اقتباس
إن ربط العمران الدنيوي بالأديان أو الأفكار وجوداً وعدماً خطأ ظاهر سببه الجهل بسنن الله تعالى في الدنيا، أو سببه الهوى.
[فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا] {فاطر:43}
كتب كثير من أهل العلم الشرعي والدنيوي عن افتتاح جامعة الملك عبد لله، واستثنائها من أنظمة البلاد بتشريع الاختلاط فيها، وربما السماح بمنكرات أخرى أشد من الاختلاط، وقد تكون هي المنطلق لنشر هذه الثقافة التغريبية في المملكة بأسرها كما تصرح بذلك مقالات العلمانيين، مما أثار استياء كل غيور على بلاد الحرمين ومهبط الوحي ومنبع الرسالة، وفرح بذلك أشد الفرح دعاة الإفساد في الصحف والقنوات الفضائية المنحلة..
وبما أن الغيورين -وفي مقدمتهم العلامة الشيخ سعد الشثري حفظه الله تعالى- قد أعلنوا إنكارهم لهذا المنكر المعلن والمجاهر به؛ براءة لذمتهم، ونصحاً لأئمتهم وللعامة، وهم مأمورون بذلك شرعاً، وقد أبانوا ما في الاختلاط من مفاسد عظيمة، وأثبتوا أن الدراسات الجادة في الغرب باتت تنهى عن الاختلاط، وتدعو إلى فصل الجنسين في الدراسة، وطبقوا ذلك عملياً في بعض جامعاتهم ومدارسهم، وكان حالنا – في جامعة الملك عبد الله- أننا بدأنا من حيث بدأ الآخرون لا من حيث انتهوا، محاولين أن نثبت للعالم أننا لسنا ضد الحضارة المعاصرة حتى في إثمها وأخطائها وعيوبها التي من أهمها الاختلاط..
ومقالتي ستكون عن قضية ارتباط التقدم بالانحلال، والتخلف بالالتزام؛ فإن المفسدين في الأرض من العلمانيين الليبراليين والشهوانيين كانوا -ولا يزالون- يجعلون الانحلال من الدين والأخلاق سبباً للتقدم، ويلحون بقوة على أننا لا يمكن أن نأخذ صناعة الغرب وعلومه دون أن نأخذ قيمه وأفكاره، وهدفهم من هذا الإلحاح والربط الخبيث تحقيق أهدافهم الدنيئة في إقصاء الشريعة، والتلبيس على الناس وإفسادهم.
إننا لا بد أن نعلم أن التطور الدنيوي له سنن ربانية في الكون لا علاقة لها بالدين نفياً أو إثباتاً، قبولاً له أو اعتراضاً عليه، فمن أخذ بهذه السنن الربانية الكونية من الأفراد والدول والأمم كسبوا الغنى والتقدم والعمران ولو كانوا ملاحدة، أو وثنيين كاليابان، أو منحلين كالغرب، ومن لم يأخذ بها من الأفراد والدول والأمم فلن ينالوا شيئاً ولو أحيوا الليل بالصلاة والدعاء، وصاموا الدهر كله؛ ذلك أن قانون الله تعالى وسنته الماضية في عباده أنه سبحانه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما جاء في الحديث، لكن هذا العطاء يكون وفق هذه السنن الكونية، لا وفق أديان الناس وإيمانهم وصلاحهم أو كفرهم وفسادهم، ونجد هذا المعنى واضحاً كل الوضوح في قول الله تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] {الإسراء:18-20} فأخبر سبحانه أنه يُمِد بالدنيا من أراد العاجلة وهم الكفار، ومن أراد الآجلة وهم المؤمنون، وهذا العطاء يشمل الأفراد والدول والأمم، ونرى هذه السنة الكونية ماثلة أمامنا على المستوى الفردي؛ إذ في المؤمنين فقراء وأغنياء، كما أن في الكفار فقراء وأغنياء، وكذلك على مستوى الدول والأمم إذ نجد فيها دولاً متقدمة وأديانها تختلف، كما نجد فيها دولاً متخلفة وأديانها أيضاً تختلف.
إن ربط العمران الدنيوي بالأديان أو الأفكار وجوداً وعدماً خطأ ظاهر سببه الجهل بسنن الله تعالى في الدنيا، أو سببه الهوى، وقد يكون في الدين ما يعيق التقدم الدنيوي كما كان في دين النصارى المحرف إبان عصر الانحطاط تحريم العلوم الدنيوية ولكن ليس ذات دين النصارى المحرف -الذي أعظمه زعم بنوة المسيح لله تعالى وتأليهه- هو سبب انحطاطهم آنذاك، وإنما ما في دينهم المحرف من ظلم ومنع للعلم الدنيوي فقط، وإلا لما تقدموا في علوم الدنيا؛ لأنهم لا زالوا يشركون مع الله تعالى المسيح عليه السلام ويزعمون انه ابنه.
وقد يكون في الدين ما يدفع للتقدم الدنيوي كما في الإسلام؛ إذ فيه الأمر بالعدل، وتحريم الظلم تحريماً شديداً، كما أن فيه حثاً على العلوم الدنيوية التي تنفع الناس، وجعلها من فروض الكفاية التي يرفع القائمون بها الإثم عن مجموع الأمة.
والله تعالى حين أعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب، ومنح منها الكفار والمؤمنين على وفق سننه سبحانه فإن لذلك دلالتين عظيمتين:
أولهما: أن الدنيا لا تساوي شيئاً عند الله تعالى، ولذا كانت متاحة للجميع، وقد وُصفت في القرآن بأنها متاع الغرور، وشُبهت بالزرع الذي يخضر ثم يصفر ثم يزول، وأخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنها لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة وإلا لما سقى كافراً منها شربة ماء، وأنها أهون على الله تعالى من هوان جدي -ميت ملقى في مزبلة- عند الناس.
ثانيهما: تحقق الحكمة الربانية بالابتلاء بالدين والدنيا؛ إذ لو كان تحصيل الدنيا مُرتهَناً بحصول الإيمان، وكان الكفر سبباً لفوات الدنيا، وكان ذلك سنة ثابتة لآمن الناس كلهم أجمعون، ولكانوا من الصالحين؛ فإن من طبيعة البشر أنهم يؤثرون العاجلة على الآجلة.
وحتى لا يقع الالتباس عند بعض القراء الكرام لا بد من بيان أن تحقيق دين الإسلام كاملاً يجمع للعبد أو للأمة بين الدنيا والآخرة كما حصل لأمة الإسلام في صدر تاريخها؛ فإن دين الإسلام أمر بالعدل الذي فيه صلاح الدنيا، وأمر بالكسب والعمل الذي فيه بناؤها وعمرانها، ولكن تحقيق الإسلام تحقيقاً كاملاً يتعارض مع شهوات النفس، ويجعل الفرد أو الأمة لا تتمتع تمتعاً كاملاً بمباهج الدنيا وزينتها حيث القيود الشرعية على الفرد والجماعة التي تحد من التمتع المطلق؛ ولذا لا يقدر أكثر الناس على كبح جماح شهواتهم إن حصلت لهم الدنيا من تجاوز المباحات إلى المحرمات، وتعدي حدود الله تعالى، فيقع منهم الظلم والأثرة، فيؤدي ذلك إلى تعطل العمل والسعي، فيتوقف العمران، وتتخلف الأمة.
إننا يمكن أن نقول: إن سنة الله تعالى لصلاح حال الدنيا وعمرانها يكون بالعدل بين الناس، والعدل يقود للعمل والكسب؛ لأن كل عامل يزيد كسبه ويرتقي في دنياه بحسب عرقه وجهده لا بسبب نسبه ومعرفته، كما أن صلاح الآخرة يكون بالإيمان الذي يدفع للعمل الصالح. فالظلم فيه فساد الدنيا، وتردي أحوال الناس فيها، ولو كان المتصف بالظلم أمة أفرادها مؤمنون يعملون صالحاً، كما أن العدل فيه صلاح الدنيا وعمرانها ولو كان أفرادها لا يؤمنون بالله تعالى ولا يعملون صالحاً.
وإذا كان كذلك فإن من الجهل الماحق والخطأ الكبير الزعم بأن سبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بدينهم، أو أن سبب تقدم الغرب هو تخليهم عن الدين إلى العلمانية كما يريد العلمانيون الليبراليون تمرير هذا المفهوم المغالط على الناس بالتدليس والتحريف والكذب والإضلال، بل سبب تخلف المسلمين ما ساد في أوساطهم من الظلم، كما أن سبب تقدم الغرب النصراني العلماني والشرق الوثني هو وجود نوع من العدل في معاملة أفرادهم، وكون سلطة القضاء عندهم في الجملة أقوى من أي سلطة أخرى مهما كانت.
وها نحن نرى كثيراً من الدول الإسلامية في الشرق والغرب قد نبذت الإسلام وراءها ظهرياً، وأقصت الشريعة الربانية، وحكّمت القوانين الوضعية، واستجلبت أخلاقيات الغرب وأدبياته في السفور والاختلاط والرقص ونشر العري، ومع ذلك كله لم تتقدم رغم أن منها دولاً أكملت قرناً كاملاً في هذه التجربة التغريبية، ولا زالت ترسف في أغلال التخلف والتبعية، وتزداد انحطاطاً إلى انحطاطها؛ لأنها لم تُقِم العدل الذي قامت به حضارة الغرب، وكانت أنظمتها السياسية استبدادية، وكان القضاء تحت هذه السلطة الاستبدادية، فما نفعهم شيئاً ما استجلبوه من أخلاقيات الغرب وأدبياته التي تعارض الإسلام.
وأختم مقالتي هذه بسؤال مهم: هل تنجح جامعة الملك عبد الله في تحقيق ما أُعلن أنها أُنشئت لأجله وهو التقدم في مجال الأبحاث والتقنيات أم ستفشل؟
جزم بعض الصالحين بفشلها؛ لأجل أنها استثنيت بمنكرات سمح بها فيها، شرُّ هذه المنكرات الاختلاط وما يتبعه من مفاسد، ويرى أصحاب هذا التوجه أن هذه الجامعة ستسلب التوفيق في تحقيق ما أقيمت له بسبب ذلك.
بينما يرى العلمانيون الليبراليون ومن لف لفهم أن نجاحها سيكون بقدر ما يتاح فيها من حرية الفساد وانتهاك الشريعة الربانية.
والذي يظهر لي أن فساد الجامعة الديني والأخلاقي لن يكون معيقاً لتقدمها في مجالات العلوم الدنيوية متى ما أقام القائمون عليها العدل بين منسوبيها من طلبة وباحثين ومدرسين، ولم تخضع للمحسوبيات التي خضعت لها سائر الجامعات في المملكة، وإذ ذاك سيكون التقدم والنجاح فيها بسبب العدل، وبسبب مخالفتها لنظام المحسوبيات الظالم، لا بسبب المنكرات والاختلاط والرقص الذي بدئت به.
وأما إذا سرت فيها عدوى المحسوبيات فقد سرى فيها الظلم، وحينئذ ستفشل كما فشل غيرها ولو وجد فيها جميع أنماط التحلل والفساد الموجودة في الغرب.
إن إزالة المنكرات التي في الجامعة مع ترسيخ العدل، وإتاحة الفرصة للإبداع بين جميع منسوبيها على حد سواء سيحقق التقدم المأمول مع السلامة من الإثم الذي يستجلب عقوبات الله تعالى في الدنيا، وعذاب الآخرة أشد وأنكى، وهذا ما يطالب به الناصحون من العلماء والدعاة وكل غيور على حرمات الله تعالى، وكل صادق في انتمائه لوطنه وأمته.
وإن بقاء المنكرات فيها، وانطلاقها منها إلى غيرها، فيه إسخاط لله تعالى، وانتهاك لحرماته، واستجلاب لعقوبات، ولا يوازي ذلك ما قد يقع فيها من تقدم، ربما كان غنمه لغير أهل البلاد، وكان غرمه عليهم، فإن جمعت مع موبقة المنكرات ظلماً وأثرة فقد فاتتها الحسنتين، وجمعت السيئتين، وهذا هو الخذلان الذي ما بعده خذلان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم