عناصر الخطبة
1/أهمية الأمن وفضله 2/مظاهر اهتمام الإسلام بالأمن وعنايته به 3/عوامل وشروط الحصول على الأمن 4/استفحال الخوف والفوضى في الدول الغربية المدنية المتقدمة وبعض الإحصائيات في ذلكاقتباس
من أعظم هذه النِّعم -بعد نعمة الإسلام والإيمان- نعمةُ الأمن، الذي هو هِبَةٌ مِن الله يغْبط عليها، ومنَّةٌ منْه تستوجب الشُّكر والحمد؛ لأنَّها إذا اختلَّت، فسدت الحياة، وحلَّ الشَّقاء مكانَ السَّعادة، والفوضى مكان النِّظام، والخوف مكان الاطمئنان، والجوع مكان الرَّغَد، والظُّلم والعدوان مكان العدل والرَّحْمة، وتعطيل الْمَصالِح مكان إقامتها، والتَّفْرِقة والتمزُّق مكان الوحدة والاستقرار، و...
الخطبة الأولى:
لا شك أن نعم الله -تعالى- على الناس عظيمة، وأفضاله عليهم جسيمة، لا يحدها عد، ولا يحيط بها حصر؛ قال تعالى:(وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إبراهيم: 34].
ومن أعظم هذه النِّعم -بعد نعمة الإسلام والإيمان- نعمةُ الأمن، الذي هو هِبَةٌ مِن الله يغْبط عليها، ومنَّةٌ منْه تستوجب الشُّكر والحمد؛ لأنَّها إذا اختلَّت، فسدت الحياة، وحلَّ الشَّقاء مكانَ السَّعادة، والفوضى مكان النِّظام، والخوف مكان الاطمئنان، والجوع مكان الرَّغَد، والظُّلم والعدوان مكان العدل والرَّحْمة، وتعطيل الْمَصالِح مكان إقامتها، والتَّفْرِقة والتمزُّق مكان الوحدة والاستقرار، والهرج والمرج مكان السَّلامة والطُّمأنينة.
وفي رحاب الأمن يحفظ الدِّين، والأنْفُس، والأعراض، والأموال، والعقول، وهي الضَّروريات الْخَمس الَّتي جاء شرْعُنا لِحِفظها، وإرساء ما يَكْفل سلامتها.
إنَّ تضرُّعات الخليل إبراهيم -عليه السلام- لربِّه -عز وجل- تبدأ بقوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)[البقرة: 126].
فاستجاب الله له؛ فقال سبحانه: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا)[آل عمران: 97].
ومِن ثَمَّ فضَّلَ الله البلد الحرام لتميُّزِه عمَّا بِجانبه بِهذا الأمن، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67].
كما خُصَّت المدينة النبويَّة بِهذه الفضيلة العظيمة، فضيلة الأمن والسَّكينة، وبِخاصَّة عند الفزَعِ من الْمَسيح الدجَّال، قال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَدخل المدينةَ رُعبُ المسيح الدجَّال، لَها يومئذٍ سبعةُ أبواب، على كل بابٍ ملَكان"[البخاري].
هذا عند قيام الساعة، أمَّا في سائر الأيام، فإن النبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حذَّر أن يظلم أهلها، أو يعتدى عليهم بالإرعاب والإرهاب؛ فقال صلى الله عليه وسلم من حديثٍ عن عُبَادة بن الصامت -رضي الله عنه-: "اللَّهم مَن ظلم أهْلَ المدينة وأخافَهم فأخِفْه، وعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجْمعين، ولا يُقبل منه صرْفٌ ولا عَدْل"[الطَّبَراني في "الأوسط"، وهو في "صحيح الترغيب"].
كما جعل الله -تعالى- الأمْنَ مِن أخصِّ صفات الجنة؛ قال تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ)[الحجر: 46].
وقال تعالى: (وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ)[سبأ: 37].
ولذلك أمَر شرْعُنا بالعمل على تحقيق أمْن النَّاس، والسَّهَر على سلامتهم، وعدم فِتْنتهم أو ترويعهم، ولو على سبيل الْمزاح واللَّعِب؛ فقد قال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأخذُنَّ أحدُكم متاعَ صاحبه لاعِبًا، ولا جادًّا، وإن أخذ عصا صاحبه فلْيَردَّها عليه"[رواه أحمد، وهو في "صحيح الجامع"].
ونَهى المسلم أن يُمازح صاحبه بالسِّلاح؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُشِرْ أحدكمْ إلى أخيه بالسِّلاح؛ فإنَّه لا يدْري أحدُكمْ، لعلَّ الشيْطان ينْزع في يده، فيقع في حفْرةٍ من النَّار"[متفق عليه].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن أشار إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ الملائكة تَلْعنه، حتَّى وإن كان أخاه لأبيه وأمِّه"[مسلم].
قال النوويُّ -رحمه الله-: "هذا مبالغةٌ في إيضاح عُموم النهي في كلِّ أحدٍ، سواء مَن يُتَّهم فيه ومن لا يتَّهم، وسواء كان هذا هزْلاً ولعبًا أمْ لا؛ لأنَّ ترويعَ المسلم حرامٌ بكلِّ حال".
كما أمر النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بإعطاء السَّيف في غمده، حتَّى لا يُصاب أحد؛ فعَن جابر -رضي الله عنه- أن النبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "نَهى أن يُتعاطَى السيفُ مَسلولاً"[صحيح سنن أبي داود].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مَرَّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل، فلْيُمسك على نصالِها"، أو قال: "فلْيَقبض بكفِّه؛ أن يُصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء"[متفق عليه].
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى -رضي الله عنه- أنَّهم كانوا يسيرون مع النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فنام رجلٌ مِنهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَحِلُّ لمسلم أن يروِّع مسلمًا"["صحيح سنن أبي داود"].
وما سُمِّي المؤمن الحقيقيُّ مؤمِنًا إلاَّ لأنه مأمونُ الجانب، لا يعرف غدرًا، ولا خيانة، ولا تخريبًا، ولا عنفًا، ليس إمَّعةً يَتَّبِع كلَّ ناعق، وليس غوغائيًّا تَحكمه الحماسات والعواطف؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتَّى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتَّى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة حتى يأمنَ جارُه بوائقَه"[رواه أحمد وهو في "صحيح الترغيب"].
وعن فَضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "ألا أُخْبِركم بالمؤمن؟ من أمِنَه الناس على أموالِهم، وأنفسهم، والمسلم من سَلِم الناس من لسانه ويده، والمُجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذُّنوب"[رواه ابن حبان في "صحيحه"، وهو في "الصحيحة"].
غيْر أنَّ تثبيت الأمن والأمان مرتبطٌ بشروط، لا بُدَّ من الاعتناء بِها:
أولا: طاعة الله، والعمل بِمُقتضى شرعه، وعبادته حقَّ العبادة؛ إذْ هو الكفيل بتحقيق الأمن وسعادة الإنسان، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)[النور: 55].
وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 124 - 126].
فالبُعد عن الله سبيلٌ إلى الفوضى، وطريقٌ إلى الاعتداءات، ومسهِّل للخصومات.
إِذَا الإِيمَانُ ضَاعَ فَلاَ أَمَانٌ *** وَلاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا
وَمَنْ رَضِيَ الْحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ *** فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِينَا
ثانيا: شُكر الْمُنعم، وهو الله -تعالى- على نِعَمه، باستعمالِها فيما يُرْضيه، وعدم توظيفها في مُحادَّته، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7].
وفي نزْع النِّعمة عند كُفْرانِها يقول تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
ثالثا: ترْك المعاصي؛ لأنَّها مُمحقة للأمن، مُمكِّنة للغمِّ، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30].
وقال النبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يصيب عبدًا نكبةٌ فما فوقَها أو دونَها إلاَّ بِذَنب، وما يعفو الله عنه أكثر"[صحيح الجامع].
وقال محمَّدُ بن سيرين -وقد رَكِبَه الدَّيْن، واغتمَّ لذلك غمًّا شديدًا-: "إنِّي لأعرف هذا الغمَّ، بذنبٍ أصبْتُه منذ أربعين سنة".
الخطبة الثانية:
رابعا: الاعتناء بالعلم الشرعي وبالعُلماء، مصابيح الدُّجى، ومنارات الأوطان؛ قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "وإذا ظهَر العِلمُ في بلدٍ أو محِلَّة، قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك، ظهَر الشرُّ والفساد"، وعلى الشباب ألا يتسرَّعوا في الأحكام حتَّى يستشيروا العلماء، وإلاَّ كان الْخَلل بِها بادِيًا.
إِنَّ الأُمُورَ إِذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا *** دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
ومِن كمال التَّمكين للعلم النَّافعِ ضرورةُ احترام كلِّ التوجُّهات والفئات -ومعها جرائدها، ومجلاَّتُها، وقنواتُها، ومواقعها الإلكترونيَّة- لثوابت الأُمَّة، ومقدَّساتِها، وثقافتها، التي هي رمْزُ وَحْدتِها وعِزتِها؛ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "وإنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله -تعالى-، ما يظنُّ أنْ تَبْلغ ما بلَغتْ، فيكتب الله عليه بِها سخطه إلى يوم القيامة"[رواه مالك، وهو في صحيح سنن ابن ماجة].
خامسا: الحفاظ على بيضة البلاد، بالتزام النِّظام، والحرص على الانضباط، والتمسُّك بالجماعة؛ لأنَّ مُخالفة ذلك يؤدِّي إلى انفراط عِقْد الأمن، ويدعو إلى التَّشغيب واضطراب الأوضاع؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن خرج مِن الطَّاعة، وفارق الجماعة، ثُمَّ مات، مات ميتةً جاهليَّة، ومن قُتل تحت راية عمية، يغضب للعَصَبَة، ويقاتل للعَصَبَة، فليس من أُمَّتِي، ومن خرج من أمَّتي على أمتي، يضرب بَرَّها وفاجِرَها، لا يتَحاشَ مِن مؤمنها، ولا يَفِي بذي عهْدِها، فليس منِّي"[مسلم].
ولْنَعلم أنَّ الأمن لا يتحقَّق بِمُجرَّد امتلاك ناصية العلوم والتقنيات ووسائل التحضُّر والتقدُّم، وليس الأمن كثرة المال والْجاه، حتَّى يصحب كلَّ ذلك تقوى الله تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
وها هي دولة غربيَّة تُوصَف بالعظيمة، ظاهِرُها المدنية المتقدِّمة، وباطنها الْخَوف والفوضى؛ حيث تقول وثائقها الرَّسمية إنَّ:
• نسبة الْجَرائم العنيفة فيها تزيد عن 500 لكلِّ مائة ألف شخص، ونسبة جرائم الْمُمتلكات تقارب 4000 لكلِّ مائة ألف.
• 10. 5 مليون أُسْرة تَعُولُها الأمُّ فقط، ولا وجود للأب.
• ويُقتَل بالإجهاض أكثر من مليون طفل سنويًّا.
• يتمُّ اغتصاب قرابة 700 ألف امرأة سنويًّا؛ أيْ: بِمُعدَّل 78 امرأة في الساعة.
• 22 % من نساء هذا المجتمع تعرَّضْن لاعتداء جسَديٍّ من زوجٍ أو صديق.
• أكثر من 65 مليون شخص مُصابون بأمراض جنسيَّة لا يُمْكِن شفاؤها.
فاللهم ادفع عنا الغلاء والرِّبا والزِّنا، والفواحش والفِتَن، ما ظهر منها وما بطن.
اللَّهم لا تُؤاخِذْنا بالتقصير، واعْفُ عنا الكثير، وتقبَّل منا اليسير، إنَّك -يا مولانا- نِعْم الْمَولى ونعم النصير.
اللهم اجعلنا مِمَّن إذا أنعمت عليه شكر، وإذا ابتليتَه صبَر، وإذا أذنب استغفر.
اللَّهم احفظ بلادنا من الشُّرور والآفات، وسائر بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين.
اللهم أحسن عاقبتَنا في الأمور كلِّها، وأجِرْنا من خزي الدُّنيا وعذاب الآخرة.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدَّين عن المدينين، واشْفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم