اقتباس
وخطبة الجمعة من وسائل الإصلاح الفردية والاجتماعية، فهي تحتل موقعًا مهمًا متميزًا في تبليغ الدين، ونشر الدعوة وبث الإصلاح.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه وبعد:
خطبة الجمعة شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة؛ أوجب الله على المسلم المكلف شهودها بشروطها التي بينها أهل العلم -رحمهم الله-، وهي شعيرة عظيمة الشأن جليلة المقاصد، عميقة التأثير في كل أسبوع مرة، ولهذا التكرار غرضه في مواصلة حوار النفس ومواجهتها ومحاسبتها في أوامر الدين، وأحكامها ومقاصدها.
ومن مظاهر أحكام هذه الشعيرة لزوم حضورها جماعة، والنهي عن البيع عند النداء لها، ويتأهب لها المسلم بالتطهر والتبكير مع أخذ الزينة والطيب، وحسن السمت ووجوب الإنصات، ونبذ اللغو مما يهيئ للاستفادة؛ والرغبة في الاستماع، والالتزام بما يسمع من الحق على حد قوله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([1]).
وخطبة الجمعة من وسائل الإصلاح الفردية والاجتماعية، فهي تحتل موقعًا مهمًا متميزًا في تبليغ الدين، ونشر الدعوة وبث الإصلاح.
وقد كان ذلك من بدء الرسالة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، ولا تزال هي أكثر الوسائل فعالية في نشر الحق، وبث الفكر الصحيح، ومخاطبة مختلف الفئات والطبقات والمستويات، نظرًا لأن الخطيب المؤهل الموفق هو الأسرع إلى فهم العامة، والأبلغ في التأثير على المجموعة، فللخطبة فعلها المباشر وسرعتها في توجيه الرأي العام.
ومن ثم فينبغي للخطباء أن يسعوا لامتلاك زمام القلوب والألباب عن طريق المنابر ليحوزوا على المكانة الأسمى في توجيه الناس بأسلوب رقيق أخاذ وعبرات جذابة حية يكون لها وقع في القلوب كوابل السماء على الأرض العطشى, فينقلون الأمة من موت المشاعر إلى نبضات الحياة ومن غفلة الحس إلى يقظة الضمائر فيتفاعلون مع ما يلقى إلى أسماعهم من قطرات الندى التي تلامس شغاف القلوب. قال الله تعالى: (وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً)([2]).
إن من أعظم المتع التي عاشها الصحابة تلك الفصاحة والبراعة والنجابة التي كانوا يسمعونها من سيد الفصحاء، وإمام البلغاء، كان إذا تكلم ملك المشاعر واستولى على الضمائر واستمال السرائر، فلا يريدون بعده خطيبًا ولا شاعرًا إذا خطب صلى الله عليه وسلم، وتدفق فكأنه الفجر أشرق والماء ترقرق والنور في الأرواح ترفق، إن من النعيم عند ذاك الجيل العظيم سماع ذلك النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- في منطق سليم وصوت رخيم، وقول قويم ونهج مستقيم.
ثم درج خطباء الأمة على منواله، وسبكوا أقوالهم على أقواله، فمن مقل ومكثر، ومن مؤثر ومتأثر.
فأحسن الخطباء من جعل القرآن معينه، وملأ بنور الحديث عينه وجعل البيان خدينه، ثم أكثر من التدريب وأدمن من التجريب، وأخذ من كل فن بنصيب، فترى له من البراعة ومن الجرأة والشجاعة ما يخلب ألباب الجماعة جمالًا في بيان وحسنًا في إتقان، مع عذوبة اللسان وثبات جنان.
فهذب لسانك وجود بيانك ودرب جنانك، وأطلق في الفصاحة عنانك، لتكون الخطيب المسدد والمتكلم المؤيد، وحذار من ترداد الكلام، فإنه يتحول إلى ركام، ويصبح الخطيب أقبح في العين من الظلام، وإياك والتقعر والغرابة فإنها من عيوب الخطابة، ولا تكرر العبارة ولا تكثر الإشارة، ولا تقحم نفسك في فنون أهل الاختصاص، ولا تجرح وامزج الترغيب بالترهيب، والواعظ بالتأديب، وتحبب إلى السامعين بالطيب من الكلام، ولا تتعرض للشتم في القلوب وذكرهم برحمة علام الغيوب، وتخولهم بالموعظة لتكون لقلوبهم موقظة، وتحدث فيما يحتاجون إليه من مسائل وما يهمهم من فضائل، وكن لطيفًا مع الناس، واجعل إمامك في الخطابة رسول البيان صاحب القرآن سيد ولد عدنان، فقد كان الجزع يحن لكلامه ويئن من كثر شوقه وهيامه([3])، وكانت الدموع من وعظه تتحدر، والقلوب تتفطر والنفوس تتحسر، هذا إذا انذر وحذر، أما إذا ذكرهم بمغفرة الغفور، فهناك تسبح النفوس في صرح ممرد من السرور، وفي جدول من الحبور، فيمد كلامه نور الفطرة، فالكل نور على نور:
هذا الكلام الذي ما قاله أحد *** عليه من حلل الأنوار أردية
يصدع الصخر في زجر وموعظة *** ولا تلا مثله في الجمع سحبان
فكل قلب من الأشواق نشوان *** وفي البشارة روض فيه ريحان
أيها الخطباء كونوا أبطالًا، ورصعوا من الحكمة أقوالًا، ودبجوا من الفصاحة أمثالًا، وانفروا خفافًا وثقالًا.
خطيب الجمعة هو الواعظ، وله دور كبير وأثر بالغ في بيئته ومجتمعه وسامعيه وقومه، فهو قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ في قلوب الناس مكانًا، ويضع الله له قبولًا قلّ أن يزاحمه فيه أصحاب وجاهات، ولا يدانيه فيه ذوو مقامات، ومرد ذلك إلى الإخلاص أولًا، وتوفيق الله سبحانه وتعالى أيضًا، ثم إلى حسن الإجادة، ووجود الإفادة، والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى، والمدثر بدثار الإخلاص والورع.
ولا شك أن مهمة الخطيب في هذا مهمة شاقة مشقة، تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب فكر، وحسن التعبير، وطلاقة اللسان، وجودة الإلقاء مطلوب منه أن يحدث الناس بما يمس حياتهم، ولا ينقطع عن ماضيهم ويردهم إلى قواعد الدين ومبادئه، ويبصرهم بحكمه وأحكامه برفق، ويعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى، مهمته البعد عن المعاني المكررة وجلبات الملل.
إن خطيب المسجد وواعظ الجماعة أشد فاعلية في نفوس الجماهير من أي جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع، إن الجمهور قد يهابون بعض ذوي المسؤوليات لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتجرده؛ فإنه يقتلع جذور الشر من نفس المجرم، ويبعث في نفسه خشية الله وحب الحق وقبول العدل ومعاونة الناس، إن عمله إصلاح الضمائر وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وتربية النفوس العالية في عمل خالص، وجهد متجرد يرجو ثواب الله، ويروم نفع الناس.
في كثير من الأحيان تقرأ القصة وهي لا تساوي بعرة، ولا تهز شعرة، فيلقيها الخطيب الأشدق، والفصيح المتدفق، فكأنها السحر دب في كيانك، تسمع بيت الشعر لا يساوي شيئًا، ولا ترى فيه روعة ولا جمالا، فيلقيه الخطيب المصقع، والمتكلم المبدع، فتبقى من حسنه مبهوتا، كأنك لقطت ياقوتا.
الخطيب القدير، والمتكلم النحرير، له صولة وزئير، ومنطق كالحرير، ولسان كالسيف الطرير، إذا وثب على المنبر، فاح منه المسك والعنبر، فكأن منطقه الماء الزلال، والنبع السلسال، يأتي بالحكمة في ارتجال، ويغلب بحجته الرجال، فإنه الأسد إذا صال وجال، فإياك أيها الخطيب والكلام الساقط المرذول، والعامي المبذول، وعليك بفصيح المنقول، الذي يحبذه أصحاب العقول، ما أحوجنا إلى خطيب قوال، وبما يقول فعال، ليس صاحب إملال، ولا إخلال، ولا إقلال، وإنما يدبج السحر الحلال.
وكلامه السحر الحلال لو أنه *** لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن أوجزته *** ود المحدث أنه لم يوجز
ومن هنا فإنكم ترون أن أداء الخطيب عمله على وجهه يكسوه بهاء وشرفًا، ويرفعه إلى مكان عليّ عند الناس، وليس هذا إطراء ولا مديحًا للخطيب، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقته وعظم مسؤوليته، وثقل رسالته، وما تتطلبه من حسن استعداد، وشعور صادق للمسؤولية، وكيف لا يكون ذلك؛ وهذه رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسُن أولئك رفيقًا، ولا غرابة أن يواجه أذىً وعداًء ولومًا ونقدًا، وحسبه أن يكون مقبولًا عند الله والصفوة من عباد الله.
فخطيب الجمعة يولي هموم مجتمعه وقضايا أمته اهتمامًا كبيرًا، وتحتل هذه الهموم والقضايا موقعًا في نفسه فيشعر بأهمية الإسهام في حركة المجتمع والتجاوب معه بالدعوة إلى الحق وتدعيم كل خير، والتحذير من كل شر والتنفير منه، وكثير من الخطباء يوفقون في كسب قلوب السامعين والتأثير في مشاعرهم، فيكون ذلك سببًا في صلاحهم وتوبتهم، ورجوعهم إلى ربهم([4]).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
([1]) الجمعة آية:9.
([2]) النساء آية: 63.
([3]) لما ورد من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما - كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه. رواه البخاري رقم: (3583)، (4/237).
([4]) مستفاد من البيان الزاهر إلى فرسان المنابر للشيخ عبد الرحمن الأحمد، مقامات القرني، موسوعة البحوث والمقالات العلمية جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم