نفحات الرحمة وبشريات الخير

محمد الغزالي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ ارتباط السلف بالقرآن 2/ تفاوت مواهب الناس 3/ بشريات ابن عباس وابن مسعود -رضي الله عنهما- 4/ طبيعة الطاعة وطبيعة المعصية

اقتباس

فقد كان سلفنا الأول مرتبطًا بالقرآن الكريم على نحو يجدي عليه في الدنيا والآخرة، كان إذا قرأه أو سمعه تدبره، فنزلت الآية على عقله هدى وضياءً، ونزلت على قلبه بردًا وسلامًا، ولا يزال...واحد شيوعي، أو واحد من المنتسبين إلى الحضارة المادية في الغرب يقول: لا إله، هل هذا مشرك؟! هذا ليس بمشرك، هذا معطل، هذا شرٌّ من المشرك، ومعصيته وإن كانت شركًا أو مساوية للشرك فلا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى: 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فقد كان سلفنا الأول مرتبطًا بالقرآن الكريم على نحو يجدي عليه في الدنيا والآخرة، كان إذا قرأه أو سمعه تدبره، فنزلت الآية على عقله هدى وضياءً، ونزلت على قلبه بردًا وسلامًا، ولا يزال من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين يقرؤون القرآن على هذا النحو.

إن الله فاوت بين الناس فيما منحهم من مواهبه، قد تكون هناك أصوات حسنة، وقد تكون هناك أصوات معتادة، الذي هُدي إلى ألفاظ الأذان من صحابة النبي -عليه الصلاة والسلام رجل- وضيء القلب، عظيم الإيمان، بلغ من صفائه أن نضح قلبه بإلهام من الوحي الأعلى، ومع ذلك فإن كلمات الأذان -كما عرضت على النبي عليه الصلاة والسلام- تخيّر لها -عليه الصلاة والسلام- من يؤديها بصوت رقيق، فاختار بلال بن رباح وقال: "فإنه أندى صوتًا".

والقرآن الكريم يقرؤه الكثيرون، ولعل البعض أن يكون أندى صوتًا من الآخر، هذه مواهب، ولعل البعض يكون بعمق إخلاصه، وصدق أدائه، وحلاوة ترتيله، أسبق إلى القلوب، فهو يملؤها خشوعًا لله، واستجابة لتوجيهاته، وكما قيل: الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا، والكتاب المطبوع طبعًا حسنًا يمكن أن يعرض فيه الحق عرضًا مغريًا بالقبول. هذا شيء نذكره بين يدي كلام عن أثر القرآن في نفوس المستمعين.

قرأت أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج يعس بالمدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائمًا يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ: (وَالطُّورِ) حتى بلغ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)، قال: "قَسَمٌ -ورب الكعبة- حق". فنزل عن حماره -هكذا يقول ابن إلى الدنيا- واستند إلى حائط، فمكث مليًّا ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه.

هذا رجل رقيق القلب، شديد الإحساس بخشية الله، شديد التكبير لما يقع منه من أخطاء، فهو يظن أن أخطاءه جبل، إذا انهد على رأسه أودى به، فهو لذلك هياب من الوعيد الإلهي.

هذا شيء ينبغي أن يذكره المسلمون عندما يستمعون إلى القرآن، وتمر بهم آيات كثيرة فيها الوعيد الشديد، ومع ذلك فكأن القلوب مغلفة بالرصاص أو بالحديد، لا يخشع أحد، ولا يكترث أحد، كأن القرآن يتلى بين من لا يعي.

ندع سيدنا عمر بن الحطاب -رضي الله عنه- وخشيته لله -عز وجل- التي جعلته يمرض عندما أحس كأن لفحًا من الوعيد الإلهي قد يصيبه مع أنه رجل من المبشرين بالجنة، ندع هذا لنرى كلامًا آخر فيه بشريات، فالناس تحب البشريات أكثر مما تحب عناصر الرهبة والتخويف.

يروي الحاكم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)، و(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)، و(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)، و(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، و(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)".

وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ثمان آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)، (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ)، (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ)، (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ)".

وعندما كنت أخطب في مسجد عمرو بن العاص كنت قد وصلت إلى هذه الآيات فيما أذكر، وأظنني شرحتها أو أحصيتها، فقلت: نعاود الحديث في نفحات الرحمة، وبشريات الخير، وآفاق الأمل التي نحتاج إليها، لعلها تدفعنا إلى أن نقبل على ربنا، وأن نطيع أوامره ونسير على صراطه المستقيم.

ونحن نشرح بإيجاز هذه الآيات دون ترتيب، وإنما نريد أن نتبع المعنى، ونريد أن نأخذ الثمرات ما اقترب منها لأيدينا.

آية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) تجعلنا نصحح خطأً شائعًا بين الناس؛ وهو أن كل معصية هي دون الشرك. وهذا كلام يحتاج إلى تصحيح وتنقيح، لماذا؟! لأن هناك معاصي قد تكون مساوية للشرك تمامًا، وقد تكون أشد منه.

أولاً: ما هو الشرك؟! أن يؤمن بعض الناس بالله، ويؤمنوا مع ذلك بآلهة أخرى يستشفع بها إليه، يزعمونها أولادًا، يزعمونها آباءً، يزعمونها ملائكة كجبريل ارتفعوا به -وهو روح القدس- إلى أن يكون إلهًا. هذا شرك، لكن ألا ترون أن هذه المعصية الكبيرة التي لا تغتفر هي دون الإلحاد في الألوهية؟!

واحد شيوعي، أو واحد من المنتسبين إلى الحضارة المادية في الغرب يقول: لا إله، هل هذا مشرك؟! هذا ليس بمشرك، هذا معطل، هذا شرٌّ من المشرك، ومعصيته وإن كانت شركًا أو مساوية للشرك فلا غفران لها بتاتًا.

هناك شيء آخر يساوى الشرك تمامًا، وهو رفض مبدأ السمع والطاعة، أو رفض مبدأ الخضوع لله، إبليس كان يعرف أن الله موجود، وكان يعرف أن الله واحد، ولكنه -مقبوحًا مطرودًا- قال لله: لا أطيعك، لا أسمع أمرك، لا أنفذ لك طلبًا، فهو يعرف الله، ويعرف أنه واحد، ويكلم الله، لكن أي كلام؟! كلام من رفض مبدأ السمع والطاعة.

ديننا يسمى الإسلام، ومعنى الإسلام: التسليم لله، الاستسلام لتوجيهات الله، ليس لي مقترحات أغير بها أمر الله أو نهيه، معنى الإسلام: الاستسلام والخضوع، فليست لي إرادة أمام إرادة الله، وفي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".

فمن رفض مبدأ السمع والطاعة فهو مساوٍ للمشركين تمامًا، ولذلك قال علماؤنا -وصدقوا فيما قالوا-: إن من رفض واجبًا، أو استباح محرمًا، فإنه خرج بهذا عن مبدأ السمع والطاعة، جحوده للواجبات، واستباحته للمحرمات، تجعله منسلخًا عن الإسلام.

فمن قال: إن عقوبة الزنا وحشية، أو إن عقوبة السرقة وحشية، فهذا القائل انسلخ عن مبدأ السمع والطاعة، وأصبح زميلاً لإبليس في رفضه لأوامر الله.

إذًا التدين الحق: إيمان بالله الواحد، وإقامة العلاقة به على مبدأ السمع والطاعة.

هنا شيء، قد تقوم العلاقة على مبدأ السمع والطاعة، ولكن ينهزم الإنسان أمام شهوة غالبة، أو أمام عقبة طارئة، أو تنزلق قدمه في طريق لم يحسن السير فيها، أو ما إلى ذلك من أنواع المخالفات. ما دام مبدأ السمع والطاعة مقررًا في نفس المسلم، فإن أخطاءه لا تخرجه عن دين الله، ولنضرب لذلك مثلاً.

روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان يُضحِك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأتى به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه؛ ما أكثر ما يُؤتى به!! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله".

أنا عندما قرأت الحديث ترددت فيه، وبدأت أغلغل البصر في معناه ولا أدري، أسأل نفسي: كيف يحب الله ورسوله ثم يشرب الخمر؟! وبدأت أدرس، وأتتبع التجارب، وأذكر أحوال الناس قديمًا وحديثًا، ثم انتهيت إلى ما أذكره لكم، وهو أن بعض الناس قد يتعطل من إرادته شيء خطير يسبب الإدمان، يقول الطبيب لمن يشرب الدخان: ضررك وموتك في هذا، ومع ذلك يشرب، وقد رأيت أحد الشيوخ الكبار -وهو من بلدنا- أصيب بشلل، فذهبت إليه، وسمعته يرجو الطبيب -وقد حرم عليه التدخين تحريمًا باتًا- أن يأذن له في سيجارة أو في سيجارتين، والدكتور يأبى، والشيخ يرجو ويتوسل ويلح!! فاستغربت ثم علمت أن الإدمان قد يعطل شيئًا أو يصيب جانبًا في المخ بالشلل، فما يحسن الإنسان التصرف.

وقلت يومًا لرجل يسكر: لم لا تدع السكر؟! فبكى وقال: ادع الله لي، فأدركت أن الرجل مؤمن وأن مشيئته معطلة، وتذكرت ما رُوي عن عيسى -عليه السلام-: "ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية".

وتذكرت أن رجلاً في جند سعد بن أبى وقاص -رضي الله عنه- أُخذ متهمًا بسكر -وله شِعْرٌ يدل على أنه يعشق الخمر- وحُبس في بيت سعد، فلما هاجت ريح الجهاد، ودارت رحى المعركة، كاد الرجل يجن في سجنه، وتوسل إلى امرأة سعد يقول لها: هل لك إلى خير؟! قالت: وما ذاك؟! قال: أن تخلي عنى وتعيريني البلقاء -وهي فرس سعد-، فلله عليّ إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قيدي، فأبت، فقال:

كفى حزنًا أن ترتدي الخيل بالقنا *** وأترك مشـدودًا عـليَّ وثاقيَ
إذا قـمت عنَّاني الحديد وأغلقت *** مصارع دوني قد تصم المناديَ

فرقت له امرأة سعد، وأطلقته، وأعطته البلقاء -فرس سعد-، فركبها وحمل على المشركين.

المهم في هذا أن الرجل قال كلامًا من أثر إدمانه للسكر، وهو قد تاب، وتاب الله عليه، والآية تقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ). لكن ما معنى كلمة (لِمَنْ يَشَاءُ)؟! هل هي محاباة؟!

أولاً: من حق رب العالمين أن يعطي دون أن يقف بشر ليقول له: لم؟! هو الملك، ما دخلك أنت؟!

لكن الحقيقة أن المقصود بكلمة (لِمَنْ يَشَاءُ) أنه عليم بالناس، بطوايا صدورهم، بحنايا قلوبهم، عليم بالشخص الذي صدرت عنه المعصية، هل كان مغلوبًا على أمره؟! هل كانت هناك ملابسات تخفف الحكم عليه؟!

الله هو العليم بالناس، وهو الذي يدري بدقة من هو أهل مغفرته، ومن هو أهل طرده من رحمته، وعلى هذا نفهم معنى الحديث القدسي: "يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة".

هذا الحديث محكوم بأن هذا عبد يدعو ويرجو ويؤمن ويعرف ربه معرفة حسنة، ولكن قد تقع منه أخطاء يسكب الدمع عليها، ويتألم لانزلاقه إليها، فهو مسلم، ولا شك في إسلامه.

إن الذي يجزم بطرده من رحمة الله هذا الذي يكفر بالله، وينكر وجوده، أو يشرك بالله، أو يجحد معلومًا من الدين بالضرورة، أو يستبيح محرمًا رفض الإسلام أن يقع الناس فيه، أو يسقط واجباتٍ أَمَرَ الله العباد أن يؤدوها، أو يرفض مبدأ السمع والطاعة.

هذا أساس للآيات الخمس التي ذكرها عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، ثم تجيء الآيات الأخرى بعد ذلك مكملة للمعنى الذي درنا حوله الآن.

الآية الأولى من الآيات الخمس: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

ما هي الكبيرة؟! الكبيرة ما ورد في الإسلام مقرونًا بلعن، أو مقرونًا بوعيد شديد، أو مقرونًا بعقاب فيه رهبة وفيه تخويف، هذه هي الكبيرة. والكبائر كثيرة، فإذا برئ الإنسان من هذه الكبائر وابتعد عنها، ثم وقعت منه صغائر -والصغائر كثيرة- فإن الله يغفر لعباده الصغائر فضلاً منه: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).
 

وهذا يجعل أدب الإسلام يسيطر علينا عندما نرى بعض المخطئين، فما يجوز أن نتهمهم بالفسوق والكفر لأنهم ارتكبوا أشياء هي صغائر، وهذه الصغائر مغتفرة يوم يجتنبون الكبائر.

والآية الأخرى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا).

ما أظن أحدًا يخاف من الله ظلمًا؛ فإن الله عدل، وإذا سألتني قلت: والله نحن نخاف من العدل؛ لأننا إذا عوملنا بالعدل ما ننجو من العقاب، ماذا لو قيل لك: أنت أطعت، وأنا أطعمت وسقيت وكسوت وآويت؟! فبقدر ما كسوتك وآويتك وأطعمتك وسقيتك تذهب العبادات التي عبدتني بها، وتبقى عريان بعد ذلك تحتاج إلى الفضل الإلهي!!

إننا لو عوملنا بالعدل هلكنا، لأننا في الحقيقة فقراء إلى فضل الله، وإلى عفو الله، وإلى رحمة الله، وإلى مغفرة الله، ممكن جدًّا أن نعامل بالعدل فتطيش كفتنا ويضيع عملنا، فنحن من ناحية العدل موقنون بأن الله عدل، ولكن الحاجة الملحة هي أن نكون أهلاً لفضل الله وعفوه ورحمته، وهذا العفو، وهذه الرحمة ما يلقاها متكبر.

وأنا أنبه المتدينين إلى أن يكونوا أصحاب قلوب رقيقة، خصوصًا مع من لا يزالون في الظلمات، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "حدّث أن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك".

هذا سببه أن بعض المتعبدين عنده قسوة غريبة، أو يظن أنه ببعض العبادات -التي قام بها هو- قد ملك على الله خزائن الرحمة وأبواب الجنة! وهذا خطأ فاحش، وإلى هذا يشير ابن عطاء الله السكندري في حكمته: "معصية أورثت ذلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًّا واستكبارًا".

الآية الأخرى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا).

ليس في الإسلام أكثر من أن الإنسان إذا اتسخ أن يغسل نفسه، وقلب الإنسان كبدنه، فكما أن البدن -على ظهر الأرض- يتعرض للغبار ولأتربة الجو، وكما أن هناك أجهزة للعرق وللفضلات تجعل هذا الجسم محتاجًا باستمرار إلى التطهير والتنقية، فكذلك القلب الإنساني يحتاج باستمرار إلى التطهير.

وعندما تخطئ لا تذهب إلى بشر لتقول له: أنا أخطأت فاغفر لي -كما يوجد في بعض الديانات-، لا، أنت أخطأت، أنت الذي ترجع إلى ربك وتصطلح على سيدك، وتستأنف حياة أنقى وأرقى.

الآية الخامسة: (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا).

هذه الآية كشفت عن مكانة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن استغفاره للمخطئين باب عظيم إلى التوبة عليهم ورضوان الله الذي ينتظر لهم، كان المنافقون -كما قال الله-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).

لكن المفروض أن المؤمن يجيء إلى الله وإلى الرسول -عليه الصلاة والسلام- وكان ذلك في حياته -صلى الله عليه وسلم- فيسأل ربه الرضا، ويطلب من نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يغفر الله له.

وقد كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يدعو لأهل الطاعات، فإذا جاءه رجل بزكاة دعا له تنفيذًا لأمر الله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

كلمة (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم، فعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه رجل بصدقة قال: "اللهم صلِّ على آل فلان"، فأتاه أبي فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، ومعنى الصلاة: المغفرة والبركة والثناء ورفعة الدرجة.

هذه هي الآيات الخمس التي اتفق ابن مسعود -رضي الله عنه- مع ابن عباس -رضي الله عنهما- على أنها من مفاتيح الرجاء ومن أبواب الرحمة، وزاد ابن عباس -رضي الله عنهما- ثلاث آيات متتابعات هي: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

القرآن الكريم نزل ليجعل الأمة الإسلامية امتدادًا للنبوات القديمة -لنوح وموسى وعيسى- في العقائد وأصول الإيمان ومكارم الأخلاق، أما الفروع الفقهية، والشرائع العملية فقد قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً).

قد تختلف الأديان من ناحية الفروع، أما الأركان من ناحية الأصول فهي متفقة، فأتباع موسى غير يهود العصر الحاضر، وأتباع عيسى غير نصارى العصر الحاضر، يهود ونصارى العصر الحاضر صلتهم بموسى وعيسى صفر، أما نحن فأتباع موسى وعيسى ومحمد -عليهم جميعًا الصلاة والسلام-.
 

والآية الثانية: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا). الله -جل جلاله- في دينه ومراده من خلقه وهديه وأمره ونهيه إنما يريد أن يرفع مستوانا، وأن يزكى سرائرنا، وأن يبيض صحائفنا، أما غيره فيريد أن يزيغ بنا، وأن نعوجّ عن الحق، وأن نلوث بالأقذاء بواطننا، وأن يبعدنا عن ربنا وولي نعمتنا.

الآية الثالثة: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا).

رعايةً للضعف البشري، رعاية لأننا خلقنا من طينة هذه الأرض، رعاية لما يغلب غرائزنا من نزوات السوء؛ رعايةً لذلك كله عاملنا رب العالمين بهذه السماحة، يضاعف الحسنات، ويغفر السيئات، ويغفر ما دون الشرك، ويفعل الكثير رحمة منه بعباده: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ).
 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله موفق العاملين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وأشهد أن محمدًا رسول الله سيد الأنبياء والمرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-.

أيها الإخوة: نريد -وقد تحدثنا عن الذنب ومغفرته، والعصيان والتوبة منه- نريد أن يعرف المسلمون شيئًا عن طبيعة الطاعة وطبيعة المعصية في ديننا كما فسر ذلك المشتغلون بالتربية.

لماذا أشرح هذا؟! لأن المخادعة بالدين أو بأداء الشعائر الشكلية أصبح شيئًا في أخلاق المسلمين الآن، لنضرب مثلاً:

الشح رذيلة، البخل معصية، وفي الحديث: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ لأن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".

وهل انتشرت الشيوعية وانتشر ضلال كثير في الأرض إلا لأن المبتلين بالفقر لم يجدوا عونًا مسعفًا من المبتلين بالغنى، لم يجدوا معاملة عادلة إن عملوا، ولا إعانة سخية إن تعطلوا.
 

البخل رذيلة، فكيف نتخلى عن هذه الرذيلة؟! بالكرم، لا توبة منها إلا بالكرم، كيف؟! بتدريب النفس على العطاء، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم".

تكلف العطاء تكن يومًا ما كريمًا، قاوم شح نفسك تكن يومًا ما كريمًا، فإذا حدث أن رجلاً قال: الشح رذيلة والبخل معصية، والعلاج أن أصوم غدًا وبعد غد وأصوم ثلاثة أيام من كل شهر. لا يصلح هذا، فإن هذا تغطية للمرض وليس إزالة للمرض، الكبر مرض والعناد مرض، كيف يزولان؟! أن تكون سمحًا، وأن ترفض العناد، وأن تزهد في الجدل، لكن إذا بقيت عنيدًا ومجادلاً فهل يغني عنك أنك تصلي كثيرًا أو تصوم كثيرًا؟! لا، المرض كما هو، كل ما حدث أن الوساخة النفسية غطيت ببعض الأوراق حتى لا تراها العين، ولكن الذي يعلم السر وأخفى يعرف نفسك.

من هنا يجب أن نتعلم كيف نربي أنفسنا، وكيف نبتعد عن كثير من الخطايا والهنات التي لا تليق بالمؤمنين، والتي لا يغطيها -عند الله- أن تكثر الصلاة أو تكثر الصيام، إنما تقبل الصلاة يوم تكون ممحاة، تمحو سوء القول وسوء العمل، وفحش القول وفحش العمل، ورديء الخلق ورديء السلوك، عندئذ تكون الصلاة تطهيرًا ومغفرة، أما انحناء الجسد وقيامه فإن هذا ما يصنع شيئًا لتطهير الإنسان.

نحن نريد أن نعرض الإسلام بأخلاقنا وأحوالنا عرضًا حسنًا، لأن التدين الشكلي أساء إلى ديننا وأساء إلى سمعتنا، إن أسلافنا أتقنوا لغة لم يعرفوا غيرها: الخُلُق، الخُلُق لغة عملية، أتقنوا هذه اللغة فانفتحت لهم البلاد ودان لهم الناس، صاحب الخُلُق يملك الكثير، لكن يوم يتحول الدين إلى شكليات فإن أصحابه لن ينالوا شيئًا به، ولن يكسبوا خيرًا من ورائه، ولن يسدوا إليه يدًا حسنة في شرح الصدور به ودك حصون الضلال باسمه.

نريد أن نعرف ديننا معرفة صالحة، وأن تكون أخلاقنا وأعمالنا شرحًا عمليًّا صالحًا لهذا الدين الذي شرَّفنا الله به.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

أقم الصلاة.
 

 

 

 

المرفقات

الرَّحمَةِ وبُشرَياتِ الخَير

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات