عناصر الخطبة
1/ فضائل القرآن 2/ حالنا مع القرآن 3/ حال السلف مع القرآن في رمضان 4/ الحث على اغتمام ليالي رمضان في تلاوة القرآن.اقتباس
عجيب حالنا مع كتاب الله (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، فمن منا من تأثر عند سماع آخر سورة هود؟! أو آخر سورة الزمر؟! ومن منا من خاف عند سماع الواقعة والحاقة؟! ومن منا من تاب وأناب يوم أن قرأ القيامة؟! فما هذا الران الذي على قلوبنا؟! أما آن لها أن تعالج بكتاب الله..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله والعمل بطاعته، فمن حقَّق التقوى جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همّ فرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، تلكم ثمرات التقوى، فما أسعد أهله وما أجزل ثوابها! جعلني الله وإياكم من أهل التقوى بمنه وكرمه.
أيها المسلمون: ما زلتم تتمتعون بأيام شهر رمضان المباركة وبلياليه الشريفة، وإنها لفرصة العمر ومناسبة قد لا تتكرر عليك صيام وقيام، وصدقة، وبر وإحسان، وجود ومواساة، وأذكار وصلوات، ولحظات مناجاة يكون هذا كله في شهر رمضان مع تلاوة القرآن فشهر رمضان هو شهر القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].
هذا القرآن هو الحق والهدى والبيان والموعظة (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:138]، (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [المائدة:16].
إنه الموعظة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 57- 58].
القرآن فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
القرآن حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الذكر الحكيم كتاب كريم لا تنقضي عجائبه، معجز في حروفه ومعانيه، أخباره صدق وأحكامه عدل (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام:115].
من قال بالقرآن صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِرَ، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط مستقيم، الإنسان بلا قرآن كالجسد بلا روح،كتاب الله هو الدواء والشفاء للأجسام والأرواح (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت:44].
القرآن بعجائبه وآياته، ودلائله ومعجزاته، وبراهينه وبياناته يزكي القلوب ويشرح الصدور، ويكشف الشبهات وينير الظلمات، فهو ينبوع العلم بل هو آيات بينات في صدور الذين أتوا العلم.
يرفع الله بالقرآن أقوامًا ويضع به آخرين، يأتي القرآن يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، إنه المعجزة العظيمة المستمرة إلى يوم القيامة.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين "ما من الأنبياء من نبي إلا قد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحى الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة".
القرآن العظيم تكلم الله به، وأنزله بواسطة الأمين جبريل -عليه الصلاة والسلام- إلى إمام المتقين محمد رسول الله وخليله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) [الشعراء: 193- 195].
أُنزل جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، ثم نزل بعد ذلك مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء:106].
ابتدأ نزوله في مكان شريف في البلد الحرام في زمان شريف وهو شهر رمضان، فاجتمع لكتاب الله شرف المكان والزمان، ومن هنا يستحب الإكثار من تلاوته في شهر رمضان لابتداء نزوله فيه.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدارس القرآن مع جبريل في شهر رمضان في كل ليلة من شهر رمضان.
أيها المسلمون: لقد كان أسلافنا يكثرون من تلاوة القرآن، وتدبره وتفهمه، وخاصة في هذا الشهر الكريم، قال الزهري: "إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن، وإطعام الطعام"، كيف لا والله تعالى يقول في آية القراء: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 29- 30].
وفي الأحاديث الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كذلك ما يرغب في حفظ القرآن وتعلمه والإكثار من تلاوته "يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ حَلِّهِ، فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ، فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأَهُ وَارْقَهُ، وَيُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً ".
"إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)"، وكان عناية السلف بهذا القرآن عظيمة، قال النووي: "وقد كانت للسلف -رضي الله عنهم- عادات مختلفة في القدر الذي يختمون فيه، فكان جماعة منهم يختمون بتدبر في كل شهرين ختمة، وآخرون في كل شهر ختمة، وآخرون في كل عشر ليال ختمة، وآخرون في كل ثمان ليال ختمة، وآخرون في كل سبع ليال ختمة، وهذا فعل الأكثرين من السلف، وآخرون في كل ست ليال، وآخرون في خمس، وآخرون في أربع، وكثيرون في كل ثلاث، وكان كثيرون يختمون في كل يوم وليلة ختمة، وختم جماعة في كل يوم وليلة ختمتين، وآخرون في كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وختم بعضهم في اليوم والليلة ثماني ختمات: أربعًا في الليل، وأربعًا في النهار".
أيها المسلمون: لقد كانوا يتأثرون بكتاب الله، ويبكون عند تلاوته ويخشعون عند سماعه في هذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قرأ عليه ابن مسعود -رضي الله عنه- سورة النساء يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- فلما بلغت قول الله (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) فالتفت إليه فإذا عيناه تزفان -صلى الله عليه وسلم-.
هذا هو الخشوع خشوع في سكون لا يشعر به أحد، أما من علا صراخه وارتفع زعيقه، ولربما صرع أو خر ميتًا عند سماع القرآن فلم يكن هذا من هدي السلف، وإنما وجد فيمن بعدهم كما قاله أهل العلم.
فأما من حصل منه شيء من هذا، وهو لا يستطيع أن يملك نفسه فلا حرج عليه، وأما من أظهره رياء وسمعة فهو آثم لا محالة، والله المستعان.
أيها المسلمون: تعلموا كتاب الله، وعلموه لأبنائكم وأهليكم والمسلمين، واقرءوا تفسيره وتدبروا معانيه لتنالوا الفوز والفلاح، قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران".
قال أهل العلم: "الماهر بالقرآن هو الحاذق، وهو من جمع بين جودة التلاوة وحسن الحفظ".
يشفع لهم القرآن ويجادل عنهم ويتبوؤن المنازل في الجنان بشفاعة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: "يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما".
وقال: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها".
فيا أيها التالي لكتاب الله العامل به هنيئًا لك بنعمة القرآن، ويبشراك بمضاعفة الحسنات، ويا بشراك بمضاعفة الحسنات عند ربك جل جلاله.
إن هذا القرآن أنزل للتدبر والعمل به لا لمجرد التلاوة فحسب والقلب غافل (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29].
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "أنزل القرآن ليتدبر به ويعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً، ولكن الذنوب والمعاصي تحول دون التدبر لمعانيه، والخشوع عند سماعه، وإلى الله نشكو قسوة قلوبنا، وحجابًا من الغفلة بيننا وبين كتاب ربنا، فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع عند تلاوته، ولا أثر لذلك عند كثير من المسلمين، لا أثر للقرآن في معاملاته ولا في عباداته ولا في استقامة أحواله فلا حول ولا قوة إلا بالله".
عجيب حالنا مع كتاب الله (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، فمن منا من تأثر عند سماع آخر سورة هود؟! أو آخر سورة الزمر؟! ومن منا من خاف عند سماع الواقعة والحاقة؟! ومن منا من تاب وأناب يوم أن قرأ القيامة؟!
فما هذا الران الذي على قلوبنا؟! أما آن لها أن تعالج بكتاب الله -عز وجل- (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم املأ قلوبنا إيمانا وتقوى، اللهم نور بالقرآن صدورنا واجعله جلاء لأحزاننا وذهابا لهمومنا وغمومنا، اللهم اجعله شافعًا لنا وسائقًا لنا إلى جنات النعيم، يا رب العالمين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيه عبده ورسوله اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاغتنموا عباد الله مواسم العمر، واغتنموا كتاب الله قراءة وعملاً وتعليمًا وتدبرًا، ولاسيما في هذا الشهر المبارك، واحذروا من هجر القرآن أو الرياء في تلاوته فإن من ضمن أول الثلاثة الذين تُسعر بهم النار يوم القيامة من قرأ القرآن رياء وسمعة ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم يُسحب على وجهه حتى يلقى في نار جهنم.
وهجر القرآن أنواع؛ كما قاله أهل العلم، فمن ذلك هجر سماعه والإيمان به، وهجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وهجر تحكيمه والتحاكم إليه، وهجر تدبره وتفهمه ومعرفة معانيه.
ومن ذلك هجر الاستشفاء والتداوي به من مرض القلب، وكل هذه الأنواع تدخل في قول الله –عز وجل-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان:30].
نسأل الله لنا ولكم الهداية والتوفيق، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء همومنا وأحزاننا، اللهم ارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم