلاد المسلمين بعدما كانت تأتمر بأمر خليفة واحد, يحكمها الآن قرابة خمسينَ حاكما.

وهنا جاءت البلية للمسلمين, وما زلنا نكتوي بنار تلك الاتفاقيات الجائرة, فصرت ترى من يفرّق بين البلاد, بأن هذا بلد مستقل عن غيره, فلو صارت لبلدٍ بليةٌ؛ حال دونه ودون نصرة المسلمين حاجزُ الحدود وتفريقُ البلدان, حتى صار المسلمون يتناحرون فيما بينهم بحسب اختلاف أقاليمهم, فحصل التفرق الذي خشيه -عليه السلام- بقوله: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا، فَأَعْطَانِى ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِى وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّى أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا".

ونتيجة لذلك؛ وقع الأمر الذي قرره الله بقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) [الأنفال:46]، فلا تناصُرَ بين دول المسلمين, بل وأسوأ من هذا أن تُغلِق بلاد المسلمين حدودها فلا تستقبل اللاجئين المضطرين, الهاربين من الموت؛ فأي أخوة دينية هذه؟.

ولئن كان هذا التفرق على مستوى البلدان, فإن التفرق على مستوى الأفراد أمرٌ خطير بلينا به أيضاً, فكم ترى من يرى حدثاً ألم بأحد من المسلمين حوله فلا تراه يتحرك قلبه لغمّ إخوانه! ولا يتحرك لسانه ولا بدنه نصرة لهم! بل لربما عاب من ينصر إخوانه المسلمين المهضومين بقوله بلسان الحال أو المقال: عليك نفسك ودع عنك أمر الناس!.

وغَفَل هذا عن تحقيق الأخوة الإسلامية, وعن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أحد يخذل مسلما في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته".

كم ترى من يعيب الداعية حين يدعو لإصلاح فساد الناس, فترى هذا يقول: انتبِهْ لمن تحت يدك, ولا تشغل نفسك بالناس. وترى من يقول لمن ينادي برفع الظلم عن المظلوم: كلٌّ له من يطالب له, فلا تشغل نفسك بالآخرين.

ولربما رأيت من يدعو ربه ويطيل فلا يُشرك المسلمين من دعائه ولا باليسير, وأسوأ من ذلك من يرى أنه أفضل من غيره لأنه من دولة كذا, ويحتقر غيره من المسلمين لأجل بلدٍ أو لون أو غير ذلك!.

كم ترى من لا يفكر بأمر المسلمين إذا صفت حياته, وفي هؤلاء يقول ابن القيم: "وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل، وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه".

عباد الله: إن المسلمين -مهما تفرقت بلادهم, واختلفت لغاتهم- تجمعهم عقيدةٌ واحدةٌ, المسلمون تجمعهم شعائر واحدة, يصلون جميعاً, ويحجون سوياً, ويصومون في آن واحد, ويتوجهون لإله واحد.

في الإسلام يؤمر المسلم بالشعور بإخوانه القريبين والبعيدين, والفرحِ لفرح المسلمين والحزنِ لحزنهم, وهنا تعلم أن الاجتماع والوحدة ليست على العرق والبلد, وإنما على الدين والمعتقد؛ ولذا فقد كان أبو لهب عدواً للنبي -صلى الله عليه وسلم- مع أنه عمه, وكان بلالُ أخاً له وإن كان بعيداً, وقاتل أبو عبيدةُ أباه لأنه كان كافراً, وناصر المسلمينَ لأنهم على معتقده.

وإننا نرى في الواقع خطأين حين نتعامل مع وحدة المسلمين: فأما الأول فهو ما يصدر من البعض حين تغلبُ لديه عاطفة العرق والبلد على آصرة الدين, فتسمع مثل قول: أهل تلك البلاد يحلون مشاكلهم بأنفسهم, ودع الناس وشؤونهم, وهكذا، في عبارات تنبئ عن تقصيرنا تجاه المسلم أياً كان.

وأما الخلل الثاني فهو من ينادي بتآخي كل المنتسبين للإسلام على اختلاف مشاربهم, فكم نسمع من يقول, وربما من بعض من ينسب للدعوة: إن المسلمين ينبغي أن يتحدوا سنة وشيعة, بحجة أن الجميع مسلمون قبلتهم واحدة, فينبغي أن يتحدوا وتجتمع كلمتهم.

ولَعمري! كيف يجتمع النار والماء, والهدى والضلال؟ فلا يمكن أن يلتقي من يجلّ الصحابة ومن يخوِّنُهم, ومن يترضى عنهم ومن يشتمهم, ومن يعبد رباً ويتبع محمداً مع من يؤله علياً.

إن الوحدة -أيها المسلمون- ينبغي أن تقوم على أساسين مهمين: أولهما: ارتباطها بكتاب الله والسنة, فنحن يجمعنا الإسلام, على وفق كتاب الله وسنة رسوله -عليه السلام-.

وثانيهما: هو أنه ليس لنا من أجل تحقيق الوحدة أن نتنازل عن أصولنا, فالتنازل عن شعائر الدين لأجل الوحدة يُسخط الله علينا, ويفرقُنا ولا يجمعنا.

فوحدة المسلمين لا تعني أن نؤاخي أهل البدع, أو نتنازل عن عقيدتنا؛ وفي القرآن: (شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ) [الشورى:13]

أستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

عباد الله: الإسلام عبادة وأخوة, وآصرة تناصر ومحبة, فالمؤمل من كل مسلم أن يهتم بأمر المسلمين أياً كانوا.

إننا؛ ونحن نعيش هذه الأيام أجواءً باردة, ونرى إخواناً لنا في بلاد الشام تجمعنا معهم أشرف رابطة وهي الدين, قد اجتمع عليهم البرد الشديد, والجوع والتشريد, فالمسلم الحقّ من يحقق الوحدة ويهتم لهمهم, ويسعى لسد حاجتهم قدر استطاعته, ولم يحقق الأخوة من يبذل ماله في كل باب, وإذا جاء البذل للمسلمين انقبضت يداه, وفي الحديث المروي بسند حسنه بعضهم: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به".

أجل -أيها الكرام-، أي قلب يحمله مسلم مقتدر واجدٌ يغلق بابه على دفء وشِبَعٍ وأمن, ويرى إخوانه يسكنون خياماً كساها الثلج, باطنها الجوع وظاهرها البرد؟ أي قلوب نحملها ونحن نرى إخواننا يُمطرهم الظالم بالقصف ثم لا نساعدهم بلقمة غذاء أو قطعة كساء أو سلاح يقاومون به الأعداء؟.

لقد جلّت أحداث الشام وغيرها حقيقة الأخوة الإسلامية لدى كثير من الناس, فلئن قصر الكثير في حق الأخوة إلا أن من الناس من ضرب أروع الأمثلة في النصرة, قال أحدهم: جمعت مائتي ألف لأشتري أرضاً لأعمرها, وحين رأيت ما حلّ بالمسلمين بذلتها نصرة لهم, وعوضي أرجوه من الله.

وقال أحدهم: عزمت أن أشتري جهازاً جديداً, وحين رأيت الشدة حلت اكتفيت بما لدي, وبذلتُ ذلك نصرة للمسلمين, همم رائعة, فسل نفسك أنت: ماذا قدمت؟.

عباد الله: أخوّة المسلمين تعني أنه لا تفرقهم الحدود المحدثة, فهمّ بلاد مصر همٌّ لنا, وقضية فلسطين قضيتنا, وأحداث الشام تشغل بالنا، وأنات الجوعى في كل مكان ينبغي أن تجد صداها عندنا, وصرخات المسلمين في بورما وغيرها ينبغي أن نسعى لرفعها, ولن يعجز امرؤ واجدٌ عن بذل ماله, فإن حيل بينه وبين ذلك, فمن يحول بينه وبين السماء؟ وأعجز الناس من عجز عن الدعاء.

وبعدُ أيها الكرام: فليعلم كل مسلم أن الإسلام يعني أن يكون المسلمون في أي مكان وبلد محط اهتمامك وعنايتك قدر استطاعتك, ولا يكلف الله نفساً فوق طاقتها.

وإن من واجب المربي أباً كان أو معلماً أن يغرس في النفوس أن المسلم يعتني بالمسلمين من أي لون وبلد ولغة كانوا, وأنه لا فرق بين المسلمين إلا بالتقوى, فلا تقدس الأرض والبلاد أحداً, ولا يُفضَّلُ أحدٌ لأنه من بلد كذا, وإنما يتمايز المسلمون بالتقوى, ويقدس المرء عملُه, ورُب عجمي مسلم أقرب لله من كثيرٍ منا.

وأخيراً: أن تتضافر الجهود لجمع الكلمة وتوحيد المسلمين, بدءاً من الرابطة القريبة؛ العائلة, المدينة, الدولة, وهكذا.

وحينها يصدق علينا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".

 

 

 

 

المرفقات

المسلمين الواقع والواجب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات