هوية الأمة

ناصر بن محمد الأحمد

2013-09-23 - 1434/11/17
عناصر الخطبة
1/ لكل أمة هويتها تميزها عن غيرها 2/ما يحدث للأمة في إذا فقدت هويتها 3/هُويتَنا الأصيلة هي الإسلام 4/الثورات ضد المستعمر كانت تنطلق من الهوية الإسلامية 5/حقيقة الهوية الإسلامية   6/من خطط الأعداء لمسخ هُوية الأمة 7/الأمم غير المسلمة تحافظ على هويتها.
اهداف الخطبة
1/التذكير بنعمة المال 2/بيان بعض الفتن الحاصلة بالمال

اقتباس

إنَّ محافظة الأمة المسلمة على هُويتها الإسلامية، والاعتزازُ بهذا الدين العظيم، يولِّد لديها الشعور بأنَّها الأمَّة التي اصطفاها الله بين العالمين لخيريتها وسمو تشريعاتها، ولكنَّا وللأسف نرى أناساً من المثقفين العرب وغيرهم، يكفرون بهُويتهم، وينقلبون على واقعهم الإسلامي بالهمز واللمز، بل ويذوبون في المشروعات الغربيَّة المناهضة للمشروع الإسلامي، والتغريب هي القنطرة التي عبرت عليها العلمانية إلى الشرق، وهذا التغريب لم...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ..

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: ما من أمة من أمم الأرض إلاّ ولها هُويتُها التي تنتمي إليها وتعز بها، والهُوية تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة، ولا تستحق أمة من الأمم وصف الأمة؛ حتى تكون لها هُويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم.

 

ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهُويتهم، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى.

 

كما أنه من البديهي أيضاً أن الأمة إذا فقدت هُويتها، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة، بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما تجذب جثة الثور الميت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطّع أوصاله، مع أنها كانت في حياته تمتلئ رعباً من منظره!. وهذا ما يحدث للأمة في ظل فقدان الهُوية، حيث السقوط الحضاري وتداعي الأمم. فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة الميتة، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن يكشف عن هُوية هذه الأمة، ويجلي أبعاد خصوصيتها بين الأمم، ليساعد ذلك في إحياء مجد الأمة التليد، والمساهمة الفعّالة في السبق الحضاري من جديد.

 

أيها المسلمون: ليس تحديد الهُوية ترفاً فكرياً، بل هو أمر جاد يتعلق بل يقرر طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها، إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ ومن يكون؟ وماذا يريد؟. وبدون هذا الحسم للهُوية لا يمكن تحديد أي موقف فعّال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة، ولذلك لا بد أن نسأل أنفسنا: من نحن؟, وما هي هُويتنا بالتحديد؟. فإذا حددنا هُويتنا، انتقلنا على ضوء ذلك إلى تحديد ماذا نريد؟ ومن ثم كيف السبيل؟.

 

فما هي هُويتُنا؟ لا شك أن هُويتَنا الأصيلة هي الإسلام، وأن الإسلام كانتماء هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبرى ولا شيء غيره, وإذا ما نحينا الإسلام جانباً، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتداداً للإسلام الذي هو الهُوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية. وهذه هي عبرة التاريخ، فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هُوية وطنية، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضاً وجد فيها له أخوة في الإيمان، وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة، لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية.

 

ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من شاطئ المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادئ، ولم يُعتبر في قِطر مر به أجنبياً، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً، ولم يُراقَب في حركاته وسكناته، ولم يَسأله أحد عن هُويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه، فقد كان أفراد الأمة في تحركهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيراتِ دخول أو خروج، لأن الإسلام بلور هُويتهم الحقيقية، ومنحهم الجنسية الإيمانية، وزودهم بروح الأخوة والمودة.

 

أيها المسلمون: لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء. ولذلك لم تكن له قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه ويحكمه مسلم من بلد آخر. فصفة الإسلام تجبّ ما عداها، ورابطة الدين تغني عما سواها, ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه كانت نظرة المصريين دوماً إلى المماليك -وهم ليسوا أولي جذور مصرية- نظرة المسلمين إلى المسلمين، الذين قد تكون لهم كحكام مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدت ذلك إلى اعتبارهم وافدين على الوطن. ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلى العالَم من حوله نظرةً إسلاميةً محددة، يَعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي وتحكمها الشريعة الإسلامية هي دار الإسلام، وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي دار الحرب.

 

أيها المسلمون: لقد كانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها على الفرنسيين وهم يُعِدّون العدة للتعامل مع الشعب المصري أبان الاستعمار، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلى المصريين كان باب الدين، الذي استغله نابليون منافقاً، بصورة ساذجة وسطحية. فالمنشور الذي وجهه نابليون للمصريين قد افتتحه بعبارة تقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له، ولا شريك له في ملكه" إلى آخر ذلك الخطاب الذي وجهه نابليون للشعب المصري.

 

لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام الذي ظل رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل سمتاً غالباً في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة. ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية فيما بعد، لم يقاتلوها بوصفهم مصريين إزاء فرنسيين، وإنما بوصفهم مسلمين يقاتلون الكفار الذين يحتلون أرضهم، والدليل على أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد الصليبيين أن علماء الدين كانوا هم قادتُها، وأن غضب نابليون انصب على الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي. وتأتي قمة الدلالة في كون "سليمان الحلبي" الذي قتل "كليبر" لم يكن مصرياً، إنما كان مسلماً دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلى أرض إسلامية.

 

وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام كهُوية للأمة، كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها.

 

وذلك المثال هو ثورة 1919م في مصر أيضاً, لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال الإنجليزي، واشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد، وكانت الجماهير تستمع إلى خطباء الأزهر الذين يُشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاصب، وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله: "إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة، أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة". لقد كانت الثورة في بدايتها ثورة إسلامية، وكانت أحاديث الناس وبخاصة في الريف، تدور حول ضرورة الثورة ضد الكفار المغتصبين، وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة الخلافة، وكان الناس يرون أن الأزهر هو الجدير في حسهم أن يقود الثورة الإسلامية.

 

مثال آخر: من أرض الجزائر عندما فوجئت فرنسا بعد أكثر من قرن من عمليات الإبادة والقهر والتخويف, بأن مجموعة من الأفراد تقاطروا في إحدى المدن الجزائرية حيث خرجوا إلى الشوارع يرفعون شعار "الجزائر تعود لك يا محمد"، وتحدَّث الباحثون أنَّ أهم إنجازات ثورة الجزائر أنها أوضحت لفرنسا ولكل العالم, أن الهُوية الإسلامية لا يمكن أن تُنتزع من نفوس آمنت بالله وذاقت حلاوة الإيمان.

 

ولستُ أرى سوى الإسلام لي وطناً *** الشام فيه ووادي النيل سيانِ

وكل ما ذكر اسمُ الله في بلدٍ *** عددت أرجاءه من لب أوطانِ

 

وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ، وكانت الهُوية الإسلامية هي الحافز الرئيسي الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حروب الفرنجة، أو غيرها. حيث كانت الأمة تندفع بهُويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية، فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلى امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين.

 

أيها المسلمون: إن الإسلام وحده هو هُوية هذه الأمة، وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوى الدافعة التي تفجر طاقات الأمة وتقوي وقفتها في مواجهة أعدائها, ويوم أن كان الإسلام هو هُوية هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل، وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم وهي القشور والخداع.

 

دين الإسلام يُعْنى بتأكيد الهُوية الخاصة ويرفض أطروحات الغرب العقدية والتشريعية ويأمر بمخالفتها، فالله تعالى يقول: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: 48، 49].

 

إن الهُوية الإسلامية انتماء إلى الله وإلى رسول الله وإلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين، من كانوا ومتى كانوا وأين كانوا، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 55، 56].

 

إن الانضواء تحت هذه الهُوية والاندماج فيها ليس أمراً اختيارياً ولا مستحباً؛ ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158], وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار".

 

أيها المسلمون: إنَّ محافظة الأمة المسلمة على هُويتها الإسلامية، والاعتزازُ بهذا الدين العظيم، يولِّد لديها الشعور بأنَّها الأمَّة التي اصطفاها الله بين العالمين لخيريتها وسمو تشريعاتها، ولكنَّا وللأسف نرى أناساً من المثقفين العرب وغيرهم، يكفرون بهُويتهم، وينقلبون على واقعهم الإسلامي بالهمز واللمز، بل ويذوبون في المشروعات الغربيَّة المناهضة للمشروع الإسلامي، والتغريب هي القنطرة التي عبرت عليها العلمانية إلى الشرق، وهذا التغريب لم يكن لحظة انبهار، لأن الانبهار يزول سريعاً فتبدو الأشياء على حقيقتها، وإنما كان لحظة عمى وعمهٍ حضاري، كان لحظة تعاقـد تآمري.

 

مكائد دُبرت مكراً لأمتنا *** تكاد منها الصخور الصم تنفطر

ليس العجيب الذي بانت عداوته *** لنا ومنه أتانا الضيـم والضـرر

بل العجيب الذي من صلب أمتنا *** يكون عوناً لمن خانوا ومن كفروا

 

هنالك متربصون يتربصون بهُوية الأمة كما قال الله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة: 109]، وهنالك تقارير معاصرة صدرت يتضح منها تمام الوضوح أنَّ أعداء الإسلام يريدون محق الهُوية الإسلامية الصحيحة وإزالتها، ولو قلَّبنا صفحات تقرير من تلك التقارير كتقرير مؤسسة راند الذي يصدر تباعاً في كل سنة, وقرأنا خططهم لعلمنا تلك العداوة الحقيقية لهُويتنا الإسلامية بشكل واضح. وصدق الله -تعالى- حين قال عن أعداء المسلمين: (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا) [الكهف: 20]. ولهذا نجدهم يركزون كثيراً على حرب الأفكار، وكثيراً ما يصرِّحون بأهميَّة غزو العالم الإسلامي ثقافياً.

 
فنسأل الله -جل وتعالى- أن يكفينا شرهم، وأن يجعل كيدهم في نحورهم ..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ..

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: من خطط الأعداء لمسخ هُوية الأمة وخططهم كثيرة جداً:

 

فتح المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية: أدرك أعداء الإسلام مدى ضرورة فتح المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية, وذلك لعملية التطهير الديني والتبشير بعقائدهم المناقضة لدين الإسلام، حتى ولو كان في تلك المدارس بعض الأدبيات والمناهج الإسلامية، ولكن البيئة الخاصة بها والموجهين والمعلمين والسياق العام فيها يخالف ما يتبناه الإسلام؛ من صناعة فرد مسلم متكامل النسيج الديني والأخلاقي، فنجد أنَّ الحاكم العسكري في مصر "كرومر" في عهد الاحتلال البريطاني لمصر, كان يؤكد على ضرورة فتح مدارس تغريبية وأهميته في إفساد عقائد المسلمين، بأن أبناء مدرسة "فيكتوريا" سيكونون جسراً بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأجنبية. سيكون هؤلاء أتباعاً للغرب ينادون بالهُوية الغربية.

 

بل حصل شيء من ذلك في الجزائر حيث أنشأت فرنسا عدداً من المدارس سميت زوراً "المدارس العربية", لكنَّ تلك الخديعة الكبرى لم تنطل على عدد من مشايخ الجزائر، لأجل هذا نجد أنَّ جمعية العلماء الجزائريين وقفت جداراً صلباً، وترسانة ضخمة في وجه الاندماج وتذويب الهُوية، ونشرت العلم والهدى والنور وبنت المدارس وأسّست الصحف الإصلاحية وحاربت الشرك والبدع، وعكف الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- على تفسير كتاب الله لربع قرن من الزمن، حتَّى بلغ عدد طلاّبه إلى ألف طالب، وممّا كان يقوله لهم: "إن الشعب المتعلّم لا يُستعمر". ومن المأثور من كلام الشيخ الإبراهيمي قوله:" الأمّة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون"، فكان للعلماء في الجزائر دور وخطَّة واضحة في التأثير على قومهم لكي تكون لديهم القابليَّة ضدَّ الاستعمار.

 

أيها المسلمون: لقد أدركت كل الأمم أن قضية الهُوية قضية محورية، وأن من لم ينتبه إليها سيذوب حتماً في ثقافة غيره، وستتلاشى مميزاته الخاصة ليكون ذيلاً أو ذنباً.

 

نعلم جميعاً ما وصلته اليابان من قوة تقنية وصناعية لا ينكرها منكر، ونتذكر جيداً أنَّ اليابانيين حين ضربتهم أمريكا بالقنبلة النووية ودمَّرت ناجازاكي وهيروشيما، رأوا أنَّ من أسباب ضعفهم عدم قدرتهم على مواجهة الأمريكان، قلَّة المعلومات التقنيَّة التي لديهم، فأرادوا تحقيق المناعة واستقطاب المعلومات التي يجهلونها, فأرسلوا البعثات للتعلم في بلاد الغرب والنهل من علومهم الطبيعية، حتى يرجعوا إلى اليابان وينقلوا إلى أرضها تلك التجارب الغربية الطبيعية فتنهض دولتُهم، وحين بعثت أول بعثة يابانية إلى دول الغرب رجعوا إلى بلادهم متحللين من مبادئهم، ذائبين في الشخصية الغربية، فما كان من اليابانيين إلاَّ أن أحرقوهم جميعاً على مرأى من الناس في طوكيو، ليروا عاقبة من تنكر لأمته وقيمه، ولم يرعَ المسؤولية التي أنيطت به، وبعد ذلك أرسل اليابانيون بعثة أخرى، وأرسلوا معها مراقباً يراقبهم أولاَّ فأول، من ناحية ثباتهم على عقيدتهم وخصوصياتهم البوذية، ومراقبة انهماكهم في استقطاب واجتذاب المعلومات التي يجهلونها لينقلوها في واقع بلادهم، وتمضي الأيام وتكون اليابان من أكبر الدول التقنية في العالم أجمع، بل والمنافسة والمسابقة لأمريكا وأوربا في كثير من التخصصات التقنية.

 

وعندما رأى الفرنسيون أن اتفاقية "الجات" تؤدي إلى دخول المواد الثقافية الأمريكية بمعدلات كبيرة لفرنسا مما يشكل تهديداً صارخاً لهُويتهم القومية، رفضوا التوقيع على الجزء الثقافي من الاتفاقية وطالبوا بتخفيض تلك المعدلات.

 

وأما الدولة اللقيطة إسرائيل فحدث ولا حرج عن تمسكها بهُويتها، فهي لم تقم إلا على أساس الدين اليهودي، وتحمل اسم نبي الله يعقوب "إسرائيل"، وليس لها دستور لأن دستورها التوراة، ويتشبث اليهود بتعاليمها في السياسة والاجتماع وحياة الأفراد أو هكذا يظهرون، وقد أحيوا اللغة العبرية التي انقرضت منذ ألفي سنة لتكون لغتهم الخاصة ولغة العلم عندهم.

 

وأعجب من هذا أن يقوم الهندوس في بلاد الهند بمنع بيع الزهور في يوم عيد الحب "فالنتاين", وحرق المحلات التي تبيعه لأن ذلك ليس من الهندوسية ويحارب الثقافة الهندية.

وهذا كلُه إن دل فإنما يدل على مدى محافظة كل أمة على هُوية أبنائها وحمايتهم من السقوط في هُوة الانبهار بثقافات الآخرين، فمتى نهتم نحن لهذا ونحوط أبناء أمتنا ونحميهم من الوقوع في هذه الحمأة؟!.

 

أليس في هذه الأمثلة درس وعبرة بما يفعله الآخرون من غير المسلمين في الحفاظ على هُويتهم، ومع ذلك وصلوا ونجحوا، وذلك لمحافظتهم على الخصوصية والهُوية الخاصَّة بهم، فأولى بنا وبالأمة المشهود لها بالخيرية والوسطية بأن يكون أبناؤها خير أناس يحافظون على هُوية الأمة الإسلامية، ويرعون هُويتهم حقَّ رعايتها؟!.

 

اللهم ..

 

 

 

المرفقات

الأمة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات