عناصر الخطبة
1/أعظم نعيم الحياة القرب من الله 2/رمضان شهر القرب من الله 3/من معاني قرب الله من عباده 4/الحث على الاجتهاد في العشر الأواخر 5/فضل قيام الليلاقتباس
فكانوا يتلذذون بالليل وقدومه، فلا تسل عن فرحهم إذا ظفروا به، ذاك حالهم في سائر العام، قال أبو سليمان الدارني -رحمه الله-: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت الدنيا"، وقال ثابت البناني -رحمه الله-: "ما شيء أجده في قلبي ألذ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: أعظم نعيم الحياة هو القرب من الرب -عز وجل-، وأعظم منه قرب الرب -جل وعلا- من عبده، ومن رحمة الله بنا أن أخبرنا أنه قريب من عباده، فقال -سبحانه- في أثناء آيات الصيام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة: 186]، وجعل لنا فرصاً كثيرة للقرب منه -سبحانه-، ورغبنا في ذلك فقال -جل وعلا- عن عبده: "إِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"(رواه مسلم).
لله ما أرحم الله وألطفه بنا! ها هو يحثنا على القرب منه -سبحانه- ويغرينا بفضله وجوده وفيض عطائه، ورمضان من أعظم فرص القرب من الرب -جل وعلا-، وشهر القرب يهتف بنا في عشره الأخيرة: "هيا اقترب".
فالخير منك قد اقترب *** اسجد لرب واقترب
هيا اقترب
فالشهر آذن بالرحيل *** والعشر ميدان القرب
هيا اقترب
وأزل عن النفس الوصب *** كيما تطيب من العطب
هيا اقترب
نبع الهداية مغدق *** يا فوز من منه شرب
هيا اقترب
كم من فؤاد غافل *** من بعد قسوته رطب
هيا اقترب
سارع لربك تائباً *** كن صاحب العقل الأرب
هيا اقترب
كن سابقاً ومبادراً *** جنات ربك تقترب
الله ربنا قريب من عباده يحب لهم القرب، هو المربي لجميع عباده بالتدبير وأصناف النعم، وأعظم تلك النعم تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم وأخلاقهم، والله هو الفتاح الذي فتح بلطفه بصائر الصادقين، وفتح قلوبهم لمعرفته ومحبته والإنابة إليه؛ (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[فاطر: 2].
الله هو البر الرحيم، يفيض على عباده من نسائم الخير وفرص القرب منه والإنابة إليه، بل يجعل في الفرصة فرصاً، وفي الخير خيراً، فرمضان هبة الله وفي أثناء هذه الهبة العشر الأواخر منه، التي هي خير ليالي العام، كيف وفيها ليلة القدر؟! التي قال الله عنها: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[القدر: 2، 3]، وقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان: 3، 4].
وفي ثلث الليل الآخر يكون العبد قريباً من ربه؛ يتلمس فضله وجوده وبره ورحمته ومغفرته، فعن عمرو بن عبسة أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن"(رواه الترمذي وصححه الألباني)، فما أجمل أن يأوي العبد إلى محرابه ويجعل جبهته على الأرض، وهو يستشعر أن تلك أشرف حالات القرب من ربه!، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(رواه مسلم)، فيتلذذ بقربه من ربه ويلح عليه بالدعاء، ويعترف لربه بظلمه لنفسه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي"، قَالَ مُحَارِبٌ: "فَإِنَّهُ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رواه ابن أبي شيبه).
اللهم ارزقنا القرب منك يا حي يا قيوم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
عبد الله: يا من يريد القرب من ربه، دونك هذه العشر فهي ميدان سبق للسابقين إلى الله؛ ولذا اهتبلها الصالحون لزيادة القرب من ربهم، وكان من أعظم الناس عناية بها يتقرب إلى ربه فيها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، يعتكف فيها فيعتزل الدنيا بأسرها ويتقلب بين صلاة ودعاء واستغفار وذكر لربه -عز وجل-، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"(رواه البخاري)، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأواخر، ما لا يجتهد في غيره"(رواه مسلم).
وأعظم ما يُشغل به هذا الزمان النفيس من العمر قيام الليل والتهجد لله -عز وجل-، والزلفى بين يديه، كيف لا؛ وقد خاطب -سبحانه- رسوله ومصطفاه بقوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)[الإسراء: 79]؟! هكذا قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فامتثل الحبيب -عليه الصلاة والسلام- أمر ربه فقام وأطال في القيام، وبكى وأطال في البكاء، في خشوع وخضوع وتذلل، تلك لذته وقرة عينه.
لذا أوصانا بقيام الليل فقالِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ"(رواه ابن خزيمة وصححه الألباني)، وعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ"، ثُمَّ قَالَ: "يَا مُحَمَّدُ، شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ"(رواه الحاكم وصححه الألباني).
لقد وصف الله الصالحين من عباده فقال: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الذاريات: 17، 18]، فكانوا يتلذذون بالليل وقدومه، فلا تسل عن فرحهم إذا ظفروا به، ذاك حالهم في سائر العام، قال أبو سليمان الدارني -رحمه الله-: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت الدنيا"، وقال ثابت البناني -رحمه الله-: "ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل"، وقال بعض السلف: "إني لأفرح بالليل حين يقبل؛ لما يلّتذ به عيشي، وتقر به عيني من مناجاة من أحب، وخلوتي بخدمته، والتذلل بين يديه"، قيل للحسن: ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها؟ فقال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره".
يا من تريد القرب من ربك: أدمن استغفار الأسحار وتذكر وصية صالح -عليه السلام- لقومه: (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ)[هود: 90].
أخي: تلك نعمة ولذة ربما حرمتها على مدار العام، ومن رحمة الله بنا أن بلّغنا شهر رمضان؛ لنتذوق ذلك النعيم، فلا أقل من أن نتشبه بأولئك القوم في شهر رمضان؛ لعل الله أن يلحقنا بهم.
عبد الله: دونك ما تبقى من شهر رمضان، دونك وقت السحر وقت النزول الإلهي، دونك العشر الأواخر منه فإنه مضمار للربح فلا تضيع الفرصة، وتنقل بين القيام وطول القنوت والاستغفار لتكون من أولي الألباب؛ (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 9].
اللهم أكرمنا بالقرب منك يا حي يا قيوم، اللهم اجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين يا مجيب الدعاء.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم