نظرات في سورة النجم

محمد الغزالي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/ الإسلام دين يحترم العقول 2/ الأمم تسيرها الظنون أكثر ما تسيرها الحقائق 3/ الإنسان في الدنيا يعيش وفق الإطار الذي حدده له ربه 4/ الحق أحق أن يتبع 5/ الإيمان الصحيح وليد المعرفة التي لا ظن فيها 6/ محمد -عليه السلام- هو الرجل الأول في التاريخ 7/ لابد للإنسان أن يخطئ والتوبة لابد منها 8/ توبيخ من يسير بعيدًا عن هدايات السماء 9/ فضل العشر الأوائل من ذي الحجة 10/ صور العمل الصالح

اقتباس

وقد رأينا -مع دراسة التاريخ الإنساني ومع ملاحظة التجمعات البشرية في القارات الخمس- أن الأمم والجماهير تسيرها... إن الكواكب في السماء قد تهوي، ونرى نيازك تحترق -كما يقال- في اشتباكها مع الطبقة الهوائية، ونرى كواكب تنحط عن مداراتها وتعود فترتفع مرة أخرى، لكن الكوكب الذي لا يخبو له سنا ولا ينكسف له شعاع ولا تنحط له منزلة ولا يهوي أبدًا من عليائه هو...

 

 

 

 

الخطبة الأولى: 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدًا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

ففي هذه الجمعة نلقي نظرة عامة على سورة النجم، لعلنا -بفضل الله تعالى- نعود من ذلك بعبر نافعة ونصائح غالية.

ولعلكم تذكرون أننا في الجمعة الماضية أوضحنا أن الإسلام دين يقوم على العقل، وأنه يحتفي بأولي الألباب ويعتبرهم حملة فكرته ومبلغي رسالته، والواقع أن الإسلام إذ يحترم العقل ويعينه على دقة الفقه وحسن الحكم على الأمور، يريد من ذلك شيئًا مهمًّا هو أن نصل في معرفتنا إلى اليقين، أي أن تكون معارفنا صحيحة لا جهل فيها ولا زيغ.

وقد رأينا -مع دراسة التاريخ الإنساني ومع ملاحظة التجمعات البشرية في القارات الخمس- أن الأمم والجماهير تسيرها الأوهام والظنون والشائعات والتخامين أكثر مما تسيرها الحقائق التي لا ريب فيها والعقائد التي لا شك في معناها. الأمم كثيرًا ما تغلبها جهالات قد تكون مضحكة، ومع ذلك فهي تقدسها وتنتشي بها، وتندفع بوحيها شرقًا أو غربًا دون وعي وعلى غير هدى.

في سياحاتي الأخيرة رأيت تمثالاً لبوذا في آسيا، وسألني شاب مسلم: ما بوذا؟! قلت له: هذا شاب اشتغل بدراسة الفلسفات المادية والنظم الاجتماعية على عهده، وكان فكره ترابيًّا، ما نظر إلى السماء يومًا ولا اعترف بأن للكون ربًّا، عاش في قوقعته المادية ينكر الألوهية، فلما مات اعتبره أتباعه إلهًا وعبدوه، ثم وجدنا هذه الأصنام فوقها أبنية فوقها قباب ذاهبة في الفضاء وحولها قوافل تعد بمئات الملايين.

هذا المعنى هو الذي تناوله القرآن الكريم من أساسه العقلي عندما قال: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).

ما يقال في عبدة الأصنام يقال في نفر من أهل الكتاب انتشرت بينهم شائعة أن هناك إلهًا ثانيًا وثالثًا، وأن الإله الثاني قتل افتداءً لخطايا الخلق، انطلقت الإشاعة، واحتفت بها جماهير من الخلق، وفي التعليق عليها يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا).

إذًا اتباع الظن مشكلة سيطرت على البشرية، وعلاج هذه المشكلة أن نبحث عن اليقين، ولذلك كانت الآية الثانية في سورة البقرة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ).

إن الإسلام يرفض الظنون وينكرها، ويعيب على أتباعها أن يتشبثوا بها.

هذه مقدمة بين يدي نظرتنا العامة في سورة النجم.

سورة النجم فيها حديث عن الأصنام التي يعبدها العرب: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).

شهوات أو أهواء أو ظنون تجمَّع حولها أولئك الجاهليون وعاشوا بها: (وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)، ثم يجيء هذا السؤال: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى).

إن الإنسان يتصور أنه يعيش وفق أحلامه وآماله، ويظن أنه يفرض أمانيه على الحياة، إنه بهذا مخدوع، فإن الإنسان في هذه الحياة يحيا داخل إطار صنعه الغالب على أمره القاهر فوق عباده، ومهما كان الإنسان حرًّا في قدرته وإرادته فهو محكوم في إطار القدرة العليا والإرادة العليا: (فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى).

وقد وضح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى في هذا الحديث الذي رواه البخاري: عن عبد الله -رضي الله عنه- قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطًّا مربعًا وخط خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا".

بتعبير علماء الهندسة الآن رسم مربعًا أو رسم شكلاً رباعيًّا، ثم وضع نقطة داخل الشكل الرباعي، وأخرج منها خطًّا، امتد هذا الخط حتى قطع المحيط المربع وتجاوزه وخرج بعيدًا، ثم فسَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- ما فعل، هذا الشكل المربع هو أجل الإنسان يحيط به، هذه النقطة داخل الشكل المربع هي بدء حياته، هذا الخط هو عمره، امتداد الخط هو أمله، ويمتد الخط حتى يتجاوز المحيط.

وما أكثر ما يؤمل الإنسان وأجله قادم يقطع الأمل وينهي الحياة فتكون آماله متاع الغرور أو تكون آماله شيئًا وهميًّا؛ لأن الأجل اخترم حياته وهو ماضٍ في آماله وأمانيه ما يفكر إلا فيها.
 

قال تعالى: (أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى). كم من عظيم في الأرض وكم من عظيم في السماء ما تغني عنهم عظمتهم شيئًا، وما ينفعون غيرهم بشيء إذ ما ينفعون أنفسهم.

في وسط السورة بيَّن الله أن الظنون لا قيمة لها، وأن الحق هو الذي يجب أن يتبع وأن نرنو إليه بأبصارنا وأن نتعشقه بأفئدتنا، ومن هنا كانت الدعوة اللطيفة: "اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه"، فكم من غافل رأى الحق باطلاً أو رأى الباطل حقًّا ثم انطلق في دنياه لا يلوي على شيء، فإذا هو ينطلق وراء وهمه، كما تقول لإنسان: الإسكندرية في جنوب القاهرة، فهو يجري حتى يصل إلى أسوان، ولن يصل إلى الإسكندرية أبدًا لأن الوجهة من البداية غلط، ولذلك كانت الظنون والأوهام شيئًا يكرهه الإسلام؛ لأن الإسلام -كما قلنا- نوَّه بأولي الألباب في ست عشرة آية؛ لأنهم حملة فكرته، ومبلغو رسالته، وأصحاب القدرة على إدراك قضاياه وفهم أهدافه.

الإيمان الصحيح وليد المعرفة التي لا ظن فيها، وتوحيد الله أول هذه الحقائق، لذلك داس على عبادة الأصنام: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى).

إن توحيد الله هو اليقين القاطع، لكن مع توحيد الله إشارة أخرى أشارت إليها أوائل السورة وهي الإيمان بأن محمدًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو الذي عرَّفنا بالله الواحد، وهو الذي نفي الأوهام والشائعات عن ذاته، وهو الذي نزَّهه وبين ما ينبغي له من كمال وجمال.

أحببت أن أبيِّن أن محمدًا هو الرجل الأول في التاريخ كله فقلت: إذا لم يكن محمد نبيًّا فمن يكون نبيًّا.

بحثت في التراث الإنساني كله فلم أجد أحدًا ذكر ربه بعبارات أحرّ ولا أرقّ من العبارات التي ذكره بها محمد -عليه الصلاة والسلام-، لم أجد أحدًا أفنى ذاته في مرضاة ربه وجعل حياته وموته وليله ونهاره وراحته وجهاده لله مثل محمد -صلى الله عليه وسلم-.

استعرضت التاريخ البشري من أوله إلى آخره فلم أجد إنسانًا وقف في ساحة العبودية يسبح ويحمد ويكبر، يخوَّف في الله فلا يخاف، ويشعر بالألم والعنت فلا ينكص ولا يتأخر مثل محمد -صلى الله عليه وسلم-.

لم أجد أحدًا غيَّر المجتمعات بعد أن كانت ضالَّة حائرة فجعلها مهدية راشدة مثل محمد -عليه الصلاة والسلام-.

ولذلك فإن المؤلف الأمريكي الذي ذكر مائة من قمم التاريخ وجعل محمدًا القمة الأولى؛ كان في الحقيقة يذكر ما يشير إليه العلم الصحيح واليقين الحق.
 

إن الكواكب في السماء قد تهوي، ونرى نيازك تحترق -كما يقال- في اشتباكها مع الطبقة الهوائية، ونرى كواكب تنحط عن مداراتها وتعود فترتفع مرة أخرى، لكن الكوكب الذي لا يخبو له سنا ولا ينكسف له شعاع ولا تنحط له منزلة ولا يهوي أبدًا من عليائه هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهو ما أقسمت عليه السورة في السطر الأول منها: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى).

إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هو النبي الخاتم والرسول الحق، وما نزل عليه من قرآن: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)، وسيرته وسنته نماذج لإنسانية هي أزكى وأرقى وأنقى ما عرفت الإنسانية في معادن الرجال من نقاوة وصلابة ورفعة.

إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نجم لم يهوِ له جرم، ولم ينقطع له سنا، ولم يطرأ على دارته انحطاط، بل ظل معصومًا منذ بُعث إلى أن ذهب إلى الرفيق الأعلى.

إن هذا الإيمان بأن الله واحد وبأن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- حق يهدي إلى الإحسان، أي أن المؤمن يعصمه إيمانه من الزلل ويقيه السيئات ويجعله إنسانًا صاحب منهاج فاضل، وهل خلق الله الحياة إلا ليتميز فيها المحسن من المسيء والمصيب من المخطئ والناجح من الراسب في ميدان الفضيلة والخير؟!

هكذا خلق الله الحياة: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

هل معنى ذلك أن المؤمن لا يخطئ؟! لا، هذا غير ممكن، لابد أن يخطئ الإنسان وأن تكون له هفوات أو أن تكون له كبوات، ولذلك قال الله في وصف هؤلاء المحسنين: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).

وهنا نقف لنتأمل كلمة (إِلاَّ اللَّمَمَ)، كلمة (إِلاَّ) قد تكون بمعنى "لكن"، وهذا ما يسميه علماء اللغة استثناءً منقطعًا، أي ما بعد "إلا" مخالف لما قبلها، وذلك كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ). قال العلماء: الاستثناء هنا منقطع، أي لكن إذا كانت تجارة عن تراضٍ فكلوها.

فمعنى أن الاستثناء منقطع في قوله تعالى: (إِلاَّ اللَّمَمَ) أن المؤمن لا يقارف فاحشة من الفواحش، ولكن قد يلم بصغائر الذنوب.

لكن بعض العلماء يقولون: الاستثناء في قوله تعالى: (إِلاَّ اللَّمَمَ) متصل، ومعنى أنه متصل أن كلمة (اللَّمَمَ) تعني أنه قد يرتكب الفاحشة لمامًا، يعني على ندرة من باب: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ويستشهد هؤلاء على أن المؤمن قد يقع منه ما هو فاحشة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

على كل حال الكل متفق على أن التوبة لابد منها من الصغائر أو من الكبائر، وأن الإنسان لا يستغرب عليه الخطأ لأنه كما هو نفخة من روح الله، هو طينة من الأرض، وكما قال ابن الرومي:

ولا بـد من أن ينزع المرء مرة *** إلى الحمأ المسنون ضربة لازب

بعد أن ذكر أن الظن لا قيمة له، وأن اليقين هو الأساس، وأن توحيد الله هو أول اليقينيات، وأن الشهادة بختم محمد -صلى الله عليه وسلم- للأنبياء وصدقه فيما يقول ضميمة لتوحيد الله، وأن الإيمان يلد الإحسان والعمل الصالح، وأن الإنسان قد يخطئ، فإذا تاب تاب الله عليه، بعد هذا كله بدأ شيء من التوبيخ للإنسان الذي يمشي وحده بعيدًا عن هدايات السماء، بدأ شيء من التوبيخ لهذا الإنسان مقرون بأن الإنسان ما يصلح إلا إذا زكّى نفسه، وأصلح أحواله، وهذّب أخلاقه، واعتقد بأنه صانع مستقبلها ولا دخل لأحد معه في هذا، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى).

(تَوَلَّى) رفض السير مع المؤمنين، (أَعْطَى قَلِيلاً) أي امتلك ما يمتلك وبخل به؟! (أَكْدَى) غلبه الشح والكزازة، فإذا هو نافر من العطاء.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى) معناها أن الذي يمتنع عن العطاء سيئ الظن بالمستقبل، فهو يقول لك: أحفظ ما في يدي اليوم ينفعني غدًا، ولا معنى للتطويح بما في اليد ومنحه للناس وانتظار ما عند الله.

ولهذا جاء في الحديث: "أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً".

قال تعالى: (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا).

في تفسير هذه الآيات نرجع إلى سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد نظر النبي يومًا إلى آفاق الدنيا في ليلة من الليالي، ثم كأنه أخذ يفكر: ترى بم يطلع اليوم الجديد على الناس؟!

الناس فيهم من سيموت، فيهم من سيحيا، فيهم من سيغتني، فيهم من سيفتقر، فيهم من سيصح، فيهم من سيمرض، فقال هذه الكلمة الموجزة: "سبحان الله!! ماذا أنزل الليلة من الفتن، وماذا فتح من الخزائن، أيقظوا صواحبات الحجر، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة".

تُرى خزائن الرحمة الإلهية التي تتدفق في عالم الناس تذهب لمن؟! ومَن مِن خلق الله سيضحك؟!

تُرى خزائن الفتن وهي تبتلى الناس وتغزوهم بالآلام والمتاعب تصيب مَن ومَن مِن خلق الله سيبكى؟! من الذي أضحك وأبكى؟! ومن الذي أمات وأحيا؟! إنه الله -جل شأنه-، أما تدري أن زمام الأمور بيد الله، وأن الناس مطلقون في الحياة؟! ترى الدابة بيد صاحبها يرسلها والحبل في يده؟!

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى *** لكالطول المرخى وثنياه في اليد
متى مـا يشـأ يومًا يقده لحتفه *** ومـن يك في حبل المنية ينقد

هل يستطيع أحد أن يقطع حبال القدر ويخرج من طوع الله؟! هيهات هيهات، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ)، (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)، (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).

بعد ذلك قال تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى).

كثير من الناس ينجب بنات ويتصور أن الأم هي المسؤولة عن هذا، وقد قرأت أخيرًا كتابًا طبيًّا لطبيب مسلم يقول فيه: "تبين أن الرجل وحده هو المسؤول عن ذريته، فهو يحمل حيوانات منوية بعضها له رأس لامع يمثل الذكورة، وبعضها له رأس خافت يمثل الأنوثة، فإذا سبق الحيوان المنوي اللامع الرأس جاء الولد ذكرًا، وإلا جاء المولود أنثى". ثم قال: "وهذا ما صوّره القرآن عندما قال: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى)".

أيها الإخوة: هذه نظرة عجلى إلى سورة النجم، ومن الممكن أن نزداد غوصًا في المعاني جمعًا لأطراف السورة، فنعطي صورة أخرى أدق وأكثر علمًا وتحقيقًا للقضايا التي وردت فيها، لكن ما ألهم الله به هو هذا القدر من المعرفة. والله ولى التوفيق.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ).

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدًا خاتم النبيين وإمام المرسلين. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد:

فنحن في العشر الأوائل من ذي الحجة، وثبت في الأحاديث الصحاح أن هذه الأيام من أفضل أيام السنة، أو لعلها أفضل أيام السنة، ففي الحديث: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر". فقالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء".

العمل الصالح له صور كثيرة: القرآن، العلم، العبادة، الدراسة، إنني أشعر بحزن عندما أرى أولادًا ينتسبون للشيوعية يأكلون الكتب أكلاً ولهم باع طويل في المعارف الإنسانية، في الوقت الذي أجد فيه شبابًا مسلمًا معرفته ضحلة أو فكره قريب القاع.

ديننا دين العلم، وكل ما يصقل العقل وينظم الفكر ويوسّع آماد النظر ويجعلك تصدر حكمك على نحو صحيح، هو من دين الله.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معادنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

أقم الصلاة.
 

 

 

 

المرفقات

في سورة النجم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات