عناصر الخطبة
1/ كثرة الفتن الدنيا وشهواتها 2/ موت القلب وخطر ذلك 3/ أسباب موت القلب 4/ أهمية حياة القلب 5/ أسباب حياة القلباقتباس
دعونا -إخواني- نتكلم عن موتى القلوب الذين -والله- ما ذاقوا طعم الحياة، وما ارتاحت قلوبهم، وما اطمأنت نفوسهم. ماتت القلوب يوم أن ابتعدت عن خالقها، فدبت الشقوة والوحشة فيها، فلا إله إلا الله ما أمر عيش المستوحشين. ماتت القلوب يوم أن تحولت صلوات أصحابها وعبادتهم إلى حركات جوفاء لا روح فيها ولا حياة. ماتت القلوب يوم أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله هو الملك لا شريك له، والفرد فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد ولا صاحبة له، والعلي فلا شبيه له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، أعز من التجأ عليه، وأكفى من توكل العبد عليه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما أقلت الغبراء، ولا أظلت السماء، أتقى وأنقى ولا أزكى منه نفساً، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين, وعلى صحابته والتابعين، لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
عباد الله: في دنيا المحن، في دنيا الفتن، في دنيا الشهوات، في دنيا الشبهات، في بحر الخطيات، في زمن البليات، يكثر الموتى، ويعظم الهلكى، ويزداد العطشى.
نعم -والله- لكنهم ليسوا موتى بدن، ولا هلكى جسد، ولا عطشى ماء، فذاك -وربي- أهون، إنما هم موتى القلوب، وهلكى الأرواح، وعطاشى الفؤاد، ذاك يوم إن ولت تلك النفس المسكينة وبرها لشرع ربها، ذاك يوم أن انغمست تلك الروح في أوحال المعصية، ففقدت لذة حياتها.
مسكينة تلك النفس عاشت سنيناً في دنيا البشر، تتقلب بين الشهوات، وتتمتع بشتى الملذات، تبحث عن السعادة هنا وهناك، ما بين وحل المخدرات والخمور إلى -الفحش والفجور، إلى ميادين الطيش واللهو والغرور- لكن هيهات والله هيهات، لم تجنِ -وربي- إلا الهم، وعِظَم الغم، ولم تجد إلا الخواء والبؤس والشقاء، وصدق الله: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا) [طـه: 124] مسكينة تلك النفوس، تبث من اللذات بثاً، تريد سعادة قلبها، وإذا هو شقاء وجحيم وجهنم حاضرة، واللذات تفنى، والألام تبقى، والأعمال تحصى: (فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى) [طه: 52].
دعونا -إخواني- نتكلم عن موتى القلوب الذين -والله- ما ذاقوا طعم الحياة، وما ارتاحت قلوبهم، وما اطمأنت نفوسهم، ماتت القلوب يوم أن ابتعدت عن خالقها، فدبت الشقوة والوحشة فيها، فلا إله إلا الله ما أمر عيش المستوحشين، ماتت القلوب يوم أن تحولت صلوات أصحابها وعبادتهم إلى حركات جوفاء لا روح فيها ولا حياة.
ماتت القلوب يوم أن أشربت حب الذنوب، واستمرئت إغضاب علاّم الغيوب، ماتت القلوب يوم أن أحاطتها الغفلات من كل جانب، فعاشت للدنيا، وفكرت للدنيا، وأكلت للدنيا، وشربت للدنيا، ونصبت للدنيا، عندها فقدت طعم الحياة.
من بين تلك الأمواج العاتيات في بحار الظلمات ما أحوجها -والله- تلك القلوب الميتة وما أحوج قلوبنا إلى نداء الحياة.
ما أحوج تلك النفوس الجهولة الظلومة أن تستجيب لنداء الحياة الحقيقية لنستبدل بالهم فرجاً، وبالضيق مخرجاً، وبالغم انشراحاً، والوحشة أُنساً، وبالذل عزاً، نعم إن نداء الحياة أجابته القلوب الشاكية والعيون الباكية، إن قول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24].
يقول ابن القيم -رحمه الله- عن هذه الآية: "فأوامره سبحانه، وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون، ولذة القلوب، ونعيم الأرواح، وسرورها، وبها سعادتها وفلاحها، وكمالها في معاشها، ومعادها، بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك".
نعم -والله- إذا استجابت القلوب لأمر ربها، فلا تسل عن سعادتها، ولا تسل عن حياتها، ولا تسل عن صفائها، فتلك -والله- لذة تصغر عندها اللذائذ.
فيا سبحان من أحيا هذا القلب، وبالخير نماه، وبصادق الحب والإيمان زكاه، يا سبحان من أبصره وأعمى قلوب الغافلين، ويا سبحان من نوره وأظلم قلوب الفاجرين، ويا سبحان من خشّعه وقسّى قلوب الظالمين، ويا سبحان من متعه وأسعده وأهم وأحزن قلوب المحرومين.
همّ -يا رعاكم الله- لنتعرف كيف حيت هذه القلوب؟ وما هي أسباب حياتها؟
السبب الأول: التوبة من الذنوب والمعاصي، والحذر منها، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30]، ومصيبة موت القلب، ومرضه، وقسوته، إنما هي بما كسبت أيدينا من ذنوب، وهاهو صلى الله عليه وسلم يبين أثر الذنب، وأثر التوبة على القلب؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- يقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِتَ في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب، صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها، حتى يعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله -عز وجل-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14] [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني].
وحقاً إن مطر القلوب الاستغفار، وإن غياثها التوبة، جاء في الحديث الصحيح يقول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" [أخرجه أحمد].
ثانياً: تحقيق التوحيد وتجريده في القلب بمعانيه العظيمة، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن في القلب شعث لا يسلمه إلا الإقبال على الله -تعالى-، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأُنس بالله -تعالى-، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته"....إلخ كلامه -رحمه الله-.
وإن تحقيق التوحيد هو في التصديق بأقسام التوحيد الثلاثة الربوبية والأُلوهية والأسماء والصفات، وامتثالها حق الامتثال، وتعظيم الله ذي القدرة والكمال.
فيا سبحانه ما أعظمه! أحاط بكل شيءٍ علما، وأحصى كل شيء عددا، من يجبر الكسير سواه، ومن يغيث اللهفان عداه.
فالق الحب والنوى جلّ شأنه *** وضياء الدجى ونور السُّراة
شافع واسع حكيم عليمٌ *** بالنوايا والغيب والخاطراتِ
بارئ حافظ حميدٌ مجيدٌ *** فارج الهم كاشف المعضلاتِ
صمد تصمد البرايا إليه *** وأنيس الضمائر الموحشاتٍ
ليس شيء كمثلهِ فهو رب *** من يضاهيه في صفاته وذاتهِ
ثالثاً: المحافظة على الصلوات الخمس والنوافل، والإكثار منها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ) [البقرة: 153].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فشأن الصلاة في تفريج القلب وشرحه ابتهاجه ولذته أكبر شأن... من أدى حقها وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي ربه بقلبه وقالبه، فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه، وأحَسَ بأثقال وُضِعَت عنه، فوجد نشاطاً وراحةً وروحاً، حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيقه حتى يدخل فيها فيستريح بها، لا منها...".
هذه الصلاة -يا رعاكم الله- مددٌ عظيم من أمداد حياة القلوب، فأين السبّاقون إليها، الخاشعون فيها، والمكثرون من ركعاتها وسجداتها؟
رابعاً: إقبال القلب على كتاب الله -عز وجل- تلاوةً وتدبراً، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فلو علم الناس ما قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه يتفكر حتى إذا مرّ بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب،...".
وها هو سعيد بن جبير يستفتح قيام الليل ذات ليلة بقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ) [الإنفطار: 1]، فلم يزل فيها حتى قال مؤذن الفجر: الله أكبر!".
خامساً: دوام ذكر الله -عز وجل-، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
وفي صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثَلُ الحي والميت".
جاء رجل للحسن البصري وقال له: "يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال الحسن: "أذبه بالذكر، فما أُذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله".
لذلك عض عليه السلف بالنواجذ، خالد بن معدان كان يسبّح كل يوم أربعين ألف تسبيحة، فلما مات ووضع على سريره ليُغسل بسبابته ممدودة إشارة للتسبيح.
سادساً: صحبة الصالحين سلفاً وخلفاً، فأما سلفا فبالنظر في سير القوم: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111].
يقول بشر بن الحارث: "فحسبك أن قوماً موتى تحيا القلوب بذكرهم".
وأما خلفاً فبمجالستهم والاستفادة منهم.
فتا لله إن صحبتهم حياة للقلوب، وإن مجالستهم غذاء للأرواح.
أقول ما تسمعون...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
وبعد:
سابعاً من أسباب حياة القلوب: مراقبة الله، ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أفضل الإيمان أن تعلم أن معك حيثما كنت" [رواه الطبراني].
ويا سبحان الله إذا عمرت القلوب بذكر علاّم الغيوب تجد نفس صاحبها عن الحرام كفت، وعن القبيح عفّت.
فاستح من الله -يا أخي- وعظّم جنابه، فإن الله -عز وجل- في الحديث القدسي يقول لعبده الذي يبارزه بالمعصية: "يا عبدي أجعلتني أهون الناظرين إليك"؟.
ثامناً: محاسبة النفس، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [الحشر: 18].
يقول مسروق: "إن المرء لحقيقُ به أن يكون له مجالس يخلو فيها بنفسه فيتذكر ذنوبه ويستغفر منها".
وها هو ابن القيم -رحمه الله- يخاطب نفسه محاسباً حاثّاً لها فيقول:
ألا يا نفس ويحكَ ساعديني *** بسعي منك في ظلم الليالي
لعلكِ في القيامة أن تفوزي *** بطيب العيش في تلك العلالي
تاسعاً: كثرة ذكر الموت الآخرة، قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
نعم التفكر في الموت ووداع الدنيا، والقبر ووحشته، والصراط وزلته، وجهنم وأهوالها، وسلاسلها وأنكالها، وفي الجنة ونعيمها وحبورها وأنهارها وقصورها، تالله إن تذكر ذلك بين الحين والآخر دواء للقلوب، فكم -وربي- أزعج ذكر الموت والآخرة قلوب الخاشعين؟ وكم حرك انتظار البلى أفئدة العابدين؟ وكم أجرى ذكر اللحود المظلمة على الخدود دموع التائبين؟
عاشراً: الضراعة والدعاء، ومن الأدعية القرآنية: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران: 8].
وكم كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على قلبه، إذ كان من دعائه كما عند مسلم: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع".
وكم -والله- من قلب مشى وأظلم وتشتت في أودية الدنيا ونواحيها؟ وكم من عين جفت دمعة الخشوع من مآقيها؟ فوقف صاحبها بين يدي ربه يدعوه دعاء المتضرع الباكي، ويرجوه رجاء المتأوه الشاكي؟ فأجاب الله دعوته، ورزقه صفاء القلب ولذته، ولله فاضت دمعة العين خشية.
يا إلهي إني مقرٌ بذنبي *** وخطايا جوارح مسرفات
جدّ على عبدك المرجي نوالاً *** من عطايا أوائل المشرقات
واهدِ قلبي ياخالقي وارضَ عني *** فالرضى عنك منتهى الأمنياتِ
يا ملاذاً تهفو البرايا إليه *** والمرجى لفك أسر العناة
امحُ عني صحائفاً من ذنوب *** واعفُ عني يا غافر السيئاتِ
يا أنيسي وعدتي واعتمادي *** وملاذي في ظلمة الغائباتِ
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم