وجود الله جل وعلا.. الإقلاع بالإيمان من دائرة التجريد والتعود إلى فضاء الإحساس والتذوق!

رشيد بن إبراهيم بو عافية

2024-01-12 - 1445/06/30 2024-01-21 - 1445/07/09
عناصر الخطبة
1/أعز كلمة في الوجود وأجلها وأعذبها 2/ أول مراتب الإيمان بالله سبحانه 3/وجود الله تعالى حقيقة راسخة 4/ الاستئناس والإحساس بوجود الله تعالى 5/استشعار معية الله ووجوده في كل حال 6/الثقة واليقين برب العالمين.

اقتباس

يشْكُرُ اليَسِيرَ من العَمَل.. ويَغْفِرُ الكَثِيرَ من الزّلَل.. أهلُ ذِكْرِهِ هم أهل مُجَالَسَتِه.. وأهلُ شكره هم أهل زيادته.. وأهل طاعَتِهِ هُم أهْلُ كَرَامَتِه.. وأهلُ مَعْصِيّتِه ِلا يُقَنّطُهُم من رَحْمَتِه.. يبتلي بالمصائبِ ليطهِّرَ من المعايِب.. الحَسَنَةُ عنده بِعَشْرِ أمثالِهَا إلى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفْ.. إلى أضعاف كثيرة.. والسّيّئَةُ عِنْدَهُ بواحِدَة.. فإن نَدِمَ عليهَا العبدُ واستغفر غَفَرَهَا له..!

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمدُ لله الذي تفرّد في أزليته بعزِّ كبريائه، وتوحَّدَ في صمديته بدوامِ بقائه، ونوَّرَ بمعرفته قلوبَ أوليائه، وطيَّبَ أسرارَ القاصدين بطيبِ ثنائه، وأسبَغَ على الكافّةِ جزيل عطائِه، وأمَّنَ خوفَ الخائفينَ بحُسْنِ رجائه، الحيِّ العليمِ الذي لا يعزُبُ عن علمِهِ مِثقالُ ذرّةٍ في أرضِهِ ولا سمائِهْ، القديرِ لا شريكَ له في تدبيره وإنشائه.

 

وأشهدُ أن لا إلهَ إلاّ الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيُّهُ من خلقه وحبيبُه، خاتمُ أنبيائه، وسيدُ أصفيائه، المخصوصُ بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، فجمع الأنبياء تحت لوائه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.

 

ثم أما بعد: معشر المؤمنين: أَعَزُّ كَلِمَةٍ في الوُجودِ وأجَلُّهَا وأعذَبُها وأفخَمُهَا: "الله"!

الله يا أعذب الألفاظ في لغتي *** ويا أَجَلَّ حرُوفٍ فِي مَعَانيها

الله يا أمتع الأسماء كم سعدت *** نفسي وفاض سروري حين أرويها

الله إن جاءت الدنيا بضائقة *** فالجأ إليها ففيها ما يجليها

الله تهتز أروَاحٌ لهيبَتِهَا *** وترتقِي وهْيَ جَذْلَى في مراقيها

الله.. كم للهِ من أثَرٍ *** في مهجتي أيُّ أوزانٍ ستُبْدِيها

اللهُ أجملُ ما نتلوه أحسَنُ ما *** يروي ضمائرنا طُهْرًا ويسقِيهَا

الله ما سكنت قلبًا فبات له *** في ظلها من معاناة يعانيها

الله ما رتل الوجدانُ روعتها *** إلا وأمسى قريرَ النفس راضيها

الله تبتسم الآمال يشرق في *** أرواحنا النور إن نادى مناديها

الله تسمو نفوس الهائمين بها *** وينتشي كل صَبٍّ عند حاديها

الله غيثٌ من الرضوان أودية *** سلسالةٌ تطرِب الأرواح تحييها

الله نور سماوي يهيج من *** لواعج الأنفس العطشى ويذكيها

الله يا سلوةً للقلب يا أملاً *** يرى المحبُّ أفانين المنى فيها

الله يا أحرف الإجلال ليس لها *** من أحرفٍ في مزاياها تساميها

الله يا عطر هذا الكون يا مددًا *** يفيض لطفًا وإحسانًا وتنزيها

اسم تسمّى به الباري فكان كما *** أراد يَعْبَقُ إجلالا وتأليها

 

معشر المؤمنين: كلمةُ "الله": حروفُها كلها جوفيّة إشعارٌ بأنّها أعمقُ الحقائقِ وكبرى اليقينيّات في الحياة، ولا نُقَط فيها؛ لأنَّ عليها المعتَمَد وهي لا تعتَمِد، وهي الاسمُ الأعظَمُ، عَلَمٌ على الذّاتِ الإلهيّةِ العَلِيّة المستَحِقّةِ لجميعِ المحامِد، ذُكِرت في القرآن العظيم ألفينِ وثلاثمائةٍ وستّينَ مرّة 2360، وهو اسمٌ تفرّدَ اللهُ به عن جميع العالمين، وقبضَ -سبحانه- أفئدَةَ الجاهلين فلم تتسَمَّى به من غيرِ مانعٍ ولا وازِع.

 

أوَّلُ مراتِبِ الإيمان به -سبحانه-: الإيمانُ بوجودِه، ووجودُ الله -تعالى- أمرٌ أجمعت عليه الأدلة والبراهين الساطعة بمختلف أنواعها النقلية والعقلية والبصرية المبثوثة في النفس والخَلق والكون، والمدعمة برصيد الفطرة والرسالات عن طريق الرسل الصادقين..

 

وهو أمرٌ لم ينكره إلا الدهريون والملاحِدَة؛ قال -تعالى-: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّون)[الجاثية:24].. قالوا: "لا إله والحياة مادَّة"، وهُمْ في قرارَةِ أنفُسِهِم يعلمون بطلانَ قولِهم بالفطرَة.

 

أيها الأحبّةُ في الله: ما أجملَ أن يرتقِيَ المؤمنُ في إيمانِهِ بوجودِ الله من دائرة التجريدِ والتعوّد إلى فضاءِ الإحساسِ والاستئناسِ والتذوّق.. حينها وحينها فقط يتذوّقُ العبدُ حلاوةَ الإيمان..

 

إي والله -أخي الحبيب-؛ حين ترتقي من مجرّد حفظِ وسردِ الأدلّة العقليّةِ على وُجودِ الله -تعالى- إلى تذوّقِ الأدلّة الميدانيّة على هذا الوجود والإحساسِ والاستئناسِ بهَا في الحياة.. تتفاعَلُ حقًّا مع هذا الوُجودِ التفاعُل الحيّ الذي يرفعُ ويدفع!

 

أجل -أخي الحبيب- إنّهُ وُجودُ مَنْ لا يغيبُ عن عِلمِهِ غائِب.. ولا يَعْزُبُ عن نظره عَازِب..؟! (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[يونس:6].

 

وُجودُ الذِي ابتلى إبراهيمَ بِكَلِمَات.. وسمع نداء يونس في الظلمات.. واستجاب لزكريا فوهبه على الكبر يحيى هادياً مهديّاً.. وحناناً من لدنه وكان تَقِيّاً.. أزال الكَرب عن أيوب.. وألاَنَ الحَدِيدَ لداود.. وسَخَّرَ الريح لسليمان.. وفَلَقَ البحر للكليمِ موسَى.. ورَفع إليه عبدَهُ ورَسُولَهُ عِيسَى.. ونجّى هوداً وصالحاً من الظالمين.. وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم.. وفَدَى إسماعيل بِذِبْحٍ عظيم... وجعل عيسى وأمَّهُ آية للعالمين.. وشَقَّ القَمَرَ لمحمد -صلى الله عليه وسلم-...

 

وُجودُ الذِي يغفر الذنبَ، ويفرّج الكرب، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، يحيي الميت ويميت الحي، ويجيب الداعي، ويشفي السّقيم، ويعزّ مَن يشاء، ويذل مَن يشاء، يجبر الكسير، ويُغني المحتاجَ الفقير، ويُعلّم الجاهل، ويهدي الضالّ، ويُرشد الحيران، ويغيث اللهفان، ويَفُكُّ العاني، ويُشْبِعُ الجائع، ويكسو العريان، ويشفي المريض، ويُقِيلُ العثرات، ويستر العورات، ويُؤَمِّن الرّوعات، ويعافي المبتلين، ويقبل التائبين، ويجزي المحسنين، وينصر المظلومين، ويقصم الطغاة المتجبّرين...

 

وُجودُ الذي -جلّ جلالُه، وطابَ وِصالُه-.. من أقبل إليهِ تلقّاه من بَعِيد.. ومن أعرض عنه ناداه من قريب.. ومن ترك مِنْ أجْلِهِ أعطاه فوق المزيد.. ومن أراد رضاه أرادَ ما يريد.. ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد..

 

يشْكُرُ اليَسِيرَ من العَمَل.. ويَغْفِرُ الكَثِيرَ من الزّلَل.. أهلُ ذِكْرِهِ هم أهل مُجَالَسَتِه.. وأهلُ شكره هم أهل زيادته.. وأهل طاعَتِهِ هُم أهْلُ كَرَامَتِه.. وأهلُ مَعْصِيّتِه ِلا يُقَنّطُهُم من رَحْمَتِه.. يبتلي بالمصائبِ ليطهِّرَ من المعايِب.. الحَسَنَةُ عنده بِعَشْرِ أمثالِهَا إلى سَبْعِمَائَةِ ضِعْفْ.. إلى أضعاف كثيرة.. والسّيّئَةُ عِنْدَهُ بواحِدَة.. فإن نَدِمَ عليهَا العبدُ واستغفر غَفَرَهَا له..!

 

من تقرّب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً.. ومن تقرّب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً.. ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.. فالباب مفتوح ولكن أينَ من يَلِج؟!.. والمجالُ مفسوح ولكن أينَ من يُقبِل؟!.. والحبل ممدُودٌ ولكن أينَ من يتشبث به؟!.. والخير مبذول ولكن أينَ من يتعرض له؟!.. أين الباحثون عن الأرباح..؟! وأين خُطّاب المِلَاح..؟! أينَ عُشّاق العرائس..؟! وطلاّب النفائس..؟! لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله..!

 

إليهِ وإلاّ لاَ تُشَدُّ الرّكَائِبُ *** ومنه وإلاّ فالمُؤَمّلُ خَائِبُ

وفيه وإلاّ فالغَرَامُ مُضَيَّعٌ *** وعنه وإلاّ فالمُحَدّثُ كَاذِبُ

 

هيَّا هاتِ يَدَكَ.. وابتسِم؛ فمعَ اللهِ -جلَّ جلالُه- سوفَ يرتاحُ البال، وتتبدَّلُ الأحوال، وتنفرِجُ الأهوال، سوفَ يهدأُ الضمير، ويسكُنُ الفؤاد، وتندمِلُ الجراح، وتتصِلُ ولو في جوفِ المِحَنِ الأفراح.. ما يفعلُ أعدَائِي بِي.. ما يفعَلُون..؟!؛ وجنّتِي في صدرِي!، أينَما ذهبتُ فهيَ معِي.. لأنّ اللهَ معِي...

 

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين)[الأعراف: 194-196].

 

نسألُ الله التوفيق إلى ما يُحب ويرضَى. أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيمَ لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرّحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

معشر المؤمنين: إنّهُ الإقلاعُ بالإيمانِ والكيانِ من دائِرَة التجريدِ والجفافِ والتعوُّد، إلى فضاءِ الإحساسِ والاستئنَاسِ والتذَوُّق!

 

إنَّهُ الاستئناسُ والإحساسُ بوجودِ اللهِ -جلّ جلالُه-!؛ اللهِ الذي أضحك وأبْكَى، وأمات وأحيا، وأسعد وأشقى، وأوجد وأبلى، وخلقَ الذّكَرَ والأنثَى، ورفع وخفض، وأعَزَّ وأَذَل، وأعطى ومنع، ورَفَعَ ووَضَع..!

 

إنَّهُ الاستئناسُ والإحساسُ بوجودِ اللهِ -جلّ جلالُه-..! الذي مَزّقَ شمل الجبابرة، ودمّر سَدَّ مأرَبَ بفأرة، وأهلك النُّمْرُودَ ببعوضة، وهَزَمَ أبْرَهَةَ بطيرٍ أبابيل..!

 

إنَّهُ الاستئناسُ والإحساسُ بوجودِ اللهِ -جلّ جلالُه-..! إذا حَلَّ في الصدرِ الهَمُّ، وخَيَّمَ على القلبِ الغَمّ، واشتَدَّ الكرب، وعَظُمَ الخَطْبُ، وضَاقَتِ السُّبُلُ، وبَارَتِ الحِيَلُ.. ونَادَى المنادي في الظلماتِ: لا إله إلا أنت سبحانكَ إنّي كنت من الظالمين..

 

اللهُ اللهُ ربّي لا أُشرِكُ بهِ شيئًا... "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم"؛ فإذَا بالهمّ ينفرِج، وإذا بالكَربِ يتنفّسْ... اللهُ أكبَر..!؛ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88].

 

إنَّهُ الاستئناسُ والإحساسُ بوجودِ اللهِ -جلّ جلالُه-..! إذا اشتد المرض، وضعف الجسمُ، وشَحَبَ اللون، وقلت الحيلة، وضعفت الوسيلة، وعجز الطبيب، وحار المداوي، وجزعت النفس، ورجفت اليد، ووجِفَ القلب، واتجه العَلِيلُ، إلى العليّ الجليل...: يا الله... يا الله..!، فزال الداء، ودب الشفاء، وسُمع الدعاء...اللهُ أكبَر..!

 

(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 83، 84].

 

ماذا تُريدُ أيُّهَا الإنسانُ أكثَرَ من هذه البيّنَات..؟!

يا راكضاً في ميادين الهوى مَرِحاً *** ورافلاً في ثِيَاِب الغَيّ نشوانَا

مَضَى الزّمَانُ وَوَلّى العُمْرُ فِي لَعِبٍ *** يَكْفِيكَ مَا قَدْ مَضَى قَدْ كَانَ مَا كَانَا

لا إله إلا الله..!

 

معشر المؤمنين: أسألُ اللهَ لي ولكم صدقَ الإسلام، وحلاوةَ الإيمان، وتذوّقَ جَمالِ الإحسان.

 

اللهمّ وفقنا إلى ما تحِبُّ وترضَى.

 

اللهم حبّب إلينا الإيمان وزَيّنه في قلوبِنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشِدِين.

 

وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

وجود الله جل وعلا.. الإقلاع بالإيمان من دائرة التجريد والتعود إلى فضاء الإحساس والتذوق!.doc

وجود الله جل وعلا.. الإقلاع بالإيمان من دائرة التجريد والتعود إلى فضاء الإحساس والتذوق!.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات