هذه العشر الأواخر فهل من مشمر؟

الرهواني محمد

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: رمضان
عناصر الخطبة
1/ منزلة العشر الأواخر من رمضان 2/ الحث على استغلال العشر الأواخر 3/ هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر 4/ شرف ليلة القدر وتحريها في العشر الأواخر

اقتباس

هذه العشر سوق عظيم يتنافسُ فيه المتنافِسونَ، ويتميز فيه الصائمون المُخلِصون. عشرٌ تستحث هِمم المتقين، وتشد من عزم العابدين؛ للاقتداء بهدي سيد المرسلين، ليكونوا في سجل المقبولين المرحومين، كما تستحث...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

نحمده حمداً لا يحد، ونشكره شكراً لا يعد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله خير من جد واجتهد، فصلِّ اللهم وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومن جد في متابعته واجتهد.

 

معاشر الصائمين والصائمات: اقتضت حكمة الله -جل جلاله- ومشيئته أن كل مخلوق في هذه الحياة لا بد له من نهاية، وأن كل مقيم فيها لابد له من زوال وارتحال، قال ربنا -سبحانه-: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26 - 27].

 

فرمضان الذي استقبلناه بالأمس قد أوشك على الرحيل، وها نحن في أيامه الأخيرة، وفي العشر الأواخر منه.

 

فإنها -والله- لنعمة كبرى أن تفضل الله علينا ومد في أعمارنا، حتى بلّغنا هذه العشرُ المباركة.

 

وإن من تمام شكر هذه النعمة: أن نغتنمها بالأعمال الصالحة.

 

هذه العشر جعلها الله الفرصةَ الأخيرةَ لمن أحب أن يغتنم من الخير والرحمة، فالطاعة فيها أعظمُ فضلا وأرفع قدرا وأكثرُ حمدا وأكرم أجرا، ذلك لأنها عشر التجليات والنفحات الربانية، عشرٌ تقال فيها العثرات، وتكفر السيئات، وتستجاب الدعوات، فكم من أناس فازوا بالرضوان وكُتبوا في ديوان أهل الفلاح والتقوى، ببركة ما قدموا وما بذلوا في هذه العَشرِ من جهد واجتهاد في التقرب إلى الله بالأعمال الصالحة.

 

هذه العشر سوق عظيم يتنافسُ فيه المتنافِسونَ، ويتميز فيه الصائمون المُخلِصون. عشرٌ تستحث هِمم المتقين، وتشد من عزم العابدين، للاقتداء بهدي سيد المرسلين، ليكونوا في سجل المقبولين المرحومين، كما تستحث المُقصرين والغافلين والمُفرطين على استدراك تقصيرهم والتوبة من تفريطهم.

 

في هذه الليالي المؤمنون الصالحون يرجون رحمة الله -تعالى- ومغفرتَه والعتقَ من النار، وقد أخذوا بأسبابها، وعمِلوا بأعمالها، قال ربنا -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29] فهم يتلون كتاب الله -تعالى-، وقد أقاموا الصلاة وحافظوا عليها، ويجودون بالإنفاق والإحسان سرا وجهرا، وكلها أعمال تتجسد في هذه الليالي المباركةِ أكثرَ من غيرها، فهم بأعمالهم هذه: (يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) تجارةً لا كساد ولا خسارة فيها.

 

جزاؤهم: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 30].

 

فلذلك -معاشر أمة الإسلام- من الخير أن نحرِص جميعا على استغلال هذه العشر بأفضل ما يمكن أن تُستغلَّ فيه، حتى نرفعَ من حساب حسناتنا، ونضاعِفَ رصيدَنا من الأجر والثواب، ولا يكن حالنا فيها كما هو في غيرها، فالعاقل الذكي على كل خير حريصٌ قوي.

 

لنحرص على أن يكون لنا فيها الحظُّ الأوفر من الأعمال الصالحة التي تَرفع قدْرنا ومكانتنا عند العلي القدير، مُقتدين بنبي الله وخليله إمامِ المتقين وسيدِ العابدين -صلواتُ ربي وسلامه عليه-.

 

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلن النّفير العام في بيته في العشر الأواخر، فيخُص تلك الليالي بمزيدٍ من الاجتهاد، إشهارا لخصائصها، وكذا حثا للأمة على طلب فضائلها وبركاتها، روى مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- إذا دخل العشرُ، أحيا الليلَ وأيقظ أهلَه وجدَّ وشدَّ المِئزَرَ".

 

هكذا كان عليه الصلاة والسلام في العشر الأواخر يتخلى عن الدنيا ويهجرُ ملذاتها وشهواتها، ويجتهدُ في العبادة وينشغل بالطاعة، وذلك بصالح الأعمال من صلاة وصدقة وتلاوة للقرآن، وجودٍ بأنواع الإحسان، والذكر والدعاء والاستزادة من الخير والهُدى.

 

لقد علم عليه الصلاة والسلام أنها ليالٍ فاضلات معدودات، تسعٌ أو عشر، ومن ضمنها: ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، فيجد ويجتهد ويشمر ويشد المئزر ويوقظ أهله ليتقربوا إلى الله -سبحانه- بالصالحات، ويشهدوا ما فيها من الخيرات، رجاء أن يَظفَر الجميعُ ويفوزوا بفضل وخير تلك الليالي.

 

وإيقاظه -صلى الله عليه وسلم- لأهله في ذلك إشارة إلى الواجب المنوط بكل فرد من أمته، بحيث لا يتعلق به ولا يقتصر عليه وحده، بل يشمل الدائرة الأوسع، وأولها الأهل؛ لأن العبد مطالب أن يقي نفسه وأهله من عذاب الله، وتلك هي الرعاية الواجب فعلها والقيام بها، قال ربنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6].

 

النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحيي العشرَ كلّها، ويجتهد فيها اجتهادا عظيما، وأما حالنا اليوم فنسأل الله لنا ولعامة المسلمين الرحمة والهداية، فما تكاد تدخل العشر إلا ويدِب إلى قلوب البعض الضعفُ والوهن، ويدخل النفوسَ العجزُ والكسل، ويقلّ النشاط والاجتهاد، وتفتر العزائم وتخمد الهمم.

 

والمجتهد من تراه يحافظ على الفريضة، وبالكاد بعضَ الركعات من صلاة التراويح، ومنهم من يقتصر على ليلة السابع والعشرين يستعد لها استعدادا خاصا.

 

هذه العشر المباركة -يا أمة النبي الحبيب- فرصةُ العمر، وغنيمةٌ لمن وفقه الله -عز وجل-، فلا ينبغي لنا أن نُفَوِّتها على أنفسنا وأهالينا، فما هي إلا ليال معدودة قد ندرك الليلة العظمى، ليلةَ القدر، التي هي خير من ألف شهر.

 

إنها ليلةُ القرب والمناجاة، ليلةُ الرحمة والغفران، ليلةٌ هِيَ أمُّ الليالي، كثيرةُ البركات، عزِيزة الساعات، الأجر فيها كثير، والخير عميم، والرحمة مُضاعفة، والقلوب مُقبِلة على مقلِّبها، فسبحان من إذا أعطى فلا حدَّ لعطائه، كما أنه سبحانه إذا منَع لا مُعطي لما مَنع.

 

ليلة القدر ليلةٌ شريفة عظيمة، ادخر الله فيها لهذه الأمة خيرا كثيرا، ويكفيها شرفا على أنها الليلة المباركة التي أنزل الله فيها القرآن العظيم، قال ربنا: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) [الدخان: 3]، وقال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 1 - 3]، وهذا الشرف لهذه الليلة إن دل على شيء، فإنما يدل على فضل وشرف العمل فيها، وكثرةِ ما يُعطِي الله -تعالى- من الأجر العظيم، والثوابِ الكريم لمن وافقها قائما بين يدي الله مصليا أو داعيا أو ذاكرا لله -جل وعلا-؛ ففي الحديث الصحيح قال الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا" أي تصديقا بفضلها، وتصديقا بمشروعية العمل الصالح فيها‏، من صلاة وقراءة ودعاء وذكر،‏ بحيث لا يكون في قلب المؤمن شك ولا تردد، ولا يريد من صلاته ولا من قيامه ولا دعائه شيئا من حطام الدنيا، ولا يريد مراءاةَ الناس، ولا التماسَ شيءٍ من مدحهم أو ثنائهم عليه، وإنما يريد الأجر ويرجو الثواب من الله وحده، فجزاءه "غُفر له ما تقدم من ذنبه".

 

ولكن من حُرم بركة هذه الليلة وخيرها، فما أعظمَ حرمانه وما أشد خسارته؛ ففي صحيح ابن ماجة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلاَ يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلاَّ مَحْرُومٌ".

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 

إن هذه الليالي العظيمة تنادي أصحاب الهمم العالية، الراغبين في المغفرة والثواب، الراغبين في نعيم القرب من الرحيم الودود: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].

 

إن هذه الليالي العظيمة تنادي رهبان الليل الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ليتلذذوا بالقيام والركوع والسجود بين يدي مولاهم في هذه الليالي، لينالوا الأجر والثواب يوم الجزاء: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر: 30].

 

إن هذه الليالي العظيمة تنادي أصحاب الحاجات ليرفعوا أيدِيهم لرب السموات والأرض ليكشف عنهم ما هم فيه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62].

 

إن هذه الليالي العظيمة تنادي المذنبين العصاة المسرفين الذين زلت أقدامهم، الذين أفرطوا في المعاصي واستكثروا منها: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) [الزمر: 53].

 

إن هذه الليالي العظيمة تنادي المرضى والمبتلين لدعاء من بيده الشفاء والدواء: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 80].

 

في هذه الليالي العظيمة خاصة وفي كل الليالي عامة؛ كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ينزلُ ربُّنا -تباركَ وتعالى- كلَّ ليلةٍ حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخِرُ، إلى السَّماءِ الدنيا فيقولُ: من يدعُوني فأستجيبَ لهُ؟ من يَسْتَغْفِرُنِي فأغفر لهُ؟ مَنْ يسألُني فأُعطيَهُ".

 

فيا عباد الله: هذا أوانُ الجِد من كان مُجدا، هذا زمان التعبد من كان مُستعدا، وهذا سبيل الخير وبابه مفتوح لمن أراد لذلك سبيلا.

 

ويا من ضيعتم ثلثي رمضان: إليكم الفرصةَ الأخيرة لتلحقوا قطار الفائزين، فإن الفرصة إذا أفلتت كانت حسرةً وندامة، وليس لأحد علمٌ بطول العُمُرٍ ليستدرك في المستقبل ما فاته في الماضي.

 

فالأنفاس معدودة، والآجال محدودة، فمَن اغتنم فيها الفرصة الحاضرة، وتاجر في الأعمال الصالحة، ربح المَغْنَم، وكان من السعداء المُنعَّمين.

 

 

المرفقات

العشر الأواخر فهل من مشمر؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات