وأحسنوا إن الله يحب المحسنين

حسان أحمد العماري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مفهوم الإحسان 2/ مجالاته 3/ ثمراته 4/ من صفات المحسنين 5/ حاجتنا له

اقتباس

والإحسان في أمور الدنيا يشمل الحياة كلها؛ إذ إن الحياة لا تنمو ولا تزدهر، والحضارات والدول لا تُبْنَى ولا تتقدم إلا بالإحسان: إحسان التخطيط، وإحسان التنفيذ، وإحسان التقدير. ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بالإحسان؛ قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم:31].

 

 

 

 

الحمد لله مستحق الحمد بلا انقطاع، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يستطاع، والوهاب المنان، الرحيم الرحمن، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خير إلا منه، ولا فضل إلا من لدنه.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجميل العوائد، الجزيل الفوائد، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عالم الغيوب، مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.

 

   تلـك الطبيعـةُ قـِفْ بنـا يا سـاري *** حتى أُريك بديعَ صنعِ الباري

   الأرضُ حولـَكَ والسمـاء اهتـزَّتـا *** لروائـع الآيـاتِ والآثــارِ

   ولقـد تمرُّ علـى الغـديـر تخالُـه *** والنبت مـرآة زهـَتْ بإطـارِ

   حلـوُ التسلسـل موجُـه وخـريـرُه *** كأنامـلٍ مـرّت علـى أوتـارِ

   سبحان من خلـق الوجـودَ مصـوِّرًا *** تلـك الدّمـى ومقـدّرِ الأقـْدارِ

 

وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، الوافي عهده، الصادق وعده، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيّد بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيه، صلاة تشرق إشراق البدور.

 

أما بعــــــــد: عبـــاد الله: يقول أنس بن مالك -رضي الله عنه-: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أَجَبْتُكَ"، فَقَالَ الرَّجُلُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: "سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ"، فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ"، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ"، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ: "اللَّهُمَّ نَعَمْ"، قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ نَعَمْ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. رواه البخاري.

 

وفي رواية أخرى أن الرجل قال: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنَّ،  فَقَالَ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ" رواه مسلم.

 

لقد استدل هذا الأعرابي على الله بقدرته وإحسانه في خلق هذا الكون الفسيح وما فيه من جمال وروعة متناسقة في مخلوقاته، ثم أدرك ما عليه من واجبات وتكاليف، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة إن صدق في اتباعه وأحسن في عمله، وكل عمل لا يتوفر فيه الإحسان والإتقان مردود على صاحبه.

 

والإحسان هو مراقبة الله -تعالى- وحسن طاعته، فإن مَن راقب الله -تعالى- أحسن عمله؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

 

وقد وصف الله -تعالى- نفسه بالإحسان، فقال جل شأنه: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) [السجدة:7].

 

ومنح حبه للمحسنين، وبين أنه لا يضيع أجرهم، وهو معهم بنصره وتأييده، قال -تعالى-: (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينا لَنَهْدينَّهُم سُبُلَنا وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].

 

ويتسع خُلُق الإحسان ليشمل القول والعمل من إحكامه وإتقانه في كل حال ومع كل أحد، ففي مخاطبة الناس بعضهم مع بعض يجعل الكلمة الطيبة من الإحسان، قال -تعالى-: (وقُل لِعِبَادي يقُولوا الَّتِي هِي أحْسَنُ) [الإسراء:53].

 

وأحسن الكلام ما كان دعوة خالصة لوجهه الكريم، وتوصية أو موعظة سديدة لعباده المؤمنين، قال -تعالى-: (وَمَنْ أحسَنُ قولاً ممَّنْ دعَا إلى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَال إِنَّني مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33].

 

ومن صفات المحسنين كما جاءت في القرآن الكريم حرصهم على الطاعات، وتقربهم إلى الله بالعبادات، قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتاهُمْ ربُّهُمْ إنَّهُم كانُوا قبْلَ ذلكَ مُحْسِنينَ * كانُوا قَلِيلاً مِن اللَّيْلِ مَا يهْجَعُون * وَبِالْأسْحَار هُمْ يستغْفِرُونَ * وفى أمْوالِهِمْ حقٌّ للسائلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات :15-19].

 

والإحسان صفة توجب الحب، وتأسر القلوب، كما يقول الشاعر:  

أحسِنْ إلى الناس تستعْبِدْ قلوبَهُمُ *** فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

 

وأعظمُ الإحسانِ إحسانُك مع الله في توحيده وعبادته، وأن تخلصَ له عملَك، فتبتغي بعملك وجهَ الله والدارَ الآخرة، ثمّ تحسن العملَ فيكون عملك على وفق ما شرع الله ورسوله، فإنّ الله لا يقبل عملَ عامل إلا إذا كان عمله خالصًا لوجه الله، وكان عمله على وفق ما شرع الله، (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [الكهف:110].

 

والإحْسَان في عبادة الله له ركن واحد بيَّنه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "بأن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك"، فتشعر بعظمة الله وقدرته ووحدانيته وألوهيته في هذا الكون، ثم تؤدي ما افترض عليك بجودة وإتقان.

 

فإحسانك في الصلاة يحتاج إلى المحافظة عليها وأدائها بخشوع، وأن تشعر بأنّ الله مطلع عليك، فكثير من الناس يهتمون بحركاتها ويخرجون منها لم ينتفعوا بشيء.

 

والزكاة، إحسانك في هذه العبادة أن تخرجها في وقتها ومن أحب المال لديك، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [البقرة::267].

 

وكذلك الصوم والحج وسائر العبادات تحتاج منا إلى إحسان وتجويد وإخلاص.

 

ومن أنواع الإحْسَانِ الإحسانُ إلى الوالدين، قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23-24].

 

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ العمل أفضل؟ قال: "الصَّلاة لوقتها". قال: قلت: ثمَّ أي؟ قال: "برُّ الوالدين". قال: قلت: ثمَّ أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".

 

وكذلك الإحْسَان إلى الجار، فعن أبي شُريح الخُزاعي أن النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت".

 

اليتامى والمساكين لهم من الإحسان الحظ الأوفر، ويكون بالمحافظة على حقوقهم، والقيام بتربيتهم، والعطف عليهم، ومدُّ يد العون لهم، قال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ) [البقرة:83].

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: إنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله قسوة قلبه، فقال: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين".

 

وفي رواية: أنَّ رجلًا جاءه يشكو قسوة قلبه، فقال له: "أتحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه مِن طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك".

 

وذلك أنَّ القلب يتبلَّد في المجتمعات المترفة واللاهثة وراء رغباتها وأطماعها والتي تصبح وتمسي وهي لا ترى مِن الحياة غير آفاقها الزَّاهرة ونعمها الباهرة، والمترفون إنَّما يتنكَّرون لآلام الجماهير؛ لأنَّ الملذَّات التي تُيَسَّر لهم تُغلِّف أفئدتهم وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألم المتألِّم وحزن المحزون، والنَّاس إنَّما يُرْزَقون الأفئدة النَّبيلة والمشاعر المرهفة عندما ينقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويُبْلَون مسَّ السَّرَّاء والضَّرَّاء، عندئذ يحسُّون بالوحشة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثَّكلى، وبالتعب مع البائس الفقير.

 

ومن ذلك الإحسان إلى الزوجة والأولاد والبنات والأخوات، بحسن الرعاية والتربية والمعاملة الحسنة، وهو باب كبير وفيه أجر عظيم؛ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْنَا فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: "مَنْ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ" رواه البخاري.

 

وفي رواية فَقَالَ: "مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنْ النَّارِ" رواه البخاري في الأدب.

 

عبـاد الله: وفي المعاملات فقد أمر الله بالإحسان والعدل، قال الله -تعالى-: (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص:77]، وقال -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النَّحل:90].

 

قرأ الحسن البصري هذه الآية: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ثمَّ وقف فقال: إنَّ الله جمع لكم الخير كلَّه والشَّر كلَّه في آية واحدة، فو الله ما ترك العدل والإحْسَان شيئًا مِن طاعة الله -عز وجل- إلَّا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي مِن معصية الله شيئًا إلَّا جَمَعه.

 

وقال -جل جلاله-: (وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلإِنْسَـانِ عَدُوّا مُّبِينًا) [الإسراء:53].

 

معاملة حسنة في السلم والحرب، في السراء والضراء، معاملةُ النَّاس بمقتضى الشرع الحنيف، بالوفاء والصِّدق والعدل والرَّحمة والتواضع والصَّبر والاحتمال والقول الحسن، وأن تعاملَهم بما تحبُّ أن يعاملوك به، قالَ اللهُ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [المائدة1].

 

في خلافة عمر بن عبد العزيز دخل قائد جيشه قتيبة بن مسلم الباهلى وجيشه بلاد سمرقند فجأة ولم يخيروا أهلها بالإسلام ولا بالجزية ولا بالحرب خوفاً من مكر أهلها ولاتساع أرضها، فعلم أهل سمرقند بأن هذا مخالف للإسلام، فكتب كهنتها إلى خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز يشكون قتيبة بن مسلم، فقرأها ثم قلبها فكتب على ظهرها: "من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله في سمرقند، أن انصب قاضياً ينظر فيما ذكروا".

 

ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند فنصّب لهم القاضي جُمَيْع بن حاضر الباجي لينظر في شكواهم, ثم اجتمعوا في يوم وتكلموا بدعواهم، فقال القاضي لخليفة قتيبة وقد مات قتيبة -رحمه الله-: أنت، ما تقول؟ قال: لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة فخشي قتيبة إن أذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه.

 

قال القاضي: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً, ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن يؤذنهم القائد بعد ذلك وفقاً للمبادئ الإسلامية.

 

ما ظنّ أهل سمرقند أنّ تلك الكلمات ستفعل فعلها، ما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، خرج الجيش كله، ودعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال.

 

فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها, قالوا: هذه أمة حُكمُها رحمة ونعمة, فدخل أغلبهم في دين الله وطالبوا ببقاء جيش المسلمين. فهل رأيتم معاملة أحسن وأرقى من معاملة الإسلام؟.

 

وإن مِن أجلِّ أنواع الإحْسَان: الإحْسَان إلى مَن أساء إليك بقولٍ أو فعلٍ. قال -تعالى-: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصِّلت:34-35].

 

ومن كانت طريقته الإحْسَان، أحسن الله جزاءه: (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ) [الرحمن:60].

 

بل حتى في القتل والذبح ومع الحيوان أمر الإسلام بالإحسان والتعامل الرحيم معه، عن أبي يعلى شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة؛ وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" رواه مسلم.

 

اللهم ارزقنا الإحسان في كل شيء، وخذ بنواصينا إل كل خير.

 

قلت قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

 

 

الخطبة الثـانيــة:

 

عبـادَ الله: إننا مطالبون شرعاً بالإحسان في جميع مجالات الحياة: في عباداتنا وتصرفاتنا ومعاملاتنا وأعمالنا، فالموظف والعامل والمدرس والقاضي والوزير والحاكم والمحكوم والرجل والمرأة كلٌّ في عمله مطالب بالإحسان ومراقبة الله فيما يقوم به من أعمال وبما كلف من مسؤوليات.

 

إننا مطالبون بالإحسان في جميع أعمالنا وتصرفاتنا بعد أن رأينا جرأة على حدود الله، واستطالة المسلم في عرض أخيه وماله ودمه.

 

والإحسان في أمور الدنيا يشمل الحياة كلها؛ إذ إن الحياة لا تنمو ولا تزدهر، والحضارات والدول لا تُبْنَى ولا تتقدم إلا بالإحسان: إحسان التخطيط، وإحسان التنفيذ، وإحسان التقدير. ولا نجاة في الدنيا والآخرة إلا بالإحسان؛ قال -تعالى-: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم:31].

 

والمحسن في عمله وتصرفاته وسلوكه يظل محسناً مهما كثرت الابتلاءات والمصائب والفتن، وهو أيضاً لا يغتر بهذه الدنيا ولا يفتن بشهواتها وأموالها ومناصبها؛ بل يظل ثابتا على الحق والخير.

 

فهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- دخل السجن ظلماً وعدواناً، فقال له زملاؤه بالسجن وقد طلبوا منه أن يفسر لهم رؤياهم: (إنا نراك من المحسنين).

 

وبعد أن خرج وأصبح في قصر الملك وتحت يده الجيوش والأموال جاء إخوته إليه وهم لا يعرفونه يستَجْدُون منه ويطلبون أن يوفي لهم الكيل، واتهموا أخاه بسرقة صواع الملك، فلم يكتفوا بما فعلوا بيوسف -عليه السلام-: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف:77-78].

 

وهكذا يوسف -عليه السلام-،  كان محسناً وهو في السجن، ومحسناً وهو على كرسي الملك.

 

 فأحسِنوا -عبــادَ الله- بما أمركم به من الطاعات، وبترك ما نهاكم عنه من المحرّمات، قال الله -تعالى-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].

 

ثم اعلموا أن الله -تبارك وتعالى- قال قولاً كريماً، تنبيهاً لكم وتعليماً وتشريفاً لقدر نبيه وتعظيماً: (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].

 

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وخلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلى.

 

وارض اللهم عن بقية الصحابة والقرابة وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك يا أرحم الراحمين...

 

والحمد لله رب العالمين.  

 

 

 

المرفقات

إن الله يحب المحسنين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات