نحن والآخر

ناصر بن محمد الأحمد

2014-11-11 - 1436/01/18
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/المقصود ب\"الآخر\" 2/أهداف ترويج مصطلح \"الآخر\" وأمثاله 3/المقصود الشرعي لمصطلح \"الآخر\" وتوضيح ذلك 4/بعض مغالطات \"الآخر\" وأكاذيبه وجرائمه في حق المسلمين 5/المقصود ب\"الولاء والبراء\" في الإسلام 6/واجب الدعاة إلى الله تجاه مصطلح الولاء والبراء 7/بعض المواقف التي فضحت دعاة مصطلح \"الآخر\"

اقتباس

لقد أصبحت قضية ما يسمى ب"الآخر" تشغل حيّزاً واضحاً في الأطروحات الثقافية في الآونة الأخيرة، لا سيما في مجال مواجهة التصور الإسلامي ونقده، حيث توجه تهمة رئيسة الآن إلى التصور والفكر الإسلامي، بأنه لا يعترف ب"الآخر"، ولا يفقه التعامل معه، بل لا يضع قضية "الآخر" برمتها في الحسبان، ويُرمى بهذه التهمة من قِبَل رموز الـ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد ظهر علينا في الآونة الأخيرة مصطلح جديد، كثر تداوله عبر وسائل الإعلام المختلفة، من إذاعة وصحافة، وتلفزة وفضائيات، وعلى الشبكة العنكبوتية، ومع الأسف صار يستخدمه أيضاً عدد من الدعاة والكتّاب المسلمين ألا، وهو مصطلح: "الآخر".

 

وأصبحنا نسمع عن أهمية الحوار مع "الآخر"، وعن ضرورة الاعتراف ب"الآخر"، وعن سماع وجهة نظر "الآخر"، ونحو هذه العبارات، ومن أجل "الآخر" عقدت ندوات ومؤتمرات.

 

لقد أصبحت قضية ما يسمى ب"الآخر" تشغل حيّزاً واضحاً في الأطروحات الثقافية في الآونة الأخيرة، لا سيما في مجال مواجهة التصور الإسلامي ونقده، حيث توجه تهمة رئيسة الآن إلى التصور والفكر الإسلامي بأنه لا يعترف ب"الآخر"، ولا يفقه التعامل معه، بل لا يضع قضية "الآخر" برمتها في الحسبان، ويُرمى بهذه التهمة من قِبَل رموز العلمانية على امتداد ساحة العالم العربي الفكرية، كما تُبنى على هذه التهمة اتهامات فرعية، تتعلق بدعوى ضيق الأفق والانغلاق والتعصب وما شابه ذلك.

 

وتقترن بهذه القضية أو هذا الطرح مسائل أخرى، أصبحت مشهورة ثقافياً في الفترة الأخيرة كقضية التعددية، والتفاعل الفكري الحضاري، وتجنب الحديث عن الغزو الفكري والثقافي، باعتبار أن كل هذه المسائل تعالج قضية "الآخر" وتحلها، وفي الوقت نفسه ينشغل بعض المثقفين الإسلاميين بالرد على الأطروحات الدائرة في فلك قضية "الآخر"، بتوضيح انفتاحية الإسلام، وقدرته على التواصل الحضاري، وسماحته الدينية، وعدم تبنيه مفاهيم ضيقة حول الهوية والذات.

 

فما المقصود ب"الآخر"؟ ومن هو "الآخر"؟ ومن وراء هذا المصطلح؟ ولصالح من تروج مثل هذه المصطلحات والعبارات؟

 

هل "الآخر" هو الغرب بنـزعاته من صليبية إلى استعمارية جديدة وقديمة إلى صهيونية وعلمانية؟ أم هو غير المسلمين في خارج وداخل البلدان الإسلامية، ومعهم النخب اللا دينية؟ أم هو اليهودية العالمية والإسرائيلية؟ وهل هذا "الآخر" أفراد ودول؟ أم أفكار ومذاهب وفلسفات؟ أم حركات سياسية واجتماعية ودولية؟ أم تيارات اقتصادية ومادية كبرى؟

 

إن هذا المصطلح من المصطلحات الغامضة الحمّالة لمعانٍ مختلفة، ولعل ذلك مقصود ممن هم وراء طرحه وإثارته، ولذلك لا بد من تحرير هذا المصطلح، وكشف أبعاده ليتعرى الملبسون المضللون الذين يعنون ما يقولون، وليحذر الذين غرر بهم بتبني هذا المصطلح من بعض أهل العلم والدعوة.

 

أيها المسلمون: إن المقصود ب"الآخر" في طرح هؤلاء، هو "الكافر" بجميع أطيافه وأشكاله وألوانه، فهؤلاء عندما تحرجوا أن يستخدموا الألفاظ الشرعية، استعاضوا عنها بهذا المصطلح.

 

والواقع أنه ليس هناك نحن و"الآخر"، وإنما هناك المسلمون والكافرون، قال الله -تعالى-: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ)[الحـج: 78].

 

وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[التغابن: 2].

 

وقال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)[المائدة: 72].

 

والآيات في ذكر الكفر والكافرين كثيرة جداً، جاء ذكرها في ما يزيد على (352) موضعاً، فلماذا التحرج من كلام الله -عز وجل- الذي هو أحسن الحديث وأصدقه وأفصحه: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً)[النساء: 122] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا)[النساء: 87]؟

 

إن من يتحرج من كلام الله -عز وجل- وتسمياته، ويرتاح لكلام البشر ومصطلحاتهم ومسمياتهم يخشى عليه أن يكون تحت طائلة قوله تعالى: (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِ"الآخر"ةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[الزمر: 45].

 

أيها المسلمون: إن مصطلح المؤمنين والذين آمنوا ورد في القرآن أكثر من (450) مرة، والكفر والكافرين والكفّار والذين كفروا وردت في القرآن أكثر من (400) مرة، والمشركين والذين أشركوا وردت في القرآن أكثر من (200) مرة، والمنافقين والذين نافقوا وردت في القرآن أكثر (50) مرة، و"الآخر" و"الآخر"ون لم نجد لها ذِكراً في كتاب الله.

 

ولو أن الأمر في استبدال "الآخر" بالكافر توقف عند الاستبدال اللفظي لكان الأمر أهون، مع مخالفته لكلام الله -عز وجل-، ولكن الخطورة في هذا الاستبدال يتجاوز اللفظ إلى الهزيمة النفسية أمام "الآخر" "الكافر" وذلك بالدعوة إلى عدم الكراهية له، وإخفاء ظلمه وعدوانه وإرهابه، وكأنه مظلوم قد سلبت حقوقه، ويشعر السامع من الذين يطرحون مصطلح "الآخر"، بأنهم يعيشون تحت ظرف سياسي داخلي أو خارجي صوّر لهم "الآخر"، وكأنه مظلوم يريد من ينصره ممن ظلمه، واعتمدوا في ذلك على نصوص في الكتاب والسنة تدعو إلى التسامح والبر والقسط مع الكفار، وحرّفوها عن معانيها، وفصلوها عن مناسباتها التي نزلت فيها، ونسوا أو تناسوا الآيات التي فيها وجوب عداوة الكافر والبراءة منه، وجهاده حتى يكون الدين كله لله، إنه تحريف في ثوابت الدين وأصوله.

 

أيها المسلمون: إن البراءة من الكافر في الإسلام تعني بغضه وبغض ما هو عليه من الكفر وعداوته، هذا إذا كان مسالماً، أما إذا كان حربياً فإنه يضاف إلى المعاني السابقة جهاده وقتاله، ورد عدوانه وإزاحته من طريق الحق والتوحيد، ليصل الحق إلى قلوب الناس، ويفرض سلطان الإسلام ودولته عليهم، إن المسلم حينما يسمع مثل هذه التعاريف والمواقف المتخاذلة ليخرج بنتيجة واحدة مفادها المطالبة بعدم كراهية الكافر، وأن نحترمه ونحافظ على حقوقه، ونشفق عليه، وكأنه هو المظلوم المسلوب الحقوق.

 

فهلا يعلم قومنا ما فعله الكافر "الآخر" وبخاصة أهل الكتاب في المسلمين في القديم والحديث، ليعلموا من هو المعتدي ومن هو المعتدى عليه؟

 

إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين ألّبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعاً وردءاً.

 

إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية.

 

إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، هم الذين يشردون المسلمين الآن في كل مكان، في الحبشة والصومال وأرتيريا، ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغسلافيا والصين وتركستان والهند.

 

إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين هم الذين قتلوا أهلنا ونساءنا وأطفالنا في أفغانستان والعراق، ثم يظهر بيننا من يظن أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر ندفع به الإلحاد والإرهاب.

 

إن هؤلاء لا يتدبرون القرآن الكريم، وإلاّ لما اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام بدعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن.

 

إن هؤلاء الذين يحترقون اليوم على "الآخر" نسألهم بكل صراحة، أليس "الآخر" هو الذي أجرى دماء المسلمين في فلسطين وفي العراق وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟

 

أليس هو القوة المسيطرة التي تحكم في الأرض بموازينها المضطربة وشعاراتها المزخرفة ومكاييلها المتعددة؟

 

يحقُّ لنا أن نتساءل: لماذا هذا الحرص على "الآخر"، و"الآخر" ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا؟ ولماذا تُثار هذه القضية، و"الآخر" يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد؟

 

وباستعراض تاريخنا وخاصة في العصر الحديث الذي نعيشه لا نجد أنَّ "الآخر" وجد عدالة وحياة أفضل مما وجدها بين المسلمين.

 

لقد عاش النصارى في معظم أقطار العالم الإسلامي حياة مطمئنّة كريمة إلا في فترات قليلة من تاريخنا الإسلامي، فالنصارى واليهود لم يُظْلموا في المجتمعات الإسلامية، ولكن يعاقبون بمقدار ما يُكْشَف من تعاونهم مع أعداء الأمة حين يتلقّون منهم التوجيه، ويعملون حسب المخطط الذي يرسمونه لهم، فهؤلاء الذين يطالبون أن نُقْسِط مع "الآخر"، وأن نعترف به، نتساءل: لِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يُقسِط "الآخر" معنا ويعدل معنا؟ فهو الظالم المعتدي المنكِر لحقوقنا، والذين قالوا: يجب أن ننفتح عليه هل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه؟ فُتِحَتْ له القلوب والديار؟

 

إنَّ "الآخر" بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.

 

أيها المسلمون: إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام، ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق.

 

يجب ألاّ يدفعنا الإحباط والهوان إلى أن نتلمس النجاة عند "الآخر".

 

إنَّ سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله، ونغيِّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.

 

إنَّ الإسلام والإسلام وحده مصطلحاً ومعنىً ونهجاً، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا؟ وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها؟ وكيف نتعامل مع شعوب الأرض؟

 

نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها ونتعهّدهم عليها، بها نُخاصِم وبها نرضى وبها نتعاون.

 

أيها المسلمون: كيف يأمرنا الله أن ندعو هؤلاء من أهل الكتاب وغيرهم؟ وكيف تكون العلاقة معهم؟

 

فلنستمع إلى آيات الله البيّنات، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً * إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)[النساء: 47-48].

 

إنَّ أوّل ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، دعوة واضحة جادّة صريحة، دعوة إلى التخلّي عن الشرك.

 

إنَّ المواربة في هذا الأمر أو المداهنة أو المساومة ليست أسلوباً يدعو له الإسلام، أو يرضى به الله.

 

إنَّ الله يريد أن تكون دعوته واضحة جليّة، وأن نُبلّغها كما أُنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-، فليست الدعوة إذن إلى التقارب مع "الآخر"، فأيّ تقارب بين التوحيد والشرك؟

 

إنَّ قوة أهل الكتاب اليوم وسلطانهم الممتدّ يضغط على بعض المسلمين وعلى فكرهم، فتختلط الأمور تحت تأثير هذا الضغط، لا بدَّ أن نؤكِّد أنَّ أساس العلاقات هو الدعوة إلى الإسلام، وأن تكون الدعوة واضحة جليّة لا تَدَعْ لأحد عذراً يدّعي معه أنه لم يستوعب الدعوة، ويجب أن تكون الدعوة عامة على جميع المستويات، كما أنزلت من عند الله.

 

أيها المسلمون: والآن: من أين بدأت قضية "الآخر"؟ ومن المروّج والمستفيد من هذا المصطلح؟

 

إن فكرة وجود الطرف "الآخر" ابتداءً هي فكرة دخيلة على المسلمين، فالطرف "الآخر"، أو الرأي "الآخر"، أو وجهة النظر "الآخر"ى، أو كل ما يتعلق ب"الآخر"، هي فكرة أقحمها الغرب إقحاماً على النسيج الفكري الذي انعقدت عليه عقول أمة الإسلام، فأمة الإسلام منذ اللحظة الأولى كانت أمة واحدة، رأياً واحداً، وجهة نظر واحدة، عقيدةً واحدةً، مسلكاً واحداً، قائداً واحداً، شرعاً واحداً، رباً واحداً، نبياً واحداً، وقد مكثت الأمة على ذلك قرابة "13" قرناً، ولم تعرف هذا "الآخر" المزعوم.

 

ثم عاث الغرب فساداً في عقل الأمة، فأفسد عليها كل ما طالته يده، أفسد عليها فكرها الصافي، وعقيدتها الدافئة الغضة الحلوة، وشرعها النظيف البهيّ الجميل، وتماسكها الصلب الصخري، وتحت عناوين: "قبول "الآخر" و"إقناع "الآخر" و"التعامل مع "الآخر" تحت هذه المسميات وغيرها كثير، تمثلت غزوة فكرية حاقدة شرسة من الكافر المستعمر، فأوهموا الناس أن هناك آخر، وأنهم يجب أن يقبلوه، وأنهم يجب أن يحاوروه، وللأسف انطلت الخدعة على بعض الأمة، وكان هذا "الآخر" هو عينه الكافر المستعمر، ذلك المسخ الذي غرس أنيابه في عنق الأمة ليمتص دماءها الزكيّة، وقد أعجبته هذه الدماء، فراح يعمل ليوقف قلبها عن النبض، وصار الناس يفكرون في "الآخر" وإرضائه، بينما ليس هناك آخر مطلقاً، إنما هي أكذوبة أنتجتها عقول الغرب الممسوخة، فما "الآخر" إلا العدو، فلا آخر في الإسلام، ولا آخر في شريعة الله.

 

وحين أراد الغرب أن يبطل احتكامنا إلى نصوص الشريعة، أراد أن يجد له أسلوباً يدخل فيه إلى الأمة، فكان مما دعا إليه فكرة وجود "الآخر"، ووجوب تقبله واحترامه والإصغاء إليه، وقد حاول أن يدلّس الغرب وأذنابه من عملاء الفكر ومروجي حضارته العفنة، حاولوا أن يدلّسوا على أبناء الأمة، فصاروا يستشهدون بالنقاشات والحوارات والمجادلات التي دارت بين النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وبين خصومه من كفار مكة أو يهود المدينة أو منافقيها.

 

ورغم أن الناظر في تلك المناقشات والمجادلات والحوارات يجد أنها كلها تتسم بصفات مشتركة أهمها المفاصلة، ورفض كل شيء غير الإسلام، وعدم قبول قواعد الكفار في الحكم، ورفض طريقتهم في التفكير، وبالتالي إنكار أي شيء موجود يسمى آخر، فلا يصح أن يوجد إلا الإسلام.

 

رغم ذلك نجد أن هذا التدليس قد انطلى على بعض أبناء أمتنا، فراحوا يحترمون "الآخر" حتى وصل الأمر ببعضهم إلى مرحلة التقديس.

 

ولعله من المناسب سوق أمثلة على مدى خطورة اعتبار وجود "الآخر" والاستكانة لوجوده، فأول مثال أسوقه هو: اتحاد بعض الجماعات الإسلامية مع النصارى الأقباط في قوائمهم الانتخابية من أجل أن يبرهنوا على عدم تطرفهم الفكري، وأنهم أناس ناضجون متحضرون على حد فهمهم للحضارة، وأنهم يتقبلون "الآخر"، ويتكرر الأمر في بلد مسلم آخر، تسيل دماؤه مما يفعله به الاحتلال الجاثم على صدره، فتتحد جهة إسلاميةٌ هناك مع النصارى في قوائمهم الانتخابية من أجل دخول مجالس أسموها "مجالس تشريعية" ليسنوا القوانين والدستور، ويحموا حمى الإسلام العظيم من خلال فوزهم بانتخابات مجالس تحت حراب الاحتلال.

 

وليت الأمر يقتصر على ذلك، فالغرب الكافر لما خرج علينا بأكذوبة "الآخر" كان يقصد بها معاشرة الفكر الغربي للفكر الإسلامي لينتج عنهما وليد جديد، ممسوخ الوجه، دميم الخِلقة، وليدٌ لا هو غربي صرف، ولا هو إسلامي صرف، هو مزيج من تلاقح الحضارات، وتلاقي الأفكار، وحوار الثقافات -زعموا- فكرٌ يساوي بين الإسلام من جهة وبين النصرانية واليهودية من جهة أخرى، فلا هيمنة لكتاب الله على ما قبله، بل كل الأديان سماوية، إذاً كلها سواء.

 

ويزيد الأمر وبالاً على وبال، حتى صار الغرب الكافر اليوم هو وأذنابه يرفضون "الآخر"، نعم هم أوجدوا فكرة "الآخر" المزعومة وهم اليوم ينكرون هذه الفكرة، إذ صاروا ينظرون إلى فكر الغرب المسموم على أنه وحده الموجود، وما دونه إنما هي هرطقات يجب القضاء عليها.

 

فلا آخر أمام الديمقراطية، وكل من يعادي الديمقراطية يجب القضاء عليه؛ لأنه لا يصح أن يكون هناك آخر في ظل وجود الديمقراطية، وتحت مسميات الحرب على الإرهاب، والقضاء على التطرف الأيديولوجي صار الغرب يحارب فكرة "الآخر"، فلا آخر مع الديمقراطية عندهم، فهل يعقل أصحابنا هذا؟ وهل أدركوا اللعبة؟

 

اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول ما قلت فإن كان صواباً فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفاراً...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: إن أمّتنا تعيش مرحلةً جديدة في تاريخها، في هذه المرحلة الحرجة تقع أمّتُنا وعقائدُها تحت ضغوط رهيبة، تكاد تجتثّها من أساسها لولا قوّةُ دينها وتأييدُ ربّها -عز وجل-.

 

ومن هذه العقائد التي وُجّهت إليها سهامُ الأعداء، وانجرَّ وراءهم بعضُ البُسطاء، واندفع خلفهم غُلاةٌ وجُفاة، وبالغ في تصويرها محبو الشهرة والبروز: "عقيدةُ الولاء والبراء".

 

زاد الأمر خطورةً عندما غلا بعضُ المسلمين في هذا المعتقد إفراطاً أو تفريطاً، وأصبح هذا المعتقدُ مَحَلَّ اتّهام، وأُلْصِقَتْ به كثيرٌ من الفظائع والاعتداءات.

 

نحن المسلمين أصحابُ دين ومنهج، ربنا وخالقنا هو الله، ونبينا وقدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

نحن المسلمين أصحاب عقيدة صافية تدكدك كل معلم أو إشارة تنبئ عن الميول والروغان عنها.

 

نحن المسلمين لا ينقطع بنا الدرب، ولا يفوتنا الركب، ولا تنهار بنا القوى، ولا تيبس لدينا أوراق الهدى.

 

نحن المسلمين أنصار الدعوة إلى السنة والعقيدة الصحيحة مهما علا صوت الباطل، ومهما ظهرت نواقيس العداء.

 

نحن المسلمين خرج منا علماء ربانيين، أناروا طريق السالكين، وأرشدوا كل التائهين، وهدوا كل الحائرين، وتميز في صفنا علماء جهابذة في العلوم الطبيعية والعلوم التقنية وفي العلوم "الآخر"ى.

 

نحن المسلمين رزقنا الله بالتوحيد الخالص الذي نوّر الله به كلِّ أفقٍ وبقعة في هذه الديار، فازدهرت الأرض به بعد قحْط، وارتوت به بعد ظمأٍ وهلكة، وأنقذ الله به عباده من ظلمات الجهل والشرك والتذلل لغيره -سبحانه-.

 

نحن المسلمين أصحاب لا إله إلا الله، نرجو بها السعادة والفلاح في الدنيا و"الآخر"ة.

 

نحن المسلمين لا يخفى علينا أن الولاء والبراء محطّ إجماع بين جميع أهل القبلة، بل هو معتقدٌ لا يخلو منه أتباعُ كل دين أو مذهب.

 

وعلى هذا فالولاء شرعاً، هو: حُبُّ الله -تعالى- ورسوله، ودين الإسلام، وأتباعِه المسلمين، ونُصْرةُ الله -تعالى- ورسولِه، ودينِ الإسلام، وأتباعِه المسلمين.

 

والبراء، هو: بُغْضُ الطواغيت التي تُعبَدُ من دون الله -تعالى- من الأصنام الماديّة والمعنويّة، كالأهواء والآراء، وبُغْضُ الكفر بجميع ملله وأتباعِه الكافرين، ومعاداة ذلك كُلِّه.

 

هذا هو معنى الولاء والبراء في الإسلام.

 

فهو معتقدٌ قلبيٌّ، لابُدّ من ظهور أثره على الجوارح كباقي العقائد، التي لا يصح تصوُّر استقرارها في القلب دون أن تظهر على جوارح مُعتقِدِه، وعلى قَدْر قوّة استقرارها في القلب وثبوتها تزداد دلائل ذلك في أفعال العبد الظاهرة، وعلى قَدْرِ ضعف استقرارها تنقص دلائلها في أفعال العبد الظاهرة، فإذا زال هذا المعتقد من القلب بالكلية زال معه الإيمانُ كُلّه.

 

أيها المسلمون: إن الولاء والبراء مع أنه مطلب شرعي عقدي إلا أنه أيضاً مطلب فطري وعقلي، فلا نجد جنساً من الأجناس يرتبطون برابط من الروابط إلا وتظهر عليهم هذه الصفة، حيث يوالون بني جنسهم، ويعادون من يعاديهم حتى في عالم الحيوان والطير، والكفار أنفسهم ينطلقون في ولائهم وبرائهم من هذا المنطلق، وقد أعلنها طاغوتهم حينما قال: "من لم يكن معنا فهو ضدنا".

 

هذا هو ولاء الكفار وبراؤهم، لكن المسلمين يتميزون عن جميع الأجناس بأن عقيدة الولاء والبراء تنطلق من كلمة التوحيد، فمن كان من أهلها فهو ممن يحبه الله -تعالى-، فنحب من يحبه الله -عز وجل-، ومن كفر بها أبغضه الله، وأصبح عدواً لله، فحينئذ نبغضه؛ لأن الله يبغضه.

 

أما بقية الأجناس "الآخر"ى؛ كالحيوان والكفار، وأصحاب الروابط الجاهلية من بني آدم، فهم يوالون ويعادون على الماء والتراب، والمرعى والمصالح الدنيوية.

 

والمسلمون يوالون ويعادون في الله -تعالى-، وهذا هو ما يزعج الكفرة والمنافقين، حيث يريدونها روابط جاهلية عصبية، لا دخل للدين فيها.

 

أيها المسلمون: الكفار "الآخر"ون" هم أعداؤنا قديماً وحديثاً، سواء كانوا كفاراً أصليين كاليهود والنصارى أو مرتدين، قال الله -تعالى-: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً)[آل عمران: 28].

 

فهذه حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن "الآخر"ين "الكفار" دائماً وأبداً هم أعداؤنا وخصومنا، كما قرر ذلك سبحانه، فقال عنهم: (لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً)[التوبة: 10].

 

وقال تعالى: (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ)[البقرة: 105].

 

ولكي يطمئن قلبك، فانظر إلى التاريخ في القديم والحديث، وما فعله "الآخر" في الماضي، وما يفعلونه في هذه الأيام، وما قد يفعلونه مستقبلاً.

 

فيجب على الدعاة إلى الله -تعالى-: أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، وأن تقدم البرامج الجادة للمدعوين من أجل تحقيق عقيدة الولاء والبراء، ولوازمهما، وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله -تعالى-، والسيرة النبوية، وقراءة كتب التاريخ، واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر القديم والحديث، والكشف عن مكائد الأعداء ومكرهم المنظم في سبيل القضاء على هذه الأمة ودينها، والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء، كالإنفاق في سبيل الله، والتواصل واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن، ومتابعة أخبارهم، ونحو ذلك.

 

وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد، مقتنعين بأنهم يخوضون المعركة لله، ليس لأنفسهم ولا لذواتهم ولا لقومهم ولا لجنسهم ولا لقرابتهم وعشيرتهم، إنما هي لله وحده ولدينه وشريعته.

 

هذا هو الموقف بين المؤمن و"الآخر"، لا معاونة ولا مناصرة، ولا مداهنة ولا مجاملة، ولا تعاون ولا تمازج، ولا تميع ولا تطبيع، ولا صداقة ولا تداخل، ولا شراكة، ولا حتى مشابهة.

 

لا بد أن تكون هذه هي العلاقة رضينا أم أبينا، فإن العداوة للمسلمين، والكيد للمسلمين، والغدر بالمسلمين، والخداع للمسلمين، هي صفات لازمة للآخر، مهما كانوا وأين وجدوا، ولا ينبئك مثل خبير، فهذا العليم الخبير ينبئك بصفاتهم وسلوكهم تجاهك -أيها المسلم-: (هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ)[آل عمران: 119].

 

(إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)[الممتحنة: 2].

 

(مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ)[البقرة: 105].

 

فما هو موقفك -أيها المسلم- من "الآخر"؟ ما هو موقفك تجاه من يكرهك؟ ما هو موقفك تجاه من يعاديك ويحقد عليك؟ ما هو موقفك -أيها المسلم- تجاه من يضمر لك الكيد، ويحمل لك الحسد؟

 

(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا)[النساء: 138-139].

 

أيها المسلمون: لقد رأينا موقف "الآخر" في الإساءة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومع الأسف لم يفتأ كثير من الليبراليين والعلمانيين يُسبّحون ليل نهار بحمد "الآخر" الذي رضعوا من ثديه، ثم أجلبوا على الأمة به، وكأنها لا تستطيع العيش إلا بهذا "الآخر" ولا تتنفس إلا برئتيه، ولا تسمع ولا ترى ولا تفقه إلا بوجوده، وتحت ناظريه.

 

واستغل أولئك القطيع قضية الإرهاب المفتعلة لتذويب قاعدة الولاء والبراء من قلوب المسلمين، حتى طال التذويب شيئاً من مناهج التربية والتعليم والتوجيه، وانطلقت أطروحاتهم الشاذة تدس السم في العسل تحت عناوين: "حوارنا مع "الآخر" "التفاعل مع "الآخر" "التعايش السلمي مع "الآخر" و"الانبطاح للآخر".

 

فجاءت الفضيحة الدنمركية لتصيب هذا القطيع الليبرالي والقطيع العلماني في مقتل قبل أن تصيب الأبقار الدنمركية، واتحدت الأمة صفاً واحداً صغيرها وكبيرها موالية لنبيها -صلى الله عليه وسلم- مضحية بمالها وملذاتها من أجل الانتصار لعرضه عليه الصلاة والسلام معلنة البراءة ممن تجاوز على عقيدتها وثوابتها بتطبيق عملي مباشر جعل البقر وأشباه البقر تندم على ما فعلت.

 

إن هذا الحدث برغم فظاعته في حق نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلا أنه أيقظ عقيدة هامة جداً في حياة الأمة، عقيدة الولاء والبراء التي سعى بقرنا الليبرالي، وبقرنا العلماني لوأدها في مهدها، واستخدموا لذلك أساليب ملتوية ماكرة، ودبّجوا المقالات واللقاءات والندوات والحوارات، فاحترقت كلها في ساعة من نهار.

 

إنا ونحن إذ نقاطع الأبقار الدنماركية اقتصادياً، بحاجة أيضاً إلى مقاطعة أبقارنا الليبرالية، وأبقارنا العلمانية فكرياً، فكلهم بقر: (إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا)[البقرة: 70].

 

اللهم ...

 

 

 

المرفقات

والآخر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات