عناصر الخطبة
1/ موعظة بهلول لهارون الرشيد 2/ خطورة الغفلة عن حقيقة الحياة وما بعدها 3/ عواقب التعلق بالدنيا وزينتها وضعف الخوف من الله 4/ تأملات في أحوال المسلمين اليوم 5/ لماذا طال تيه الأمة؟! 6/ غفلة الناس عن فضائل شعبان ومنحه 7/ موانع المغفرة في ليلة النصف من شعبان.اقتباس
إذا كان بنو إسرائيل قد كتب الله عليهم التيه والضياع أربعين سنة؛ بسبب تبديلهم وتحريفهم وعدم استجابتهم لأمر الله ورسله؛ فإن تيه هذه الأمة قد طال زمانه، وتعددت ألوانه، وجنت الأمة بسببه الكثير من المصائب والكوارث، ويا ليته كان تيهًا حسيًّا كما كان لبني إسرائيل، ولكنه تيه في الأفكار، وتيه في التصورات، وتيه في المشاعر، وتيه في السلوك، وتيه في الأخلاق، وتيه في تعلم العلوم النافعة، وتيه في إصلاح أوضاع المجتمعات، وأنواع أخرى من التيه.. فهل من إفاقة من هذا التيه الذي تعيشه أمتنا؟! وهل من عودة حقيقية إلى قيم ديننا العظيمة والتي فيها سعادة الفرد والمجتمع والأمة.. ولا طريق للنجاة غير ذلك..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أكرم جباهنا بالسجود لعظمته، ونوّر قلوبنا بالإيمان به وبمعرفته وطاعته، وطيّب نفوسنا بالرضا بقدره والتسليم لحكمته، وحبانا من الخيرات والنعم ونشر في الآفاق عدله وفضله ورحمته..
تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجينٍ شاخصاتٌ *** بأحداقٍ هي الذهب السبيكُ
على قضب الزُبرجد شاهداتٌ *** بأن الله ليس له شريكُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بأسمائه وصفاته وإلوهيته وربوبيته شهادة نرجو بها نيل مرضاته والنظر إلى وجهه، والفوز بالدرجات العلا من جنته.
وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله شهادة مصدقٍ به متبعٍ لسنته راجياً شربًة هنيةً من حوضه ودخولا في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سلك سبيلهم واتبع نهجهم وسلم تسليما كثــيراً.
أما بعـــد:
عبــــاد الله: خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول قد اعتزل الناس وعاش وحيداً..فقال هارون: عِظْني يا بُهلول. قال: يا أمير المؤمنين!! أين آباؤك وأجدادك؟ من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبيك؟ قال هارون: ماتوا..قال: فأين قصورهم؟ قال: تلك قصورهم.. قال: وأين قبورهم؟ قال: هذه قبورهم.. فقال بُهلول: تلك قصورهم.. وهذه قبورهم.. فما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟ قال: صدقت.. زدني يا بهلول..
قال: أما قصورك في الدنيا فواسعة، فليت قبرك بعد الموت يتسع. فبكى هارون، وقال: زدني.
فقال: يا أمير المؤمنين: قد ولاك الله فلا يرى منك تقصيرًا ولا تفريطًا، فزاد بكاؤه وقال: زدني يا بهلول.. فقال: يا أمير المؤمنين:
هب أنك ملكت كنوز كسرى *** وعُمرت السنين فكان ماذا؟
أليس القـبر غـاية كـل حيٍ *** وتُسأل بعده عن كل هذا؟
قال: بلى.. ثم رجع هارون ولم يكمل رحلة الصيد تلك.. وانطرح على فراشه مريضاً.. ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت.
أيها المؤمنون/ عباد الله: إن الغفلة عن حقيقة الحياة وما بعدها والتعلق بالدنيا وزينتها، وضعف الخوف من الله ومراقبته، والتقصير والتساهل في العبادات والطاعات جعل حياة كثير من الأفراد والمجتمعات والشعوب ميدان صراعات وعداوات وحرب وانتقام، حتى تحولت الحياة إلى جحيم لا يُطاق، فهلك الحرث والنسل، وسُفكت الدماء وحل الدمار وظهر العنف في أبشع صوره وغاب الحب والتراحم والتعاطف والتعاون من قاموس الحياة..
قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون116:115].. وقال تعالى: (وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ تُوَفّىَ كُلّ نَفْسٍ مّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]..
وكل شيء أعمالك في هذه الحياة مسجل ومحسوب ومراقب وموثق.. قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49].. وقال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة:6]..
دخـل أبو الدرداء -رضي الله عنه- الشام فقال: "يا أهل الشام! اسمعوا قول أخٍ ناصح، فاجتمعوا عليه فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الذين كانوا من قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا مثيرًا، فأصبح أملهم غرورًا وجمعهم ثبورًا ومساكنهم قبورًا.."، وصدق الله إذ يقول: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20]..
هذا هي الحياة.. التي يدور حولها الصراع الذي يفقد الإنسان آدميته ودينه وأخلاقه.. مجرد حطام.. هذه هي الحياة التي تاهت فيها قيمنا وأخلاقنا وإنسانيتنا، وإلا لماذا يقتل الأخ أخاه؟ ولماذا يظلم الإنسان غيره؟ ولماذا قست القلوب وقامت العداوات بين البشر؟ ولماذا فسدت أخلاقنا وساءت أعمالنا، وضاقت قلوبنا على بعضنا البعض؟!
ولماذا تحولت جهودنا وقدراتنا وأموالنا على بعضنا البعض في حين أن عدونا يحتل المدن، ويدنس المقدسات، ويسفك الدماء، ويعتقل ويقتل ويحاصر ويتآمر على المسلمين في كثير من بقاع الأرض؟
لماذا يعيش العالم من حولنا في أمن وأمان وتطور وازدهار.. وكثير من بلاد المسلمين تعيش حياة العنف والقتل والتدمير بين أبنائها وبين دولها؟.. لماذا يعيش في بريطانيا مثلاً.. أو أمريكا أو الهند أو أستراليا المسلم والنصراني واليهودي والهندوسي والبوذي والبروستنتاني والكاثوليكي واللاديني وغيرهم في وطن واحد، ولا يوجد بينهم حروب ولا صراعات، وإن وُجدت خلافات فإنها تصبّ في مصلحة الوطن والأرض والإنسان، فلا توجد ثقافة القتل ولا العنف ولا التدمير ولا الإقصاء؟!!
ونحن وُجدت بيننا العصبيات الجاهلية والمناطقية والحزبية والمذهبية والطائفية.. وأصبحت دماء المسلمين تُسفك بأيدي المسلمين، وأوطانهم وديارهم تهدم بأيديهم.. من أين جاءت هذه الثقافة التي حاربها الإسلام من أول يوم صدع الحق في هذه الدنيا وجمع القلوب بعد توحيد الله على أخوة الدين والعقيدة قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92]، وفي الآية الأخرى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون: 52].. وقال سبحانه وتعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [آل عمران: 103]..
وإذا كان بنو إسرائيل قد كتب الله عليهم التيه والضياع أربعين سنة بسبب تبديلهم وتحريفهم وعدم استجابتهم لأمر الله ورسله؛ فإن تيه هذه الأمة قد طال زمانه، وتعددت ألوانه، وجنت الأمة بسببه الكثير من المصائب والكوارث، ويا ليته كان تيهًا حسيًّا كما كان لبني إسرائيل، ولكنه تيه في الأفكار، وتيه في التصورات، وتيه في المشاعر، وتيه في السلوك، وتيه في الأخلاق، وتيه في تعلم العلوم النافعة، وتيه في إصلاح أوضاع المجتمعات، وأنواع أخرى من التيه.. فهل من إفاقة من هذا التيه الذي تعيشه أمتنا؟! وهل من عودة حقيقية إلى قيم ديننا العظيمة والتي فيها سعادة الفرد والمجتمع والأمة.. ولا طريق للنجاة غير ذلك..
اللهم إنا نسألك إيماناً خالصاً ويقيناً صادقاً ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح.. قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عبـــاد الله: ها هي أعمارنا وآجالنا تُطوَى يوماً بعد يوم وها هو شهر شعبان يحل ضيفاً علينا وهو شهر غفل الناس عن فضائله ومنحه وجوائزه الربانية؛ فقد شرع فيه جميع أعمال البر من الصدقة وقراءة القرآن والذكر والصيام، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم أكثر أيامه، وعندما سُئل عن ذلك أخبر عليه الصلاة والسلام أنه شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله.
فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ذاك شهر يغفل فيه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرْفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم" (صحيح الجامع:3711)..
وفيه ليلة عظيمة ينظر الحق -سبحانه وتعالى- إلى عباده فيمُنَّ عليهم بالغفران وتتنزل عليهم الرحمات، روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله ليطّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة 1144).
فالمغفرة والرحمة في هذه الليلة لجميع عباد الله المؤمنين الموحدين إلا لمن يحمل صفتين: الأولى هي الشرك بالله، وخطرها عظيم على التوحيد والعقيدة، وما أكثر الشرك في حياة المسلمين اليوم؛ طواف حول القبور، وزيارة السحرة والمشعوذين، ولبس الطلاسم والحرزيات والاعتقاد أن فلانًا من الناس يضر أو ينفع بقدرته، وهنالك من يدعو الأولياء ويطلب منهم قضاء الحوائج، وهناك من يشرك بالله بعدم تحكيم شرعه أو العمل ببعضه دون بعض، وهناك الشرك الخفي وهو الرياء في الأعمال والأقوال..
فمن كان فيه خصلة من الشرك فليتب إلى الله حتى ينال المغفرة والرحمة في هذه الليلة المباركة..
وأما الصفة الثانية التي يحرم صاحبها من عفو الله ومغفرته في هذه الليلة فهي المشاحنة والمخاصمة والعداوة بين المسلمين.. بين الآباء والأبناء، وبين الجيران والإخوان، وبين الأصحاب والأصدقاء، وبين القبائل والأحزاب والجماعات..
فلماذا لا يعفو بعضنا عن بعض؟! ويسامح بعضنا بعضًا؟! ويتنازل بعضنا لبعض؛ ليغفر الله لنا ويعفو عنا، ونسعى جميعاً إلى حل مشاكلنا وتوحيد صفنا وإيقاف هذه الحروب والصراعات وسفك الدماء وتدمير الأوطان، ونتجه جميعاً إلى البناء والعمل والتعاون وتوجيه القدرات والطاقات إلى ما فيه خير مجتمعنا وأمتنا، ولنخرج من هذا التيه الذي كلفنا كثيرا..
ولنكن ممن قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ) [الحشر: 10].
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ما فسد من أحوالنا وخذ بنواصينا إلى كل.. اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء فرد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا عليه..
اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان.. هذا وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم