هذا هو نبيكم وحبيبكم ومصطفاكم (1)

أحمد شريف النعسان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ خطورة الظلم وأذية عباد الله تعالى 2/ موقف نبينا من سَوَادٍ لمّا استقاد منه 3/ دروس وعبر من ذلك الموقف

اقتباس

هذا هوَ نَبِيُّكُم وحَبِيبُكُم ومُصطَفَاكُم, فَارَفَعُوا رُؤُوسَكُم إلى السَّمَاءِ بانتِسَابِكُم لأُمَّتِهِ, وباتِّبَاعِكُم لَهُ, وقُولُوا لمن وَلَّى وَجْهَهُ شَطْرَ الشَّرقِ والغَربِ, والمُنَظَّمَاتِ الدُّوَلِيَّةِ, لِحَلِّ هذهِ الأَزمَةِ, مُلتَمِسَاً شِفَاءً لِمَا في صَدْرِهِ, ودَوَاءً لِمَرَضِهِ, وحَلَّاً لِمَشَاكِلِهِ: تَعَالَ إلى مَا هوَ خَيرٌ لَكَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21].

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: فيَا عِبَادَ اللهِ, حُقُوقُ العِبَادِ عَظِيمَةٌ وعَظِيمَةٌ جِدَّاً, وأَذِيَّةُ العِبَادِ من أَعظَمِ الذُّنُوبِ التي لا يَغفِرُهَا اللهُ -سبحانه وتعالى-, فاللهُ -تعالى- قد يَغفِرُ الذُّنُوبَ التي بَينَهُ وبَينَ عَبدِهِ, أمَّا حُقُوقُ العِبَادِ فَلا تُغفَرُ إلا إذا سَامَحَ صَاحِبُ الحَقِّ.

 

روى الحاكم عَن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الدَّوَاوِينُ ثَلاثَةٌ: فَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُ اللهُ مِنهُ شَيئَاً، وَدِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيئَاً، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنهُ شَيئَاً؛ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الذي لا يَغْفِرُ اللهُ مِنهُ شَيئَاً, فَالإِشْرِاكُ باللهِ -عزَّ وجلَّ-. قَالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). وَأَمَّا الدِّيوَانُ الذي لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيئَاً قَطُّ, فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ. وَأَمَّا الدِّيوَانُ الذي لا يَتْرُكُ اللهُ مِنهُ شَيئَاً, فَمَظَالِمُ العِبَادِ بَينَهُم القِصَاصُ لا مَحَالَةَ".

 

يَا عِبَادَ اللهِ: اِستَحْضِرُوا وُقُوفَكُم بَينَ يَدَيِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- يَومَ القِيَامَةِ, وخَاصَّةً وأَنتُم تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةِ التي جَعَلَتِ الحَلِيمَ حَيرَانَ في تَعَامُلِ النَّاسِ مَعَ بَعْضِهِمُ البَعْضِ.

 

لقد كَثُرَ الظُّلْمُ وعَمَّ وطَمَّ في هذهِ الأَزمَةِ, ولقد زَادَ البُعْدُ عن اللهِ -تعالى- إلا من رَحِمَ اللهُ -تعالى-, ومَا ذَاكَ إلا لِنِسْيَانِ العَرْضِ على اللهِ -تعالى- يَومَ العَرْضِ, ولِنِسْيَانِ قَولِهِ -تعالى-: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر:92-93].

 

ولِنِسْيَانِ قَولِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا, فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ, مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ, فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ, فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ" رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: اُنظُرُوا إلى مَوقِفٍ من مَوَاقِفِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- في لَحْظَةٍ حَرِجَةٍ, ودَقِيقَةٍ صَعْبَةٍ, ومَوقِفٍ يَرجُفُ فِيهِ القَلبُ والفُؤَادُ, في مَعرَكَةِ الفُرقَانِ مَوقِعَةِ بَدْرٍ.

 

وَقَفَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- وهوَ القَائِدُ يُسَوِّي الصُّفُوفَ ويُعَدِّلُهَا, وكَانَ في يَدِهِ قِدْحٌ يُعَدِّلُ بِهِ, وكَانَ سَوَادُ بنُ غَزِيَّةَ مُسْتَنْصِلاً من الصَّفِّ، فَطَعَنَ في بَطْنِهِ بالقِدْحِ، وَقَالَ: "اِستَوِ يَا سَوَادُ". فَقَالَ سَوَادُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوجَعتَنِي فَأَقِدْنِي. فَكَشَفَ عَن بَطْنِهِ وَقَالَ: "اِستَقِدْ". فَاعتَنَقَهُ سَوَادُ وَقَبَّلَ بَطْنَهُ. فَقَالَ: "مَا حَمَلَكَ على هذا يَا سَوَادُ؟". قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَد حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدتُ أن يَكُونَ آخِرُ العَهْدِ بِكَ أن يَمَسَّ جِلدِي جِلدَكَ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بِخَيرٍ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: هل أَرَاكُمُ التَّارِيخُ شَخصِيَّةً كَشَخصِيَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؟ هل أَرَاكُم زَعِيمَاً ومُرَبِّيَاً ودَاعِيَاً وهَادِيَاً وبَشِيرَاً ونَذِيرَاً كَشَخصِهِ الشَّرِيفِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-؟.

 

لقد وَقَفَ سَوَادُ بنُ غَزِيَّةَ -رضي الله عنه- مُنتَظِرَاً سَاعَة الصِّفْرِ, في سَاعَةٍ حَرِجَةٍ, وخَاطَبَ قَائِدَهُ وسَيِّدَهُ وحَبِيبَهُ ومُصطَفَاهُ, بِكُلِّ حُبٍّ وصِدْقٍ وشَجَاعَةٍ أَدَبِيَّةٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوجَعتَنِي فَأَقِدْنِي.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: المَوقِفُ لَيسَ دُعَابَةً ولا مِزَاحَاً, المَوقِفُ مَوقِفُ جِدٍّ, سَوَادُ يُرِيدُ شَيئَاً من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وجَاءَتِ الفُرصَةُ لِيُحَقِّقَ مَا يُرِيدُ.

 

لقد طَلَبَ القَوَدَ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, وهوَ يَعلَمُ عِلْمَ اليَقِينِ بِأَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- لَن يَتَجَاهَلَ هذا الطَّلَبَ, ولَن يُغضِبَهُ, لأَنَّهُ على يَقِينٍ بِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: ماذا فَعَلَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- عِندَمَا قَالَ لَهُ سَوَادٌ: فَأَقِدْنِي؟ لقد كَشَفَ عن بَطْنِهِ, وقَالَ لَهُ: "اِستَقِدْ". أَيُّ عَظَمَةٍ هذهِ؟! أَيُّ قُدْوَةٍ هذهِ؟!.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: حُقَّ للتَّارِيخِ أن يَحنِيَ جَبهَتَهُ, ويَخفِضَ هَامَتَهُ؛ إجلالاً وتَعظِيمَاً لهذا المَوقِفِ الذي أَذهَلَ عُقَلاءَ الأَعدَاءِ, وأَلجَمَ فُصَحَاءَ الخُصُومِ.

 

تَقَدَّمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- للقَوَدِ, وهوَ لا يَعلَمُ ماذا سَيَفعَلُ سَوَادٌ؛ مَعَ أَنَّهُ -واللهِ الذي لا إِلَهَ غَيرُهُ- مَا كَانَ ظَالِمَاً لَهُ.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: واللهِ الذي لا إِلَهَ غَيرُهُ! مَا كَانَ مَوقِفُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- هذا من بَابِ الدُّعَابَةِ الإِعلامِيَّةِ, ومَا كَانَ مَسْرَحِيَّةً من المَسْرَحِيَّاتِ كَمَسْرَحِيَّاتِ الإِعلامِ, بل كَانَ الدَّافِعُ لَهُ خَوْفَهُ من اللهِ -تعالى-, أن يَلقَى اللهَ -تعالى- وأَحَدٌ من الخَلْقِ يُطَالِبُهُ بِحَقٍّ من الحُقُوقِ. فَأَينَ من يُنصِفُ الآخَرِينَ من نَفسِهِ؟.

 

يَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ خَوْفَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- من اللهِ -تعالى- القَائِلِ: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:4-6]. دَفَعَهُ لهذا المَوقِفِ مَعَ سَوَادٍ.

 

بل هذا الحَبِيبُ الأَعظَمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يَقِفُ قَبلَ وَفَاتِهِ بِخَمسَةِ أَيَّامٍ قَائِلاً للنَّاسِ: "مَن كُنتُ جَلَدتُ لَهُ ظَهْرَاً فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنهُ, وَمَن كُنتُ شَتَمتُ لَهُ عِرْضَاً فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنهُ".

 

يَا عِبَادَ اللهِ: هذا هوَ نَبِيُّكُم وحَبِيبُكُم ومُصطَفَاكُم, فَارَفَعُوا رُؤُوسَكُم إلى السَّمَاءِ بانتِسَابِكُم لأُمَّتِهِ, وباتِّبَاعِكُم لَهُ, وقُولُوا لمن وَلَّى وَجْهَهُ شَطْرَ الشَّرقِ والغَربِ, والمُنَظَّمَاتِ الدُّوَلِيَّةِ, لِحَلِّ هذهِ الأَزمَةِ, مُلتَمِسَاً شِفَاءً لِمَا في صَدْرِهِ, ودَوَاءً لِمَرَضِهِ, وحَلَّاً لِمَشَاكِلِهِ: تَعَالَ إلى مَا هوَ خَيرٌ لَكَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب:21].

 

يَا عِبَادَ اللهِ: لا تَشُذُّوا عن هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, ولا تَظُنُّوا بِأَنَّ اللهَ -تعالى- غَافِلٌ عَمَّا تَعمَلُونَ, فَاتَّقُوا اللهَ في عِبَادِ اللهِ, ولا تَظلِمُوا أَحَدَاً, فَإِنَّ رَبَّكُم لَبِالمِرْصَادِ.

 

اللَّهُمَّ رُدَّنَا إِلَيكَ رَدَّاً جَمِيلاً يَا أَرحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.

 

أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ؛ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

 

المرفقات

هو نبيكم وحبيبكم ومصطفاكم (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات