وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون

ناصر بن محمد الأحمد

2014-11-12 - 1436/01/19
عناصر الخطبة
1/تأثر الصحابة بالقرآن وغفلة بعض المسملين في الوقت الحاضر عنه 2/وقفة مع قوله: (وبدالهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) وخوف السلف من ذلك 3/استهانة بعض المسلمين بالذنوب والمعاصي وبعض مظاهر ذلك 4/بعض من زين الشيطان لهم أعمالهم في الدنيا 5/خوف السلف من مكر الله 6/الحث على التوبة وحقيقتها

اقتباس

أيها المسلمون: آية في كتاب الله -تعالى-، شابت منها رؤوس الأتقياء، وخفقت عند قراءتها قلوب الأولياء، وعند النظر إلى رسمها في المصحف، ساحت دموع الخائفين، وعند سماعها ارتعشت أجسام المعظمين لله -تعالى-. لقد خاطب...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: كم نمر على آيات كتاب الله العظيم قراءةً وسماعاً ودراسةً، ولكن من الذي يستفيد من هذه الآيات؟

 

إن من الفوارق العظيمة بيننا وبين جيل الصحابة -رضي الله عنهم-: أنهم كانوا إذا قرؤوا القرآن تأثروا به، وظهر هذا التأثر في عباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم، وزهدهم في الدنيا، وإقبالهم على الآخرة.

 

بهذا التدبر لكتاب الله صار جيل الصحابة -رضي الله عنهم-، صار جيلهم مضرب مثلٍ للمجتمع المثالي.

 

انه مجتمع العزة، ومجتمع الخضوع لله لا لغيره، مجتمع المحبة الصادقة، مجتمع الوضوح والصدق في التعامل.

 

إننا -أيها الإخوة في الله- نقرأ القرآن، ونمر على آيات كان بعض السلف إذا قرأها مكث أياماً في بيته يزار، من شدة ما يجد من أثر هذه الآيات، كانوا يجدون شيئاً نحن لا نجده اليوم إلا ما شاء الله، كانوا يستشعرون أن هذا الكلام إنما هو كلام الله، ليس كلام بشر.

 

يا حسرتا على قوم من المسلمين إذا عظموا أحداً من البشر الضعفاء حفظوا كلامه، ولامست عباراته سويداء قلوبهم، وتزيد الحسرة وتعظم البلية إذا كان هذا الكلام صادراً من عدو من أعداء الله، أو داعية من دعاة الفساد.

 

أيها المسلمون: آية في كتاب الله -تعالى-، شابت منها رؤوس الأتقياء، وخفقت عند قراءتها قلوب الأولياء، وعند النظر إلى رسمها في المصحف، ساحت دموع الخائفين، وعند سماعها ارتعشت أجسام المعظمين لله -تعالى-.

 

لقد خاطب نوح -عليه السلام- قومه، فقال: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح: 13].

 

أليس من توقير الله أن يُوقر كلامه، وتُعَظَّم آياته؟

 

بلى -والله-، ولكن أين المتعظون؟ وأين المعظمون في زمن استحكم فيه حب الدنيا وكراهية الموت، في زمن كثر فيه لبس الحق بالباطل، واستشرفت الدنيا للخاطبين لها؟.

 

عباد الله: الآية التي أشرنا إليها والتي هي وقفتنا في هذه الجمعة، وما أشدها على المتقين قوله تعالى: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47].

 

ما أشده من موقف؟ وما أعظمها من مفاجأة حينما يظهر للإنسان شيء لم يحسب له حساباً، هذا في الدنيا فما بالكم -يا عباد الله- بالآخرة؟

 

هذه الآية -أيها المؤمنون- كانت تشتد على الخائفين؛ لأنهم علموا أن من العباد من يبدو له شيء لم يتوقعه مطلقاً، قال بعض السلف: "كم موقف خزي يوم القيامة لم يخطر على بالك قط، ونظير هذا قول الباري -جل وعز-: (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[ق: 22].

 

قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- عن قول الله: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47] قال: "عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات".

 

فيا أيها العبد المؤمن: ها أنت اليوم حي وغيرك قد مات، وأنت اليوم تقرأ القرآن، وقد يأتي يوم يحال بينك وبينه، وأنت اليوم تستطيع المراجعة والمحاسبة، وغيرك لا يستطيع، هل فكرت في يوم من الأيام كيف سيكون موقفك يوم العرض على الله؟

 

أيها المسلمون: إن منّا من يغترّ بأنه مسلم؟ ومنّا من إذا صلى ظن أنه ناجٍ لا محالة ولا يعبؤ بفعل الحرام ولا بترك الواجب؟

 

وان هذا الأمن من مكر الله ليس من صفات المؤمنين المتقين، فإنه لا: (يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)[الأعراف:99].

 

أيها الأحبة: إن منّا من يعمل الذنب ثم يحتقره ويستهين به، فيكون ذلك الذنب سبباً في هلاكه، كما قال تعالى: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].

 

يقول أنس -رضي الله عنه-؛ كما في صحيح البخاري: "إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات".

 

رضي الله عنك يا أنس، تقول هذا لقوم فيهم الصحابي، وفيهم التابعي، فكيف لو رأيت حالنا يا أنس؟ كيف لو رأيت حال المتساهلين بأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ كيف لو رأيت الراضين ببث السموم في بيوتهم من خلال أجهزة الإعلام، وعبر القنوات الفضائية التي يبث فيها الزنا الصريح، والعهر والدعارة؟ بل وهناك برامج لتعليم هذه الأشياء لأبناء الشعوب التي تبث عليهم، ناهيك عن الشرك والزندقة والكفر بالله، والذي يعرض في بيوت المسلمين المصلين؟ كيف لو رأيت يا أنس من يمر عليه الأسبوع والشهر ولم يصلوا الفجر في جماعة ولا في وقتها؟

 

اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أعمالنا يا أرحم الراحمين.

 

هذه بعض الذنوب وغيرها كثير يحتقره الإنسان، ويستهين به، ويكون هذا الذنب سبباً في هلاكه: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].

 

فتحسب أن الجلوس أمام الشاشة الملونة هينة، وهي عند الله عظيمة.

 

ويحسب بعض الأسر أن ما يحصل عندهم من الاختلاط الداخلي الخاص، خصوصاً بين زوجات الأبناء هيناً، وهو عند الله عظيم.

 

وتحسب أن إسبالك لثوبك هيناً وهو عند الله عظيم.

 

وتحسب أن راتبك كله حلال، وقد دخله أشياء وأشياء وهي عند الله عظيمة.

 

ويحسب كثير من الأسر ممن اعتادوا السفر إلى الخارج في عطلة الصيف هروباً من حر ورطوبة المنطقة، ونقصد بالخارج دول الكفار، والتي كلام العلماء فيها واضحاً بالحرمة، فيحسب أن هذا هيناً وهي عند الله عظيمة.

 

وتحسب وتحسب وتحسب، أن هذه الذنوب هينة وقد تكون هي السبب في هلاكك -نسأل الله العافية-، قال الله -تعالى-: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47].

 

أيها الإخوة في الله: إن أعظم ما يجب أن نخشاه إن كنا عقلاء أن نكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسناً، قال الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 103- 104].

 

يقول سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى-: "لما حضرت محمد بن المنكدر الوفاة جزع فدعوا له أبا حازم، فجاء فقال له ابن المنكدر الذي ينتظر الموت: إن الله يقول: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47] فأخاف أن يبدوا لي من الله ما لم أكن أحتسب، فجعلا يبكيان جميعاً، فقال أهل ابن المنكدر لأبي حازم: دعوناك لتخفف عليه، فزدته جزعاً.

 

أيها العبد المؤمن: احذر أن تعجبك نفسك، أو تعجبك طاعتك أو عبادتك أو استقامتك، فقد قيل لسليمان التيمي: أنت أنت ومن مثلك؟ فقال: مه لا تقولوا هذا، لا أدري ما يبدوا لي من الله، سمعت الله يقول: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

 

الله أكبر، ما أعظم هؤلاء الرجال؟ وما أعمق فقههم لآيات التنزيل؟ وما أحوجنا إلى الاقتداء بهم؟.

 

تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح

 

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في كتابه، والعمل بشرعه، انه جواد كريم، بر رؤوف رحيم.

 

بارك الله لي ولكم …

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله …

 

أيها الإخوة في الله: قال الله -تعالى-: (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).

 

إن من الذين يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، قومٌ عملوا أعمالاً صالحة ولكن كانت عليهم مظالم، فظنوا أن أعمالهم الصالحة ستنجيهم، فجاء الحساب فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، حيث اقتسم الغرماء حسناتهم كلها ثم أخذ من سيئات الغرماء فوضعت في موازينهم، فطرحوا في النار.

 

ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أتدرون من المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فان فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".

 

فيا أيها المسلمون: الحذر الحذر أن نكون ممن إذا خلا بنفسه صنع ما شاء، فلا يبالي بعين الله التي ترقبه، فقد جاء في سنن ابن ماجة عن ثوبان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إنَّ من أمتي يجيء بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً".

 

سبحان الله! كيف تصير الأعمال الصالحة التي مثل الجبال هباءً منثوراً؟

 

ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنهم قوم من جلدتكم، ويتكلمون بألسنتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها".

 

أيها الإخوة المؤمنون: إن كنا مؤمنين حقاً فهيا بنا نطبق على أنفسنا ميزان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وما هذا الميزان؟

 

يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه، فقال به هكذا".

 

فاسأل نفسك -يا عبد الله- هل أنت من الذين يرون ذنوبهم كالجبال أم من الذين يرونها كالذباب؟

 

أيها الإخوة المؤمنون: بإمكاننا اليوم أن نبدأ في فك القيود، وإبراء الذمم، وأداء حقوق الله وحقوق خلقه قبل أن يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه ندم ولا فِداء، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون)[الزمر: 47- 48].

 

إن أملنا بالله كبير، وهو الرحمن الرحيم، أن يدرك المسلمون خطورة ذلك اليوم العظيم، وكيف يظهر للعبد فيه أمور لم يحسب لها حساباً.

 

ولكن لا تكن كثرة ذنوبك -أيها العبد- عائقاً عن الاستقامة على الجادّة، فإن: (رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف:56].

 

ذنوبي إن فكرت فيها كثيرة *** ورحمة ربي من ذنوبي أوسع

وما طمعي في صالح قد عملته *** ولكنني في رحمة الله أطمع

 

اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة …

 

اللهم آت نفوسنا تقواها …

 

اللهم آمنا في أوطاننا...

 

 

 

 

المرفقات

لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات