هموم لزمتني

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-17 - 1436/02/25
عناصر الخطبة
1/تسليط لله لبعض مخلوقاته على بعض 2/تفشي ظاهرة الهم والقلق 3/أسباب الهم والقلق 4/علاج الهم والقلق وبعض أدوية ذلك

اقتباس

إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية ليجد أن ما يقارب عشرةً بالمائة من سكان العالم يعانون من آفة الهم والقلق، بما في ذلكم بلاد المسلمين. وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير. وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[الفتح: 7].

 

إن الله -جل وتعالى- قد يسلط بعض مخلوقاته على بعض، فتكون من جنود الله.

 

فالماء من جند الله، والريح من جند الله، والأرض من جند الله، بل إن الإنسان أضعف مما يُتصور بكثير، فقد يسلط الله عليه أشياء من داخل نفسه، فيجعل حياته نكداً وشقاءً، ومن جملة ذلك: الهم والقلق، وضيق الصدر، فلا ينفع حينئذ صحة الإنسان ولا ماله ولا سلطانه، فقد يصاب بالهم والحَزَن أقوى الناس وأغنى الناس، وصاحب السلطان والجاه والملك، فيكون هذا الهم والقلق من جند الله، يسلطه الله على هذا الإنسان الضعيف، وقد يكون الهم والقلق ابتلاءً يبتلي الله به بعض عباده.

 

إن من يتأمل واقع الناس بعامة، وواقع المسلمين على وجه الخصوص في زمنٍ بلغت فيه آلياتُه أوْجَ تقدّمِها، ونالت الحضارة المادية فيه أقصى درجاتها، زمنٍ هو غايةٌ في السرعة المهولة، سرعةٍ اقتصادية، وأخرى طبيّةٍ، وثالثةٍ عسكرية ومعرفية.

 

إن من يتحسَّس هذا الواقع على وجه الإنصاف والوضوح يرى أمامه أن هذه المسارعة بقضِّها وقضيضها لم تكن كفيلةً في إيجاد الإنسان الواعي؛ الإنسان المدرك لحقيقة وجوده على هذه الأرض.

 

ما هو السرِّ في انتشار الجهل وتضلُّعِه في عصر تقدم المعلومات؟ وما هو سر شيوع الفقر والمسكنة في عصر الكنوز والغنى؟ وما سر سيطرة البطالة في عصر الإنتاج والصناعة؟ وقولوا مثل ذلك متسائلين: ما هو السر في وصف هذا العصر الذي نعيش فيه الآن على المستوى العالمي، بأنه عصر والهمّ والقلق والاكتئاب؟.

 

يعاني كثير من الناس من الهم والقلق؛ إنها آفة العصر المدمرة، أوسع الآفات النفسية انتشاراً في العالم، وأكثرها لدى الناس إلا ما شاء الله.

 

إن المترقب لآخر الإحصائيات الصحية العالمية ليجد أن ما يقارب عشرةً بالمائة من سكان العالم يعانون من آفة الهم والقلق، بما في ذلكم بلاد المسلمين.

 

وهذا يعني بداهة وجود مئات الملايين من البشر في معاناة مع هذا الواقع المرير.

 

وقد أسفرت هذه الإحصاءات أيضاً عن أن الأجيال التي وُلدت في هذه العقود الأخيرة يبدأ عندها الهم والقلق في سنٍّ أصغر، وبمعدلات أكبر، نظراً للعوامل الاجتماعية التي تخلَّلت تلك الجسوم، بسبب تهلهُلِها، وضياع الأثر البيئي الناضج فيها.

 

كما وُجد أن هذا الداء ينتشر بشكل عام بين الإناث أكثر من انتشاره بين الذكور بنسبةٍ تصل إلى الضِعف تقريباً، وذلك بسبب فقدان الوظيفة الحقيقية للمرأة، وتحميلها ما لا تطيق من أعباءٍ حياتية، أودت بها إلى ترك بيتها، والزجّ بطفلها بين أحضان الخادمات وعقول المربِّيات الأجنبيات.

 

بل لقد بلغت حالات الانتحار بسبب الهم والقلق الشديد ما يزيد على ثمانمائة ألف شخص في العالم كل عام.

 

ناهيكم عن كون ثمانين بالمئة من المصابين به لا يذهبون إلى الأطباء، ولا يكشفون عن حقيقة حالهم، وهما مكمَن العجب.

 

إن هذه الظاهرة ليست وليدةَ هذا العصر، ولا هي من الأدواء التي لا يُعرف لها ما يقاومها، أو يزيل عُمقَ وجودها في المجتمعات.

 

كلاَّ، بل هي ظاهرة مرهونة بمدى انغماس الكثرة الكاثرة في متاع الحياة الدنيا، وسيطرة النظرة المادية الصِّرفة.

 

ثم إن تفاوت المجتمعات في درجات هذه الظاهرة ليكمن في مدى إيمانها بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

 

ثم في استقامة السلوك الاجتماعي، بأمنه وإعلامه وتعليمه، واستقرار العدل والمساواة والمحبة، والبعد عن الأثرة، وحب الذات، وهلمَّ جرا.

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: "أربعة تهدم البدن: الهمُّ، والحَزَنُ ،والجوعُ، والسهر".

 

إنه الهم والقلق؛ يجعل الحياة موتاً، والدنيا نكداً وغمّاً، واللذة تعاسة، وتصير الأرض الواسعة ضيقة بما رحبت على أهلها.

 

فالهم تكدير للحياة، وتنغيص للعيش، وهو مصل سام للروح، يورثها الفتور والنكد والحيرة، وهو مصيبة من المصائب قد يصاب بها العبد، لهذا يقول أهل الجنة إذا دخلوها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)[فاطر: 34].

 

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ، وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ".

 

فهذا يدل على أن الحَزَن والهم والقلق مصيبة من الله يصيب بها العبد، يكفر بها من سيئاته.

 

وقد يكون الهمّ والحزن جند من جنود الله يسلطه الله على الأفراد، وعلى المجتمعات، وعلى الدول، فيصيبها ما يقلقها ويزعجها، ويخلخل أمنها.

 

فالهم والغم؛ آهات وأنّات، كدر وملل، تفجر وصخب، تعاسة وقلق، كره وبغضاء للنفس ومن حولها، فراغ لا يدري كيف يملؤها، ووحشة لا يدري كيف يزيلها، وبها هموم وآلام لا يدري كيف يبعدها؛ فيمضي المسكين وقته بالبكاء الحار، والنحيب المر، ويقضي حياته بالسفر والهروب والتمرد على الأهل والمجتمع، وينتهي به المطاف إلى الأرصفة والتدخين والمخدرات ثم الانتحار -والعياذ بالله-.

 

أيها المسلمون: إن المتأمل في حال أمثال هؤلاء يجد أن الهم والقلق يبدأ بقطع الصلة بين الشخص وبين الله -سبحانه وتعالى-، لا يصلي، وإن صلى ففي الجمع والأعياد، هائم على وجهه في هذه الأرض، فرح بشبابه، متسكع مع أحبابه، تناسى أحزانه، يغني للدنيا أعذب الألحان، وينشد فيها أجمل الكلمات، يدخل بيته كالذئب المفترس، ويخرج من بيته والشياطين تطير أمام عينيه، بعيد كل البعد عن منهج الله -عز وجل- وطريق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، معرض عن ذكر الرحمن، مقبل على ذكر الشيطان، ومن هنا تبدأ المشكلة.

 

إن الذي يُعرض عن ذكر الله، ويخالف أمر الله، ويخالف أمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- ستصبح معيشته وحياته ضنكاً ضيقة، مليئة بالهموم والآلام والفراغ، وضيق الصدر.

 

ولو كان الشخص في عنفوان شبابه، يملك من الأموال الكثير، ومن الأرض الكثير، ومن الأصدقاء الكثير، ثم أعرض عن ذكر الله فسيصيبه الكدر، وضيق الصدر، وسيرى معيشته وحياته ودنياه ضنكاً، ستضيق به الأرض بما رحبت، لن ينفعه أمواله، لن يحمل أصدقاؤه هذا الهم من قلبه وصدره، لن يخففوا عنه، لن تسعه أرضه وإن كثرت وامتدت.

 

لماذا وهو الشاب؟ لماذا وهو الغني؟ كيف حدث له ضنك العيش هذا؟

 

لأنه أعرض عن ذكر الله، فسيرى معيشته ضنكاً عقوبة من الله.

 

حدث له ضنك العيش، وضيق الصدر؛ لأنه قاسي القلب، لا يتأثر بالآيات والمواعظ، منكب على الدنيا، يجري خلف الشهوات، ويلهث وراء المنكر، وكل همه اللذائذ والموبقات، لا يقر له قرار، فمن ذنب إلى معصية، ومن صغيرة إلى كبيرة، يمل من اللذة فينتقل إلى غيرها، يبحث عن السعادة في الفلم والأغنية والمجلة والكرة والنكتة والطرفة، يعيش في تعاسة، لا يخاف من الموت وأهوال الحساب وكرب القيامة، غافل عن الله متقاعس عن الخير، في وجهه ظلمة، عكستها ذنوبه وروحه المظلمة.

 

أيها المسلمون: إن هناك أسباب يحسن ذكرها لا يمكن تجاهلها في ازدياد الهم والقلق عند الناس.

 

ومن أشهر هذه الأسباب: تعاطي المخدرات والمسكرات المؤدية إلى الإدمان المروِّع، والإحساس بأن الحياة لا شيء بدون معاقرتها.

 

ومن الأسباب: خواء القلب من ذكر الله، ويُبس اللسان منه، أمارة من أمارات الضيق والنكد والحزن والقلق، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـامَةِ أَعْمَى)[طه: 124].

 

وقد جاء في السنة ما يدل على أن مواقعة المعاصي والاستهانة بها سبب رئيس من أسباب حلول هذا البلاء، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفِّرها من العمل ابتلاه الله -عز وجل- بالحزن ليكفرها عنه"[رواه أحمد].

 

ومن أسباب ذلك أيضاً: قلق كثير من الناس، وخواء أفئدتهم من الإيمان بالله وبقضائه وقدره، وفزعهم من المستقبل المجهول، والشعور بالوهن عن حمل المصائب وتحمل المشاق، فتجدون أمثال هؤلاء قوماً يَفرَقون، لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مُدَّخلا لولَّوا إليه وهم يجمحون.

 

ومن الأسباب: إجلابُ الشيطان بخيله ورجله على ابن آدم، فيوسوس إليه ليخنس، ويقذف في قلبه الحزن والكآبة من خلال تشويشه بكمّ هائل من الأحلام والرؤى الشيطانية في المنام، حتى تصبح في حياة الفرد هاجساً مقلقاً عند كل غمضة عين.

 

ولذلك يُصاب المكتئب بالأرق المزمن وقلة النوم، وقد صح عند مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر نوعاً من الرؤى، وهي التي تكون تحزيناً من الشيطان يحزن بها ابنَ آدم.

 

وسبب آخر: من أسباب هذه الأزمة يبرز من خلال كثرة الديون المالية، مع العجز على إيفائها؛ روى أبو داود في سننه: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد ذات يوم، فإذا هو برجل من الأنصار، يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة، ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟!" قال: همومٌ لزمتني وديون يا رسول الله، قال: "أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همّك وقضى عنك دينك؟" قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".

 

قال أبو أمامة: "ففعلت ذلك، فأذهب الله همّي، وقضى عني ديني".

 

هذه بعض الأسباب، وترى -أيها المحب- أن جماع هذه الأسباب هو: البعد عن هداية الله، والاستقامةِ على طريقه، والتعلق بالأسباب الدنيوية، بعيداً عن مسببها سبحانه، ومن تعلق شيئا فقد وُكل إليه، ومن وُكل إلى غير الله فقد وُكل إلى ضيعة وخراب: (فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125].

 

بارك الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: كما أن الحقيقة التي لا مرية فيها أن الإنسان لا يستطيع أن ينـزع من حياته كل آثار الحزن والهم والقلق؛ لأن الحياة خلقت هكذا: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَـانَ فِي كَبَدٍ)[البلد: 4].

 

(إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَـانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَـهُ سَمِيعاً بَصِيراً)[الإنسان: 2].

 

حكم المنية في البرية جاري *** ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا ترى الإنسان فيها مخبراً *** ألفيته خبراً من الأخبار

طبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار

 

ولكن من رحمة الله: أن جعل الإنسان قادراً على أن يخفف من حزنه وهمه وغمه، فلا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وأن يكون معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه فيحقق قول الله -تعالى-: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5].

 

ليكون من المؤمنين الذين، قال الله عنهم: (الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].

 

وقال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[يونس: 62-64].

 

فالمؤمن بالله، الراضي بقضاء الله، الصابر على أقدار الله، القانع بما قسم الله، في سعادة وأي سعادة.

 

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "والله لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف".

 

وقال غيره: "إني لتمر عليّ أوقات أقول: لو أن أهل الجنة على مثل ذلك إنهم لفي عيش طيب".

 

إن أنجع الأدوية الشرعية الروحانية، والتي لها أثر فعّال، نصوص الشارع، ناهيكم عما بسطه أطباء القلوب وصيارفته من علماء إسلاميين، هم قُطب الرَّحى والقِدح المعلّى في هذا المضمار.

 

فأول هذه الأدوية مكانة هو قيام الأمة في مجموعها بما فرض الله عليها من الجهاد في سبيل الله، والدعوة إليه، والحذر من متاع الدنيا وزينتها، إذ بمثل ذلك يكون الانشراح والطمأنينة، ويزول الضيق والضنك، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم ذلاً، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم"[رواه أحمد].

 

وأخرج الطبراني مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بالجهاد فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع الله به عن النفوس الهمَّ والغم".

 

ولقد صدق الله إذ يقول: (قَـاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ) [التوبة: 14].

 

ودواء آخر للحزن والهم والقلق: يكمن في الموقف الصحيح مع القضاء والقدر، وبلوغ منـزلة إيمان العبد بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأمور بيد الله، وأن الأرزاق مقسومة، والآجال محتومة، وأن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فالمرء يتوكل على ربه دون توتُّر ولا ريبة ولا قلق، إذ بمثل هذا يستقبل الدنيا بشجاعة ويقين، ولسان حاله يقول كما قال علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه-:

 

أيُّ يوميَّ من الموت أفِرّ *** يوم لا يُقـدَر أو يومَ قُـدِر

يومَ لا يُقدر لا أحـذرُه *** ومن المقدور لا ينجو الحذِر

 

ومن الأدوية: تحقيق الرضا عن الله سبحانه، إذ هو المحكّ أمام العبد، فمن قل رضاه عن الله صار مرتعاً للأوهام والأحزان والأدواء، وقد سئل الحسن البصري -رحمه الله-: "من أين أُتي هذا الخلق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله".

 

ولذلك دعا به زكريا لولده، فقال: (وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً)[مريم: 6].

 

والرضا عن الله لا يكون إلا باستحضار العبد لحكمة الله في الأقدار، وأنه لا يعطي ولا يمنع إلا لحكمة بالغة، مما يهوّن على المرء ما يلاقيه من المصائب، والأقدار المؤلمة، بل حتى في حال الفرح، كما قال سليمان -عليه السلام-: (هَـذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِي أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُر)[النمل: 40].

 

ومن الأدوية أيضاً: كثرة التسبيح والسجود والعبادة عملاً بقول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ* فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّـاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 97 - 99].

 

وقد كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول صلوات الله وسلامه عليه: "من لزم الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب".

 

ومن الأدوية: ذكر الله على كل حال، وتعلّق القلب به في كل حين، بذكر الله تدفع الآفات، وتكشف الكربات، وتغفر الخطيئات، وبذكر الله تطمئن القلوب الخائفة، وتأنس الصدور الوجلة.

 

وكيف لا تطمئن هذه القلوب وهي متصلة بالله خالقها مستأنسة بجواره، آمنة في جنابه وحماه، فتذهب عنها تلك الوحشة، ويبتعد ذلك القلق، وتفرّج تلك الهموم، ويزول ذلك الضيق؟

 

ارفع يديك إلى الله مولاك كلما شعرت بضيق، ارفع يديك وادع بما شئت، اُشك بثك وحزنك إلى الله، اُترك دموعك تسيل على خديك، لتُخرج ما في نفسك من ضيق وهم وألم.

 

ومن الأدوية: الإكثار من النوافل بعد الفرائض؛ فهي تجعل روحك متصلة بالله -تعالى-، صلِّ الصلوات الخمس مع سننها، صم النوافل كالأيام البيض والاثنين والخميس، قم شيئاً من الليل، وناج ربك وخالقك، واطلب منه ما أردت، أكثر من قراءة القرآن، واحفظ منه ما استطعت، جاهد نفسك حتى تنهض لصلاة الفجر، صلِّها وداوم عليها ثم انظر إلى نفسك، ماذا سيطرأ عليها؟

 

ستشعر بحلاوة، وزيادة إيمان تحسه في قلبك.

 

ومن الأدوية: الرفقة الصالحة الطيبة الذين يسيرون على منهج الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، اترك رفقاء السوء، ابتعد عنهم، ولا تقترب منهم وعش مع هذه الرفقة الصالحة، ستشعر بطعم الحياة حقاً، وتحس بحلاوة الإيمان صدقاً، عش معهم، ثم انظر إلى نفسك بعد فترة، تجده قد اتسع بعد الضيق، تجده قد استقر بعدما كان يصّعّد في السماء، تجده قد غُسل تماماً، عندها ستجد للطّاعة لذة، وللحياة هدفاً، عش معهم، وتذكّر ذلك الذي قال الله -تعالى- فيه: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ لْعَـالَمِينَ)[الأنعام: 71].

 

أخي الحبيب: يقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَـاهُمْ تَقُوَاهُمْ)[محمد: 17].

 

ويقول عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـنُ وُدّاً)[مريم: 96].

 

وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

ومن الأدوية كذلك: ما يسمّى ب"التلبينة" وهي طعام يُصنع من حساء، من دقيق أو نُخالة، ويُجعل فيه عسل أو لبن أو كلاهما؛ لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن التلبينة تُجِمُّ فؤاد المريض، وتُذهِب ببعض الحزن".

 

نختم بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما قال عبد قط إذا أصابه همٌّ وحزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله -عز وجل- همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً" قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: "أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن".

 

أنا لست إلاّ مؤمناً بالله في سري وجهري!.

 

أنا نبضة في صدر هذا الكون كيف يضيق صدري؟!.

 

أنا نطفة أصبحت إنساناً فكيف جهلت قدري؟!.

 

ولم الترفع عن تراب منه يكون قبري؟!.

 

إني لأعجب للفتى في لهـوه أو ليس يدري؟!.

 

أن الحياة قصيرة، والعمر كالأحلام يسري.

 

 

المرفقات

لزمتني

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات