نحن والموت

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الموت أعظم مصيبة 2/ضرورة الاستعداد للموت 3/سكرات الموت وأهواله 4/بعض أحوال المحتضرين 5/الزهد في الدنيا 6/تذكر الموت لا يعني ترك عمارة الأرض 7/فوائد تذكر الموت

اقتباس

ذِكر الموت سبب لصلاحِ الدُّنيا والآخرةِ، فالشابُّ يستقيمُ، والكبيرُ يَهتدي، والموظفُ يَصدقُ، والتَّاجرُ ينصحُ، والمسئولُ يُنصِفُ، والحاكِمُ يَعدِلُ، والعاملُ يُخلِصُ، والوالدُ يُربِّي، والولدُ يُطيعُ، والغنيُّ يُنفقُ، والفقيرُ يرضى، حينئذٍ سيكونُ المجتمعُ مجتمعاً صالحاً في دُنياهُ وآخرتِه. ولكن لنعلمَ علمَ اليقينِ: أن عِمارةَ الأرضِ نَعمةٌ مُباركةٌ إن كانت مع...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَ له، ومن يضللْ فلن تجدَ له ولياً مُرشداً.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وليُّ الصالحينَ.

وأشهدُ أن نبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه أرسلَه اللهُ رحمةً للعالمينَ، فشرحَ به الصدورَ، وأنارَ به الطريقَ، فجزاهُ اللهُ عنَّا خيرَ ما جزى به نبيَّاً عن أمتِه صلى الله عليه وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

 

أما بعد:

 

فقد يكونُ في مجلسٍ، أو في عملِه، أو في سيَّارتِه، فيأتيه اتِّصالٌ هاتفيٌ، أو رِسالةُ جوَّالٍ، فيها نبأُ موتِ قريبٍ أو حبيبٍ، فيصابُ بحالةٍ من الذُّهولِ، فالخبرُ يحملُ مصيبةً؛ كما سمَّاه اللهُ -تعالى- في كتابِه: (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106].

 

وهو صدمةٌ كُبرى كما ذكرَ -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى".

 

فيبدأُ شريطُ الذِّكريَاتِ في استعراضِ تلك الأيامِ والمواقفِ، كم تَحَدَّثُوا جميعاً، كم ضَحِكوا جميعاً، كم ذَهَبوا جميعاً، يتذكَّرُ ذلك اللقاءَ الأخيرَ الذي جمعَ بينَهما، لم يكنْ للموتِ فيه ذَكْرٌ، بل كانَ الحديثُ عن الدُّنيا وعن مشاريعِ المُستَقبلِ، فماذا لو كانَ يعلمُ أنه سيموتُ بعدَ يومٍ؟، فعجيبٌ هذا الموتُ، ليسَ لقُدُومِه علاماتٌ، ولا يمنعُ منه قصورٌ وحِراساتٌ: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)[النساء: 78].

 

يصفُ اللهُ -تعالى- حالَنا مع الموتِ بقولِه تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة: 8].

 

فنحنُ نَفِرُّ من ذِكْرِه، ومن المجالسِ التي يُذكرُ فيها، ومن الأماكنِ التي تُذَكِّرُنا به، ومن الأشخاصِ الَّذينَ يُذكِّرونَنا به، وغَفلنا عن قولِه سبحانه: (فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)[الجمعة: 8].

 

كلمةٌ واحدةٌ وصفتْ لك الحالَ، فكلُ واحدٍ مِنَّا يسيرُ على طريقٍ والموتُ ينتظرُه في الأمامِ، فالدقائقُ والساعاتُ والأيامُ، هي مَطايا تَحمِلُنا إلى لَحظةِ الخِتامِ: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [الأحزاب: 16].

 

فكيفَ هو استعدادُك -أيها اللَّبِيبُ-: وأنت تعلمُ أن أمامَكَ أمرٌ رهيبٌ، ولا تدري هل هو بعيدٌ عنكَ أم قريبٌ؟، فالحذرَ، الحذرَ، قَبلَ الفَوْتِ، فاللهُ -تعالى- يقولُ: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء: 35].

 

سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ‏:‏ "يَا أَبَا سَعِيدٍ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَا، حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ‏؟ فَقَالَ‏: وَاللَّهِ لَأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ. ‏

 

كمْ نحنُ نَحيدُ ونروغُ عن هذه اللَحَظاتِ، سَكَراتُ الموتِ، التي تُغطي على العقولِ، فلا يَشعرُ الإنسانُ بمن حَولِه ولا يعلمُ ما يقولُ: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق: 19].

 

تلكَ الأوقاتُ العسيرةُ، التي لو نجا منها أحدٌ لنجا منها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ جَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ في الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ".

 

ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ!.

 

في ذلك الأوانِ، لن يَثبتَ إلا من ثَبَّتَه اللهُ -تعالى- من أهلِ الإيمانِ: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27].

 

فالاستعدادُ يا هذا، من قبلِ أن يُقالُ لك: (لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا) [ق: 22].

 

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيِّ: "لَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ بْنَ أَبِي إِيَاسٍ الْوَفَاةُ، خَتَمَ الْقُرْآنَ وَهُوَ مُسَجًّى، ثُمَّ قَالَ: بِحُبِّي لَكَ إِلَّا مَا رَفَقْتَ لِهَذَا الْمَصْرَعِ، كُنْتُ أُؤَمِّلُكَ لِهَذَا الْيَوْمِ، كُنْتُ أَرْجُوكَ، ثُمَّ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَضَى رحمه الله".

 

لقدْ حذَّرَنا اللهُ -عز وجل- من ذلك الموقفِ، الذي يأتي فيه مَلَكُ الموتِ لقبضِ الروحِ، فإذا الإنسانُ قد ألهتْه الأولادُ والأموالُ، عن ذِكرِ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، ولم يُنفقْ مما رزقَه الْحَيُّ الْقَيُّومُ، على فقيرٍ أو مِسكينٍ أو محرومٍ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [المنافقون: 9-10].

 

حِينَها يستيقظُ من غَفلَتِه، وكأنه كَانَ في نَومٍ عميقٍ، وحُلُمٍ سَحيقٍ، فلا صَدَقاتٍ، ولا صالحاتٍ، وكأنَه في حياتِه لم يقرأْ تلكَ الآياتِ: (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ)[المنافقون: 10].

 

فهل يُجابُ إلى ما أرادَ؟ (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) [المؤمنون: 100].

 

ولا تنفَعُه: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر: 37].

 

(وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون: 11].

 

لَمَّا احْتُضِرَ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ الْوَاثِقُ، رَدَّدَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:

 

الْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ مُشْتَرِكٌ *** لَا سُوقَةٌ مِنْهُمُ يَبْقَى وَلَا مَلِكُ

مَا ضَرَّ أَهْلَ قَلِيلٍ فِي تَفَرُّقِهِمْ *** وَلَيْسَ يُغْنِي عَنِ الْأَمْلَاكِ مَا مَلَكُوا

 

ثُمَّ أَمَرَ بِالْبُسُطِ، فَطُوِيَتْ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ مُلْكُهُ.

 

في تلك الساعاتِ، تدورُ العيونُ من الأهوالِ، وتغيبُ الحَوَاسُ عن الإدراكِ: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب: 19].

 

يُغشى على العقولِ، فتنظرُ العينُ، ويُربطُ اللِّسانُ، ولا تتحركُ الجوارحُ: (يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد: 20].

 

هل رأيتُم الغريقَ؟ كيفَ يُصارعُ الماءَ، فيغمرُه حتى لا يستطيعَ كلاماً، فتُكتمُ الأنفاسُ، ويضيعُ الإحساسُ، تلك هي الغَمَراتُ التي وصفَها اللهُ -تعالى- في قولِه: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) [الأنعام : 93].

 

قالَ عبدُ اللهِ بنُ عمرو بنِ العاصِ لأبيه:  لما نزلَ به الموتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، إنكَ كنتَ تقولُ: أشتهي أن أرى عاقلاً يموتُ حتى أسألَه كيفَ يجدُ الموتَ، فكيفَ تجدُك؟ قالَ: "أَجدُ السماءَ كأنها مُطْبِقةٌ على الأرضِ وأنا بينَهما، وأَراني كأنما أتنفسُ من خُرمِ إبرةٍ".

 

ثم قالَ: "اللهم خُذْ مني حتى ترضى".

 

ثم رفعَ يديه، فقالَ: "اللهم أمرتَ فعصينا، ونهيتَ فركبنا فلا بريءٌ فأعتذرُ، ولا قَويٌ فأنتصرُ، ولكن، لا إلهَ إلا اللهُ، لا إلهَ إلا اللهُ، لا إلهَ إلا اللهُ" ثم فاضَتْ روحُه.

 

عبادَ اللهِ: هل تعلمونَ من هم أعقلُ المؤمنينَ؟

 

عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" ثُمَّ قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ -أيْ: أَعقلُ- قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعْدَادًا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ".

 

بل جاءَ الحثُّ على كثرةِ تَذَكِّرِ الموتِ كما في حديثِ: "أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَادِمِ اللَّذَّاتِ".

 

وكانَ ذلك ظاهراً في أقوالِه عليه الصلاة والسلام؛ كما في قولِه: "مَالِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا".

 

بل حتى في وصاياه لأصحابِه -رضي الله عنهم-، فها هو يأخذُ بمنكبِ ابنِ عمرَ -رضي الله عنهما- فيقولُ له: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ" فماذا كانَ أثرُ هذه الكلماتِ عليه؟

 

كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُوْلُ: "إِذَا أَمْسَيْتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ. وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لمَوْتِكَ".

 

تزودْ من التقـوى فإنَّك لا تدْري *** إذا جَنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجرِ

فكمْ منْ صحيحٍ مات من غير عِلَّةٍ *** وكمْ منْ عليلٍ عاش حِينًا منَ الدهرِ

وكمْ منْ صِغارٍ يُرْتَجَى طولُ عُمرِهم *** وقد أًدخلت أجسادُهم ظلمةَ القبرِ

وكمْ منْ فتى يُمسي ويصبحُ لاهيـًا *** وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدري

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ.

 

أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2].

أحمدُه كما ينبغي لجلالِ وجهِه، وعظيمِ سلطانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولِه.

 

أما بعد:

 

فقد يظُنُّ البعضُ ممن لا علمَ له بكتابِ اللهِ -تعالى- أو سُنةِ رسولِه -صلى الله عليه وسلم-: أن تذكيرَ الناسِ بالموتِ، وكثرةِ تّذَكِّرِهم له، مما قد يَجعلُهم يُحجمونَ عن العملِ للدُّنيا، ولا يَعمرونَ الأرضَ، فتتعَطَّلُ أمورُ المعاشِ، ولا يكونُ للمسلمينَ حضارةٌ ولا تَقدٌّمٌ.

 

فنقولُ: يَستحيلُ أن يكونَ هذا المعنى، فاللهُ -تعالى- الذي ذكرَ الموتَ في كتابِه ما لا يُحصى، هو الذي أمرَ بِعِمارةِ الأرضِ: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61].

 

وأمر بالسعيِ في الأرضِ والأكلِ من رزقِه: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15].

 

بل من الأسبابِ التي من أجلِها خَففَّ اللهُ -تعالى- قيامَ الليلِ على الأمَّةِ، هو: الضربُ في الأرضِ ابتغاءَ فضلِه، فكانَ قَريناً للجهادِ في سبيلِ اللهِ -تعالى-: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل: 20].

 

واسمع إلى من جاءهم الموتُ! وهم قد نسوُه في حياتِهم ماذا يتَمنَّونَ؟!

 

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 100].

 

(فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون: 10].

 

إذن ذِكرُ الموتِ هو سببٌ لصلاحِ الدُّنيا والآخرةِ، فالشابُّ يستقيمُ، والكبيرُ يَهتدي، والموظفُ يَصدقُ، والتَّاجرُ ينصحُ، والمسئولُ يُنصِفُ، والحاكِمُ يَعدِلُ، والعاملُ يُخلِصُ، والوالدُ يُربِّي، والولدُ يُطيعُ، والغنيُّ يُنفقُ، والفقيرُ يرضى، حينئذٍ سيكونُ المجتمعُ مجتمعاً صالحاً في دُنياهُ وآخرتِه.

 

ولكن لنعلمَ علمَ اليقينِ: أن عِمارةَ الأرضِ نَعمةٌ مُباركةٌ إن كانت مع تقوى وإيمانٍ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].

 

وتكونُ استدراجاً إن كانت مع كُفرٍ وطُغيانٍ: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ)[الأنعام: 44-45].

 

اللهم إنا نسألُك عَيشَ السُعداءِ، وموتَ الشُهداءِ، والحشرَ مع الأتقياءِ، ومُرافقةَ الأنبياءِ، ونعوذُ بك اللهم من جَهدِ البلاءِ، ودَركِ الشَقاءِ، وسُوءِ القضاءِ، وشَماتةِ الأعداءِ.

 

اللهم وَفِّقْ وَليَّ أمرِنا لما تحبُ وترضى وخُذْ بناصيَتِه للبِّرِ والتقوى، اللهم وفِّقه لهُداك واجعلْ عملَه في رِضاك وسائرَ ولاةِ أمورِ المسلمينَ.

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليت على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 180-182].

 

 

 

 

المرفقات

والموت

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات