اقتباس
في خضم فتنة ما يسمى الربيع العربي، يتعرض أصحاب المنهج السلفي المستقيم إلى هجوم عنيف، بعيدًا عن الحوار الهادف للوصول للحق، وبشتى أنواع الأسلحة المتاحة وإن كانت غير أخلاقية كالكذب والافتراء والطعن والتهديد من قبل أهل الأهواء والبدع، ويستدرج معهم جهلاً بعض المنتسبين للسلفية..
في خضم فتنة ما يسمى الربيع العربي، يتعرض أصحاب المنهج السلفي المستقيم إلى هجوم عنيف، بعيدًا عن الحوار الهادف للوصول للحق، وبشتى أنواع الأسلحة المتاحة وإن كانت غير أخلاقية كالكذب والافتراء والطعن والتهديد من قبل أهل الأهواء والبدع، ويستدرج معهم جهلاً بعض المنتسبين للسلفية.
والغرض من هذا الهجوم هو إسكات الخطاب السلفي المبني على الكتاب والسنة وفهم السلف من الصحابة والتابعين، وعدم نشره بين الناس؛ حتى لا يظهر إلا التفسير السياسي للإسلام والتوظيف الحركي للدين لخدمة الأحزاب التي تسعى للوصول للحكم، فيظن عامة المسلمين أن هذا هو الحق، وأن ما غيره هو الباطل.
والواجب على السلفيين عدم الرضوخ لهذه الهجمة الشرسة، والصبر على ما يصيبهم من وراء ذلك من أجل تقديم النصح للمسلمين حكامًا ومحكومين، كما في الحديث العظيم الذي رواه مسلم في الصحيح من حديث تميم الداري، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة"، قلنا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". قال الشيخ ابن باز في شرحه لهذا الحديث: "أما النصيحة لأئمة المسلمين فبالدعاء لهم، والسمع والطاعة لهم في المعروف، والتعاون معهم على الخير وترك الشر، وعدم الخروج عليهم، وعدم منازعتهم، إلا أن يوجد منهم كفر بواح عليه برهان من الله -سبحانه وتعالى-، كما جاء ذلك في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- في مبايعة الأنصار للنبي -صلى الله عليه وسلم-". مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، المجلد الخامس والعشرون.
كما قال الشيخ ابن باز -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث: "وأما النصيحة لعامة المسلمين فإنها تكون بتعليمهم وتفقيههم في الدين ودعوتهم إلى الله سبحانه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وإقامة الحدود عليهم والتعزيرات الشرعية، كل هذا من النصيحة لهم. والله ولي التوفيق". المصدر السابق.
والنصح للمسلمين -حكامًا ومحكومين- على الوجه المبين أعلاه هو من تمام الانقياد والاتباع للتوجيهات النبوية، وذلك بالتواصي بالحق ببيان الأحكام الشرعية للناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
كيف لا والرسول -صلى الله عليه وسلم- يأمرنا كما روي عَنْ أَبي سعيدٍ الخُدريِّ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَانِ". رواه مسلِمٌ.
ومقتضى ذلك عدم السكوت على المنكر، وإنكاره وفق الضوابط الشرعية، وأن المسلم الذي يرى المنكر بنفسه رؤية بصرية محققة أو سمعًا محققًا، ثم كان عالمًا بالمسألة ومدركًا أن إنكاره لا يؤدي إلى منكر أكبر منه، وأن إنكاره بحضرة من قام بالمنكر وليس بغيبته ودون فضيحة ولا تشهير، بل بالحكمة والموعظة الحسنة، مع بيان الحق بالأدلة الشرعية. وهذه الضوابط تنطبق على الحكام كما تنطبق على عامة المسلمين.
أما أن يرى السلفيون الانحرافات عن دين الإسلام عقيدًا وشريعة ومنهجًا، ويطلب منهم السكوت، فهذا مرفوض ومخالف للدين وخيانة للأمة؛ يقول الشيخ الدكتور صالح الفوزان -حفظه الله-: "السكوت عن أهل البدع من أعظم الغش".
رابط صوتي:
ورحم الله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل فقد قال: "إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!". مجموع الفتاوى (28/231).
وبدلاً من أن يشكروا السلفيين سعيهم في تصويب أخطائهم، يقولون: اسكتوا ولا تخذلوا ولا تعينوا أعداء الأمة! فهل سكتُّم عن بث الشبهات وإحياء مناهج أهل البدع حتى يسكت السلفيون؟!
يقول الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- في كتابه (الرد على المخالف من أصول الإسلام): "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبر بافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، والنجاة منها لفرقة واحدة على منهاج النبوة، أيريد هؤلاء اختصار الأمة إلى فرقة وجماعة واحدة مع قيام التّمايز العقدي المضطرب؟! أم أنها دعوة إلى وحدة تصدّع كلمة التوحيد، فاحذروا. وما حجتهم إلاّ المقولات الباطلة:
• لا تصدّعوا الصف من الداخل !
• لا تثيروا الغبار من الخارج !
• لا تحركوا الخلاف بين المسلمين !
• نلتقي فيما اتّفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه ! وهكذا.
وأضعف الإيمان أن يقال لهؤلاء: هل سكت المبطلون لنسكت، أم أنهم يهاجمون الاعتقاد على مرأى ومسمع، ويطلب السكوت؟! اللهم لا، ونعيذ بالله كل مسلم من تسرب حجة اليهود، فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب، ومع هذا يظهرون الوحدة والاجتماع، وقد كذبهم الله تعالى فقال سبحانه: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى)، وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ)، ولهذا فإذا رأيت من رد على مخالف في شذوذ فقهي أو قول بدعي، فاشكر له دفاعه بقدر ما وسعه، ولا تخذله بتلك المقولة المهينة: لماذا لا يرد على العلمانيين؟! فالناس قدرات ومواهب، ورد الباطل واجب مهما كانت رتبته، وكل مسلم على ثغر من ثغور ملّته". انتهى.
وكما أن السفليين ينصحون ولا يسكتون، فكذلك يحذرون من أهل الأهواء والبدع المخالفين لمنهج النبوة وسلف هذه الأمة ولا يعذرونهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28/231 - 233) في ضمن جواب له عن الغيبة: "وإذا كان النصح واجبًا في المصالح الدينية الخاصة والعامة مثل نقلة الحديث الذين يغلطون أو يكذبون كما قال يحيى بن سعيد: سألت مالكًا والثوري والليث بن سعد –أظنه- والأوزاعي عن الرجل يتهم في الحديث أو لا يحفظ؟! فقالوا: بيِّن أمره. وقال بعضهم لأحمد بن حنبل: إنه يثقل عليّ أن أقول: فلان كذا وفلان كذا. فقال: "إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟!".
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين؛ حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟! فقال: "إذا قام واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل". فبيّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وذلك أن الله يقول في كتابه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ)، فأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنه أنزل الحديد كما ذكره، فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر، (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)، والكتاب هو الأصل، ولهذا أول ما بعث الله رسوله أنزل عليه بالكتاب، ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوان على الجهاد.
وأعداء الدين نوعان: الكفار والمنافقون، وقد أمر الله نبيه بجهاد الطائفتين في قوله: (جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، في آيتين من القرآن، فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب، ويلبسونها على الناس، ولم تبيّن للناس، فسد أمر الكتاب، وبدل الدين، كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله.
وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سماعون للمنافقين، قد التبس عليهم أمرهم، حتى ظنوا قولهم حقًّا وهو مخالف للكتاب، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، فلابد أيضًا من بيان حال هؤلاء، بل الفتنة بهؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانًا يوجب موالاتهم، وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلابد من التحذير من تلك البدع، وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم، بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق، لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين، ولم تكن كذلك، لوجب بيان حالها". انتهى.
هناك ضوابط ومعالم للمنهج الشرعي في التعامل مع أهل الأهواء والبدع والتحذير من المخالف:
1) لا بد أن تكون الغاية مبنية على الإخلاص والمتابعة، وذلك أن التحذير من أهل الأهواء والبدع من الجهاد في سبيل الله، ونحن متعبدون به، ويشترط له ما يشترط لسائر العبادات، ومعنى ذلك أنه ينبغي ألا يكون الموقف انتقامًا، ولا تشهياً ولا تشفياً؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله". مجموع الفتاوى (28/207). وقال -رحمه الله-: "إذا كان مبتدعاً يدعو إلى عقائد تخالف الكتاب والسنة، أو يسلك طريقاً يخالف الكتاب والسنة... بُيِّن أمره للناس؛ ليتقوا ضلاله، ويعلموا حاله، وهذا كله يجب أن يكون على وجه النصح، وابتغاء وجه الله تعالى لا لهوى الشخص مع الإنسان؛ مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية، أو تحاسد أو تباغض أو تنازع على الرئاسة، فيتكلم بمساوئه مظهراً للنصح، وقصده في الباطن الغض من الشخص، واستيفاؤه منه؛ فهذا من عمل الشيطان". مجموع الفتاوى (28/221).
2) ومن الضوابط أيضًا معرفة أن البدع ليست بدرجة واحدة، بل تتفاوت بقدر ما ارتبط بها من مفسدة، فمنها ما هو معصية، ومنها ما هو كفر أو شرك، وقد تكون بعض البدع ذريعة إلى الشرك. فلا بد أن ينزل كل إنسان منزلته، ويدعى بما يناسب حاله، كما قال الشاطبي -رحمه الله-: "كل بدعة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها، فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض؛ فالأشد عقاباً أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوات المطلوب في المفسدة". الاعتصام (1/359).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الطوائف المنتسبة إلى مبتدعين في أصول الدين على درجات: فمنهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة، ومنهم من يكون قد خالف السنة في أمور دقيقة". مجموع الفتاوى (3/348).
3) ومن الضوابط أيضاً: معرفة أن من صفات أهل السنة أنهم يعلمون الحق ويرحمون الخلق: والمبتدع من أولئك الخلق الذين يرحمهم أهل السنة مع يقينهم بكونهم على بدعة يستحقون بها العقوبة الشرعية وهي الهجر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون فيه موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون مع من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، [المائدة: 8]، ويرحمون الخلق فيريدون لهم الخير والهدى والعلم، ولا يقصدون لهم الشر ابتداءً، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق". الرد على البكري (2/490).
وقال: "وإذا نظرت إلى المبتدعة بعين القَدَر والحَيْرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم، رحمتهم وترفقت بهم؛ أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهوماً، وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف: 26]". مجموع الفتاوى (5/119).
ويمثل هذا الخلق العالي أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- لما رأى سبعين رأساً من رؤوس الخوارج وقد جُزَّت ونُصِبَتْ على درج دمشق، قال: "سبحان الله! ما يصنع الشيطان ببني آدم؟! كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثم بكى، وقال: إنما بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام". مسند أحمد 22314.
4) ومن الضوابط معرفة أن المبتدع والفاسق ينقص من موالاتهما بحسب جريرتهما، ولذلك قد يجتمع في المسلم حب وبغض، فيُحَبُّ لما معه من إيمان، ويُبْغَضُ لما اقترفه من بدعة وعصيان، كما قال شيخ الإسلام: "وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، وهذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة". مجموع الفتاوى (28/209).
فإذا فهمنا الضوابط أعلاه، وكان لصاحب البدع مجال للعودة للسنة، خصوصًا من لم يعش في بلدان ينتشر فيها التوحيد والسنة وتوافر كبار علماء السنة والجماعة، فالواجب نصحه قبل هجره، وإلا فالهجر واجب وعقوبة شرعية بحسب ما هو عليه من بدعة، ولا ينبغي السكوت عن الرد عليه والتحذير منه ولا مجاملته ولا مداهنته ولا مجالسته لمن عرف منهج السلف واطلع على آثارهم في هذا الباب.
قال الشيخ الدكتور صالح الفوزان -حفظه الله- في ظاهرة التبديع ص45: (فالواجب اتباع المستقيم على السنة الذي ليس عنده بدعة، وأما المبتدع فالواجب التحذير منه، والتشنيع عليه حتى يحذره الناس، وحتى ينقمع هو وأتباعه. وأما كون عنده شيء من الحق فهذا لا يبرر الثناء عليه أكثر من المصلحة، ومعلوم أن قاعدة الدين: "إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، وفي معاداة المبتدع درء مفسدة عن الأمة ترجح على ما عنده من المصلحة المزعومة إنْ كانت. ولو أخذنا بهذا المبدأ لم يضلل أحد، ولم يبدع أحد، لأنه ما من مبتدع إلا وعنده شيء من الحق، وعنده شيء من الالتزام، المبتدع ليس كافراً محضاً، ولا مخالفاً للشريعة كلها، وإنما هو مبتدع في بعض الأمور، أو غالب الأمور؛ وخصوصاً إذا كان الابتداع في العقيدة وفي المنهج، فإن الأمر خطير، لأن هذا يصبح قدوة، ومن حينئذ تنتشر البدع في الأمة، وينشط المبتدعة في ترويج بدعهم.
فهذا الذي يمدح المبتدعة ويشبِّه على الناس بما عندهم من الحق هذا أحد أمرين: إما جاهل بمنهج السلف ومواقفهم من المبتدعة؛ وهذا الجاهل لا يجوز أن يتكلم، ولا يجوز للمسلمين أن يستمعوا له، وإما أنه مغرض لأنه يعرف خطر البدعة ويعرف خطر المبتدعة ولكنه مغرض يريد أن يروّج للبدعة؛ فعلى كلٍ هذا أمر خطير، وأمر لا يجوز التساهل في البدعة وأهلها مهما كانت".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "فإذا كان أقوام منافقون يبتدعون بدعًا تخالف الكتاب ويلبسونها على الناس ولم تبين للناس فسد أمر الكتاب وبُدِّل الدين؛ كما فسد دين أهل الكتاب قبلنا بما وقع فيه من التبديل الذي لم ينكر على أهله. وإذا كان أقوام ليسوا منافقين لكنهم سمَّاعون للمنافقين قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقًا؛ وهو مخالف للكتاب وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين كما قال تعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، فلا بد أيضًا من بيان حال هؤلاء؛ بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم، فإن فيهم إيمانًا يوجب موالاتهم وقد دخلوا في بدع من بدع المنافقين التي تفسد الدين، فلا بد من التحذير من تلك البدع وإنْ اقتضى ذلك ذكرهم وتعيينهم؛ بل ولو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وأنها خير وأنها دين ولم تكن كذلك؛ لوجب بيان حالها. [المجموع (28/233، 234)].
لذلك فالمنهج السلفي واضح، وهو النصح وعدم السكوت، والتحذير وعدم الإعذار لمن خالف الكتاب والسنة كائنًا من كان، بذلك يُحفظ الدين وتستقيم الأمور، فكل بدعة ضلالة لا ينبغي السكوت عليها ويجب إنكارها وإلا عمّنا الله بعذاب من عنده.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم