عناصر الخطبة
1/تعريف الرؤى وتفاوت الناس في كثرتها وصدقها 2/نص حديث: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟" 3/أبرز الذنوب لموجبات عذاب القبراقتباس
لقد حَلَّقَ بنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في هَذا الحَدِيثِ فِي عَالَمِ الغَيْبِ، وبَيَّنَ لَنَا تَفَاصِلَ كَثِيرَةٍ، وقد عده أَهُلُ العِلْمِ مِنْ الأحَادِيثِ الدالة على عَذَابَ القَبرِ، وأن بعض الأشقياء يعذبون في البرزخ، وهو ما بين الموت إلى البعث، فَكَانَ أَوَلَ بَيانٍ لِحالِ الَكَذَّابِ، وَخصَ الذي يُحَدِّثُ...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: الرؤى جمع رؤيا، وهي: ما يراه الإنسان في منامه، والرؤى يرها كل الناس، ولكن يختلفون كثرة وقلة، وكذلك يختلفون بصدق رؤاهم من عدمها، وقد أشار النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى سَببِ ذلك، فَقَالَ: "أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا.."(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، قال ابن حجر -رحمه الله-: "لِأَنَّ مَنْ كَثُرَ صِدْقُهُ تَنَوَّرَ قَلْبُهُ، وَقَوِيَ إِدْرَاكُهُ فَانْتَقَشَتْ فِيهِ الْمَعَانِي عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ الصِّدْقَ فِي يَقَظَتِهِ اسْتَصْحَبَ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ فَلَا يَرَى إِلَّا صِدْقًا، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَاذِبِ وَالْمُخَلِّطِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ قَلْبُهُ وَيُظْلِمُ فَلَا يَرَى إِلَّا تَخْلِيطًا وَأَضْغَاثًا، وَقَدْ يَنْدُرُ الْمَنَامُ أَحْيَانًا فَيَرَى الصَّادِقُ مَا لَا يَصِحُّ وَيَرَى الْكَاذِبُ مَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّ الْأَغْلَبَ الْأَكْثَرَ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَم".
ورُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: "رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ"، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- مخاطباً رسولَ الله محمداً -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح:27].
أيها الإخوة: ومن عجائبِ الرؤى وأكثرِها موعظة ما رواه البخاري ومسلم وأحمد عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟"، "فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ رُؤْيَا قَصَّهَا"، فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ اللهُ (أَيْ: يَعْبُر لَهُمْ الرُّؤْيَا)، فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟"، فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: "لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدَيَّ فَانْطَلَقَا بِي إِلَى السَّمَاء، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ(وهو حديدةٌ مُعْوَجَّة الرأس)، فَيُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ (الشدق: جَانِب الْفَم مما يلي الخَدَّ)، فَيَشُقُّ شِدْقَهُ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ مَا هَذَانِ؟ فَقَالَا: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِصَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ (والشَّدْخُ: كَسْرُ الشَّيْءِ الْأَجْوَف)، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ(تدحرج)، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى، فَقُلْتُ لَهُمَا: سُبْحَانَ اللهِ، مَا هَذَانِ؟ فَقَالَا لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ (المَوْقِدُ) أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ(اللَّغَط: الأصوات الـمُخْتَلِطَة الـمُبْهَمَة، والضَّجَّة لَا يُفهم معناها)، قَالَ: "فَاطَّلَعْنَا فِيهِ؛ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللهَبُ ضَوْضَئوا(أَيْ: رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ مُخْتَلِطَةً) وَارْتَفَعُوا حَتَّى كَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَ رَجَعُوا فَقُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤلَاء؟ فَقَالَا لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ"، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ كَثِيرَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ لِيَخْرُجَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَغَرَ لَهُ فَاهُ(أَيْ: فَتَحَ)، فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ.. كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَقُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟ فَقَالَا لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ"، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ(أَيْ: قَبِيح الْمَنْظَر) كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا(أَيْ: يُوقِدهَا، وَحَشَشْتُ النَّارَ بِالْحَطَبِ: ضَمَمْتُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ الْحَطَبِ إِلَى النَّار)، وَيَسْعَى حَوْلَهَا، فَقُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟، فَقَالَا لِي: انْطَلِقْ، انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ(بستان أخضر) فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ الرَّبِيعِ(النَّوْر بِالْفَتْحِ: الزَّهْرُ)، وَفِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ طَوِيلٌ، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ، فَقُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟ مَا هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ، وَلَبِنِ فِضَّةٍ(اللَّبِن: جَمْع لَبِنَة، وَأَصْلهَا مَا يُبْنَى بِهِ مِنْ طِين) لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ، فَاسْتَفْتَحْنَا، فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ فَقَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ(الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَنْغَمِسُونَ فِيهِ لِيَغْسِلَ تِلْكَ الصِّفَة بِهَذَا الْمَاءِ الْخَاصّ)، وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ(أَيْ: يَجْرِي عَرْضًا) كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ(أي: اللَّبَنُ الْخَالِصُ عَنْ الْمَاء)، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَا لِي(أَيْ: هَذِهِ الْمَدِينَةُ): هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِيَ الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ"، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "فَقُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ؟".
أيها الإخوة: ففسر الملكان له ما رأى من عجب: "فَقَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ، وفي رواية: يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنْ الصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ"، فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطَرٌ مِنْهُمْ قَبِيحًا فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، تَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي يُوقِدُ النَّارَ، فَمَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ، دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ".
اللهم أعذنا من كل سوء، وثبتنا بالقول الثابت، وصلى الله وسلم...
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها الإخوة: لقد حَلَّقَ بنا رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في هَذا الحَدِيثِ فِي عَالَمِ الغَيْبِ، وبَيَّنَ لَنَا تَفَاصِلَ كَثِيرَةٍ، وقد عده أَهُلُ العِلْمِ مِنْ الأحَادِيثِ الدالة على عَذَابَ القَبرِ، وأن بعض الأشقياء يعذبون في البرزخ، وهو ما بين الموت إلى البعث، فَكَانَ أَوَلَ بَيانٍ لِحالِ الَكَذَّابِ، وَخصَ الذي يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ.
وقد كان الكذب في الزمن الماضي محدودًا، أما في هذا الزمان فقد سَهُلَ نشر الكذب وتنوعت وسائله، وكثر الكذابين بسبب كثرة وسائل التواصل وسهولة انتشار الأخبار، وغفل بعض أصحاب وسائل التواصل من المسلمين عن شناعة الكذب، وما أعده الله -تعالى- للكذابين في قبورهم، ويوم حشرهم، فضلًا عن الوعيد للكذاب بكتابته عند الله كذابًا، وكفى بها مهلكة، قَالَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"(رواه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)، وَالفُجُورُ: هُوَ اِسْمٌ جَامِعٌ لِلشَّرِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَيْلِ إِلَى الْفَسَادِ، وَعَلَى الِانْبِعَاثِ فِي الْمَعَاصِي، قَالَ الْحَافِظُ فِي "الْفَتْحِ": "الْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِظْهَارُهُ لِلْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِلْقَاءُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْأَرْضِ"، وقَالَ النَّوَوِيُّ: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ كَثُرَ مِنْهُ، فَيُعْرَفُ بِهِ"، قال شيخنا محمد العثيمين: "معنى: "الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ" يعني إذا كذب الرجل في حديثه فإنه لا يزال فيه الأمر حتى يصل به إلى الفجور -والعياذ بالله-، وهو الخروج عن الطاعة، والتمرد والعصيان، والفجور يهدي إلى النار".
أما الذنب الثاني الموجب لعذاب القبر فهو: الذي يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنْ الصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وهذا بلاء مستطير وقع فيه فئام من المسلمين، فكم هم الذين ينامون عن صلاة الفجر ولا يؤدونها في وقتها ولا مع الجماعة.
أما الذنب الثالث الموجب لعذاب القبر فهو: الزنا -نعوذ بالله منه-، فقد قال الله -تعالى- عنه: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[الإسراء:32]، قال السعدي: "والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله؛ لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه، فإن: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه"، خصوصا هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه.. ووصف الله الزنا وقبحه بأنه (كَانَ فَاحِشَةً) أي: إثما يستفحش في الشرع والعقل والفِطَرِ؛ لتضمنه التجرؤ على الحرمة في حق الله، وحق المرأة، وحق أهلها، أو زوجها، وإفساد الفراش، واختلاط الأنساب، وغير ذلك من المفاسد، وقوله: (وَسَاءَ سَبِيلا) أي: بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم".
أما الذنب الرابع الموجب لعذاب القبر فهو: أَكْلُ الرِّبَا، وقد ذكر عقوبته: "وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا"، فعلى المسلم التحري في تعاملاته.
أيها الإخوة: وكما أن في هذا الرؤيا من التحذير ما فيها، ففيها من البشائر الكثير فقد وُعد الذين خَلَطُوا عَمَلًا صَالحًا بِعَمَلٍ سَيِّء بالمغفرة والرضوان ابتداء منه سبحانه، أو بما يوفقون له من توبة فيتوب الله عليهم بسبب توبتهم، واستغفارِهم، وهؤلاء هم الرِجَالِ الذِيْنَ ذكروا في الحديث: "شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَقِيْلَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ وَانْغَمِسُوا فِيهِ لِيَغْسِلَ تِلْكَ الصِّفَة بِهَذَا الْنَهرِ الْخَاصِّ"، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: "كَأَنَّهُ يُرَادُ بِالْمَاءِ الْمَذْكُورِ عَفْوُ اللَّهِ عَنْهُمْ أَوِ التَّوْبَةُ مِنْهُمْ؛ فذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ أَيْ صَارَ الشَّطْرُ الْقَبِيحُ كَالشَّطْرِ الْحَسن، فَلذَلِك قَالَ: وَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ".
أسأل الله أن يعيذنا من موجبات عذابه ويسكننا ووالدينا الفردوس الأعلى...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم