اقتباس
يرتبط حد الردة بشكل وثيق بالإيمان والتوحيد؛ فبما أن جوهر النبوات وأساس دعوتها هو التوحيد وإقامته بين أفراد المجتمع، كان الاعتداء عليه والتشويش عليه وزرع بذور التشكيك حوله، جريمة شنعاء توجب...
كيف يمكننا فهم حد الردة في إطار تقرير الإسلام كرامة الإنسان وحريته؟
الجواب:
أولا: حد الردة والحدود الشرعية عموماً مما يكثر الخوض فيه في عصرنا الحاضر. وأكثر من يخوض فيها هم عُباد الصليب، والملاحدة، والعلمانيون. ولا نحتاج كثير ذكاء لنفهم أن غرضهم هو إنشاء حالة تشوش وتشكك وحيرة في عقول ونفوس المراهقين والشباب المسلم؛ خصوصا أن هؤلاء المفسدين في الأرض يعلمون جيدا أن جمهور الشباب المسلم (أمي معرفيا)؛ حتى و إن كان يحمل شهادة جامعية.
ثانيا: حد الردة حكم شرعي، والأحكام الشرعية في النظام الإسلامي لا تنفصل عن عقيدته وطبيعتها وأبعادها. فلا يمكن إسلاميا أن ترفض حكما شرعيا أو تشكك فيه أو تعتقد أن فيه ظلما أو أن تحاربه، ومع ذلك تكون من الناحية العقدية سليماً؛ ذلك لأن مقتضى الإيمان بالعقيدة الإسلامية يعني الأخذ بأحكامها وضوابطها بالتسليم والخضوع؛ سواء فهمت معاني هذه الأحكام وفقهت دلالات هذه الضوابط أم لا. وهذا المبدأ (ارتباط الشريعة بالعقيدة) ليس خاصا بالإسلام، بل حتى الأديان والأيديولوجيات الكبرى لا يمكن التفريق بين (النظرية والتطبيق) أو قل بين (الأسس والبناء)؛ ففي العلمانية مثلا لا يمكنك أن تتبنى الرؤية العلمانية على المستوى النظري، ثم ترفض الحريات العامة من فسق ومجون وخمور وتبرج.
ثالثا: والواقع أن هذا التلازم بين العقيدة والشريعة قد قرّره القرآن الكريم؛ فقال: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65]؛ فهذا النفي للإيمان عمن رفض تحكيم الشريعة أو وجد في نفسه حرجاً منها، قسمان (نفي كمال الإيمان)؛ أي يقر الرافض بالشريعة ويعترف باقترافه الإثم لعدم الالتزام بها، لكن يبرر ذلك بالضغوط الدولية وأننا في حالة الاستضعاف وما شابه هذه التبريرات الناتجة عن ضبابية العقيدة كما عن الهزيمة النفسية. و (نفي أصل الإيمان)؛ أي تكفير الرافض لتحكيم الشريعة لأنها عنده لا تصلح لعصرنا وأحكامها عنيفة والالتزام بها يخالف القوانين الدولية.
رابعا: الأحكام الشرعية في الإسلام لا يمكن التعاطي معها بنظرة جزئية أو أحادية الاتجاه، بل يجب التعاطي معها بنظرة شمولية ومتعددة الاتجاهات؛ لأن الشريعة الإسلامية في بنائها لمنظومتها التشريعية فإنها تعتبر في كل حكم جزئي شبكة ارتباطات متعددة وكلية، تشمل الفرد و المجتمع، كما أنها تشمل الدنيا والآخرة، وهذه ميزة متفرّدة في التشريع الإسلامي؛ وبالتالي، يجب قراءة حد الردة في إطار العقيدة كما في إطار مقاصد التشريع المختلفة، التي يمكن تلخيصها في ثلاث شعب (التوحيد والإيمان)، و(القيم والأخلاق)، و(العبادة والسلوك)؛ سواء من جهة التعزيز والإنماء أو من جهة الحماية والحراسة من الإفساد.
فالمنظومة الإسلامية في العقيدة و الشريعة و بجزئياتها و كلياتها أشبه بفسيفساء متشابكة.
خامسا: يرتبط حد الردة بشكل وثيق بالإيمان والتوحيد؛ فبما أن جوهر النبوات وأساس دعوتها هو التوحيد وإقامته بين أفراد المجتمع، كان الاعتداء عليه والتشويش عليه وزرع بذور التشكيك حوله، جريمة شنعاء توجب في ميزان الله –سبحانه- عقوبة الإفناء، ومناسبتها هي أن الأصل في الفطرة هو التوحيد، فهو حياتها وبه قوامها، وعدمه يعني موتها المعنوي. فلما كانت الردة سعي في زعزعة التوحيد في نفوس أفراد المجتمع، وذلك يوجب اضطرابهم المعنوي، كان في الحكمة أن يعاقب فاعل ذلك بالموت المادي كما سعى في الموت المعنوي لأفراد المجتمع.
سادسا: التوحيد والإيمان في النظام الإسلامي ركيزة جوهرية وركن ركين، وليس شيئا عاديا يمكن الالتزام به من عدمه، كما يعتقد أتباع الديانة العلمانية؛ ذلك لأن الرؤية الإسلامية تقرر أن الله –سبحانه- ما خلق الإنسان إلا لإقامة التوحيد، والالتزام بمقتضياتها في نشاطات الحياة، وعليه سيكون حسابه يوم القيامة، ولأجل التوحيد والإيمان خلق الجنة والنار، وخلق الأبدية السرمدية؛ فحين يأتي مجرم يمارس التشكيك في هذه القيمة الوجودية العظمى عبر الردة فإنه بذلك يكون قد اقترف جريمة أبدية؛ إذ كما قلنا تضعضع التوحيد والإيمان في الإنسان يعني موته المعنوي، وهذا يوجب له العذاب والشقاء الأبدي؛ فلا عجب أن يكون سبب ذلك وفاعله (المرتد) يستحق القتل في الدنيا والعذاب الأبدي في الآخرة.
سابعا: حرية الاعتقاد بند بارز في النظام الإسلامي؛ لكن هذه الحرية مكفولة فقط لمن ليس مسلما ابتداءً؛ أي أن يكون المرء نصرانيا أو يهوديا أو..، ففي هذه الحالة فإن حريته العقدية مكفولة له، لا يفرض عليه الإسلام الخروج من عقيدته والانتماء إلى العقيدة الإسلامية، أما مَن يعلن بإرادته الحرة الانضمام إلى العقيدة الإسلامية ثم يرجع عنها، فهذا مهدور الحرية العقدية.
والواقع أن هذا المبدأ الإسلامي يتضمن تكريما للإنسان واعترافا بقدرته العقلية على معرفة الحق من الباطل، فكأن يقول له فكر جيدا وابحث جيدا قبل أن تقرر الانضمام إلي عقيدتي وشريعتي.
ولا شك أن من يعرف هذا لن يجرأ على الإسلام إلا باقتناع تام، أما مَن وُلد مسلما ثم قرر الخروج عنه، فهذا لا اعتبار بإرادته لأنه وُلد في دار الإسلام والإنسان معتبر بوالديه وببلده، ومن شاء الرد فليخرج من بلاد الإسلام بهدوء وصمت؛ فالإسلام لا يفتش قلوب الناس وخفاياهم الباطنة، أما أن يعيش المرء في دار الإسلام وهو مرتد عنه ويحاربه ولو في محيط أسرته، فهذا لا قيمة له ولا كرامة، بل هو فيروس يجب استئصاله قبل استفحال شره وضرره على المجتمع؛ فالمرتد حرٌّ في اعتقاد ما شاء، لكنه ليس حرّاً في زعزعة الأمن الاجتماعي، وقاعدة الشرع والعقل: "التضحية بالخاص لأجل العام"؛ فليس يصح في أي منطق أن نحترم حريّة فرد واحد في الردة وإعلانها ونشرها، ونرفض احترام دين وعقل وقيم وروابط مئات الآلاف والملايين في المجتمع! ويكفي أن المرتد يرى نفسه الذكي والعاقل أما جمهور المجتمع فهم أغبياء يعيشون في أكوام الحرافة لانتمائهم إلى الإسلام؛ فهذه النظرة الاحتقارية التي يتضمنها فعل الردة، تكفي واحدة للعقوبة فكيف وقد حط صاحبها من شأن الألوهية والزراية على مقام الربوبية؟
ثامنا: وحدة المجتمع و تماسك أفراده مقصد عظيم من مقاصد الشريعة، ولهذا فكل ما يسهم في زعزعة هذه الوحدة والتماسك، يجب محاربته ومدافعته، وإلا ستعم الفوضى والاضطرابات ويتزلزل كيان الأمة المادي والمعنوي، ولا توجد دولة إلا وهي تفرض على مواطنيها احترام مجموعة تقاليد وعقائد وأعياد تعكس هويتها، وإلا تعرّض للنبذ أو السجن! فاليوم في الدول العلمانية والإلحادي الصريحة هناك مقدسات يُحظر على أفراد الشعب كيفما كانوا الاقتراب منها والتشكيك فيها والحط منها.
كلنا يعرف ماذا يحدث مثلا لمن يشكك في الهولوكست في أوروبا و أمريكا، حتى مع أعظم الأكاديميين فضلا عن غيرهم. وكلنا يعلم كيف تحارب هذه الدول المدعية للحرية المحجبة إذا اقتربت من الشواطئ (في جزيرة كروسيكا الفرنسية، جلست محجبة _ حجاب موضة طبعا _ في بعض الشواطئ المليئة بأشباه العراة، فجاءت الشرطة وأرغمتها على الانصراف لأنها تضع قطعة قماش لا تكشف شعرها وبشرة جسدها للجميع) وكلنا يعرف ماذا يجري لمن يقول بالخلق بدل التطور في جامعات أمريكا مثلا.
والمقصود أن كل أمة لها مقدسات تعتبرها سياج أمنها الروحي والفكري والاقتراب منه يوجب العقاب والمتابعة.
تاسعا: المرتد لا يُقتل بمجرد إعلانه الردة، بل يُستتاب ويناقش ويحاور لفترة زمنية معيّنة، إذ قد يكون التبس عليه الأمر وعرضت له شبهات، فإن أصر وعاند بعد البيان وإقامة الحجة عليه، فليتحمل مسؤوليّته. ولهذا لا نحكم بالردة على شخص إلا بدليل شرعي، كما أنّه لا يقيم حد الردة سوى الحاكم وليس أفراد الناس. وهي لا تكون إلا بإعلان الشخص عنها بين أفراد المجتمع؛ فالمستخفي بها بالضرورة لا نعلم عنه شيئاً، وبالتالي لا يقام عليه الحد؛ لأنّه أساساً لن يعرفه أحد.
أما المعلن لردته فهو بالضرورة يقصد قصدا مباشرا زعزعة التوحيد والإيمان في عقول الناس.
هذه العقوبة ناتجة عن حقيقة أنّ الإسلام يدرك أنه لا يمكن أن يكون كل أفراد المجتمع خبراء في العقيدة والشريعة لكي يعرفوا فنون الحجاج والمناظرة والاستدلال على صحة العقائد الاسلاميّة، ولهذا فمنطقي إذن أن يحرص الإسلام على حماية وحراسة هؤلاء الأفراد ليعيشوا بسلام وتماسك؛ فالإسلام منهج واقعي، لأنه يعلم أنّه يتعامل مع بشر وليس مع ملائكة.
المصدر/ المحجة
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم