هذا هو نبيكم وحبيبكم ومصطفاكم (2)

أحمد شريف النعسان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ نعمة سلامة الصدر 2/ الاقتداء بالنبي الكريم في سلامة الصدر 3/ موقف النبي الكريم من أُبيّ بن سلول 4/ دروس وعبر من ذلك الموقف 5/ بعدنا عن سيرة نبينا الكريم

اقتباس

لِتحْنِ البَشَرِيَّةُ رَأْسَهَا أَمَامَ صَاحِبِ هذهِ الرَّحمَةِ المُهْدَاةِ, إِنَّهَا رَحمَةٌ عَجِيبَةٌ! واللهِ مَا عَرَفَتْهَا البَشَرِيَّةُ في شَخْصٍ قَبلَ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, ولا بَعْدَهُ.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: فيَا عِبَادَ اللهِ, لَيسَ أَروَحَ للعَبدِ, ولا أَطرَدَ لِهُمُومِهِ, ولا أَقَرَّ لِعَينِهِ, من أن يَعِيشَ سَلِيمَ القَلبِ, ومُبَرَّأً من الضَّغِينَةِ والأَحقَادِ؛ لأنَّ الضَّغَائِنَ والأَحقَادَ سَبَبٌ لِفَسَادِ القَلبِ, وسَبَبٌ لِتَسَرُّبِ الإِيمَانِ من القَلبِ, وسَبَبٌ لِظُلْمَةِ القَلبِ, وسَبَبٌ لِفَسَادِ الأَعمَالِ الصَّالِحَةٍ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: سَلامَةُ الصَّدْرِ من لَوَازِمِ التَّقوَى, وهيَ نِعمَةٌ من أَعظَمِ نِعَمِ اللهِ -تعالى- التي تُوهَبُ لأَهلِ الجَنَّةِ حِينَمَا يَدخُلُونَهَا, قَالَ -تعالى-: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: القَلبُ الذي يَمتَلِئُ حِقْدَاً يُتعِبُ صَاحِبَهُ, ويَجعَلُ صَاحِبَهُ دَائِمَاً مَشغُولَ الفِكْرِ, وفي حَالَةِ قَلَقٍ دَائِمٍ, لا يَهنَأُ بِنَومٍ, ولا يَتَلَذَّذُ بِلُقْمَةٍ, بَل يَجعَلُهُ بَعِيدَاً عن أَخلاقِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: لا يَصْلُحُ أَحَدٌ في هذهِ الحَيَاةِ الدُّنيَا أن تَكُونَ سِيرَتُهُ هَادِيَةً للنَّاسِ جَمِيعَاً, إلا سَيِّدَنا رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وكُلُّ مَن مَرَّ على وَجْهِ البَسِيطَةِ من عُظَمَاءَ وعُلَمَاءَ لا تَصْلُحُ سِيرَتُهُمُ التي نُقِلَتْ إِلَينَا أن تَكُونَ قُدْوَةً هَادِيَةً لِكُلِّ النَّاسِ, إلا سيرَةَ الحَبِيبِ المُصطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-.

 

فَمَن أَرَادَ الكَمَالَ لِشَخْصِيَّتِهِ, فَعَلَيهِ أن يَلتَزِمَ قَولَ اللهِ -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) [الأحزاب:21].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: رَحمَةُ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- رَحمَةٌ عَجِيبَةٌ, مَا عَرَفَتِ البَشَرِيَّةُ مِثلَهَا, وجَمِيعُ الرُّحَمَاءِ من البَشَرِ يَحثُونَ رُؤُوسَهُم في التُّرَابِ أَمَامَ صَاحِبِ هذهِ الرَّحمَةِ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: رَجُلٌ من المُنَافِقِينَ عُلِمَ نِفَاقُهُ بِطَرِيقِ الوَحْيِ, وهوَ رَأْسُ المُنَافِقِينَ, جَرَائِمُهُ لا تُحْصَى, ومَعَايِبُهُ لا تُعَدُّ, وقد آذَى سَيِّدَنا رَسُولَ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- شَخْصِيَّاً في مَالِهِ وعِرْضِهِ وأَصْحَابِهِ, وذَكَرَ اللهُ -تعالى- شَيئَاً عن إِجْرَامِهِ في حَقِّ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-.

 

قَالَ -تعالى-: (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وللهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون:7]، وقَالَ -تعالى-: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون:8].

 

وأَعظَمُ جُرْمٍ ارتَكَبَهُ بَعدَ نِفَاقِهِ وكُفْرِهِ أَنَّهُ طَعَنَ في عِرْضِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-.

 

ومَرَّتِ الأَيَّامُ والأَشْهُرُ والسَّنَوَاتُ, وحَانَ أَجَلُ هذا المُنَافِقِ, وحَانَ أن يَذُوقَ هذا المُجْرِمُ كَأْسَ المَنِيَّةِ, الذي كَتَبَهُ اللهُ -تعالى- على كُلِّ مَخْلُوقٍ, قَالَ -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران:185]، وقَالَ -تعالى-: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص:88]، جَاءَتْ مُصِيبَةُ المَصَائِبِ لِهذا المُجْرِمِ, جَاءَتْهُ مُصِيبَةُ المَوْتِ, لِيَرَى مَا قَدَّمَ.

 

ولكن؛ ماذا كَانَ مَوقِفُ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- مِنهُ؟ وكَيفَ كَانَ شَأْنُهُ؟.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: لِتحْنِ البَشَرِيَّةُ رَأْسَهَا أَمَامَ صَاحِبِ هذهِ الرَّحمَةِ المُهْدَاةِ, إِنَّهَا رَحمَةٌ عَجِيبَةٌ! واللهِ مَا عَرَفَتْهَا البَشَرِيَّةُ في شَخْصٍ قَبلَ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, ولا بَعْدَهُ.

 

روى الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-, أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, أَعْطِنِي قَمِيصَكَ أُكَفِّنْهُ فِيهِ, وَصَلِّ عَلَيْهِ, وَاسْتَغْفِرْ لَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قَمِيصَهُ، فَقَالَ: "آذِنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ"، فَآذَنَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ -رضي الله عنه- فَقَالَ: أَلَيْسَ اللهُ نَهَاكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ؟ فَقَالَ: "أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ, قَالَ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)". فَصَلَّى عَلَيْهِ, فَنَزَلَتْ: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً) [التوبة:84].

 

وفي رِوَايَةٍ للشَّيخَينِ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةًوَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ".

 

وفي رِوَايَةٍ للشَّيخَينِ -أَيضَاً- عن جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- قَبْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ, فَأَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ, فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ, وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ, وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: أَينَ نَحنُ من سِيرَةِ هذا الحَبِيبِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؟ أَينَ طَلَبَةُ العِلْمِ، فَضْلاً عن عُلَمَائِنَا، من هذا الخُلُقِ العَظِيمِ؟! أَينَ هذا القَلبُ فِينَا؟ مَا عَرَفَ قَلبُهُ الشَّرِيفُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- حِقْدَاً ولا غِلَّاً على أَحَدٍ من خَلْقِ اللهِ, حَتَّى في حَقِّ هذا الرَّجُلِ الخَبِيثِ الكَافِرِ رَأْسِ النِّفَاقِ, الذي اتَّهَمَ أُمَّ المُؤمِنِينَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ -رضي الله عنها، وحَاشَاهَا- وحَرَّضَ المُشرِكِينَ على قِتَالِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وتَعَاوَنَ مَعَ اليَهُودِ ضِدَّ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وحَرَّضَ الأَنصَارَ على إِخرَاجِ سَيِّدِنا رَسُولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- وأَصْحَابِهِ من المَدِينَةِ.

 

مَعَ كُلِّ هذا, كَانَتِ الشَّفَقَةُ والرَّحمَةُ في قَلبِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَ هذا الرَّجُلِ, حَتَّى إِنَّهُ أَرَادَ أن يَزِيدَ على السَّبعِينَ في اسْتِغْفَارِهِ لَهُ, حَتَّى نَهَاهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- عن ذلكَ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ, لِنَتَذَكَّرْ جَمِيعَاً قَولَ اللهِ -تعالى-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:88-89].

 

اللَّهُمَّ ارزُقْنَا سَلامَةَ الصَّدْرِ. آمين.

 

أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

 

 

المرفقات

هو نبيكم وحبيبكم ومصطفاكم (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات