هشام سيد محمد أبو الخير
الحمدُ لله الذي خلَق الكون من العدم، وصلَّى الله وسلَّم على مَن أرسله الله رحمة لجميع الأمم.
فلا يكاد المرء يعرف في عصر من العصور السابقة بُروز ظاهرةِ الإلحاد كما عُرف في العصر الحديث، فلم يثبُت أنَّ أمةً من الأمم الماضية انتهجت الإلحادَ مسلكًا وألقَت الدين أرضًا؛ إذ كل الحضارات القديمة تشهد لها معابدُها بمكانة الدين في نفوسهم وتأثيره في قيام حضارتهم، حتى قال المؤرِّخ الإغريقي بلوتارك: لقد وجدتُ في التاريخ مدنًا بلا حصون، ومدنًا بلا قصور، ومدنًا بلا مدارسَ، ولكن لم توجد أبدًا مدن بلا معابد.
والمعنى نفسه يؤكده الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون حيث يقول: لقد وُجِدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علومٍ وفنون وفلسفات، ولكنه لم توجد قط جماعة بغير دِيانة[1].
إذًا فلم يكن لهذه الفكرة أي رواج في تواريخ العالم القديم، وهذا يدحض قولَ فولتير من أن الإنسانية لا بد أنها عاشت قرونًا متطاولة في حياة مادية خالصة، ثم اخترع الدهاةُ الماكرون فكرة الألوهية لخداع البسطاء والسذَّج[2].
إنما عُرف الإلحاد عن أفراد قلائل لم يصلوا إلى مجرد ظاهرة، فضلًا عن أن يكونوا أمةً من الناس، بل إن الذين حُكي عنهم إنكارُ الخالق لم ينفوا الإلهية بالكلية، وإنما نسبوها إلى أنفسهم؛ كفرعونَ حاكم مصر، والنمرود بن كنعان، كما قصَّ القرآن خبرهم.
وأكثر فلاسفة العالم القديم كانوا يقرون بألوهية الله، ومنهم أشهر فلاسفة اليونان، مثل: سقراط وأفلاطون وأرسطو، ولم يكن الإلحاد إلا مذهبَ قلةٍ من المدرسة الأيونية المادية، وأعلامها طاليس الذي ردَّ العالم إلى أصل الماء، أو إنكسمانس الذي ردَّه إلى الهواء[3].
إن هذا الأمر يعدُّ من أبلغ الأدلة على أن الفطرة مغروزةٌ في قلب الإنسان منذ نشأته على هذه الأرض، تلك الفطرة التي تهتف به: أن لهذا الكون خالقًا عظيمًا.
وهذا ما اعتَرَف به معجم لاروس للقرن العشرين بأن الغريزة الدِّينية مشتركة بين كل الأجناس البشرية، حتى أشدها همجيةً، وأقربها إلى الحياة الحيوانية[4].
بل إنك تجد أن قصة الطوفان العظيم الذي أخبرنا الله عنه مع نبيه نوح عليه السلام لا تكاد تخلو أدبيَّات أمةٍ من الأمم من هذه القصة؛ فقد وُجِد لها آثارٌ في الحضارات القديمة في بلاد الرافدين واليونان، والهند والصين وفارس وغيرها، مع اختلاف في تفاصيلها.
وذلك لأن كلَّ الأمم ورِثت حقائق الطوفان ممن شاهدوه وكتبوه؛ لأنه لم يبقَ إلا مَن نجوا من الغرق، وتفرَّق بعده الناس جماعاتٍ في بلاد شتى.
وما زال الملحدون لا يجدون مفرًّا من الحقيقة الواضحة، فلما لم يجدوا أمةً في الماضي تحاكي إنكارَهم ابتكروا نظرية نشأة الأديان؛ فادَّعَوْا أن الإنسان إنما وُجِد وهو يخشى من قوى الطبيعة فلجأ إلى تأليه بعض منها ليحتميَ بها من أهوال المخاوف، فصنع لنفسه آلهةً كثيرة، ومع مرور الأزمان تطور عقله إلى اختزال الآلهة في ثلاثةٍ فاعتقد التثليث، ثم تطور إلى جعلهما إلهين اثنين كالمجوسية، ثم انتهى إلى الاعتقاد بإله واحد، ثم ها هو الإنسان الآن يرتقي في نظرهم إلى التجرد من اعتقاد الألوهية.
والحق أن الإنسان نشأ موحِّدًا على الفطرة، ثم طرأ عليه الشرك والوثنية، فكان التوحيدُ هو الأصلَ، والوثنية طارئة عليه، وليس العكس.
وكل ما قالوه في ذلك إنما هو لأجلِ إنكار الفِطرة التي فطر الله الناس عليها، وتبرير مسلك الإلحاد العقيم، مع أن الدياناتِ التوحيدية وُجِدت منذ القِدم، وفي عصرنا ما زالت الوثنية عقيدةَ الملايين من الناس في العالم المتحضِّر، وكذلك التثليث.
وحتى بعد انحراف البشرية عن التوحيد الحق واللجوء إلى الوثنيات والاعتقاد بتعدُّد الآلهة، فإنهم مع ذلك كانوا يقرُّون بوجود الخالق جلَّ وعلا، ويصفونه ببعض صفاته اللائقة له؛ كالخَلْق والرزق والتدبير، وإنما جعلوا هذه الآلهة بمثابة أجزاء متبعِّضة أو متَّحدة أو وسائل للزُّلفى إليه، فلم تكن رسالة عامة الرسل لإثبات الخالق، بل لإرشادهم إلى توحيده وعبادته وحدَه دون سواه، ونبذ الآلهة المزيَّفة التي جعلوها مشارِكةً له أو مُوصلةً إليه.
فالذين عبدوا الملائكة اعتبروهم بناتِ الله - تعالى الله عما يقولون - ومثلُهم الصابئة الذين اعتبروا الكواكب أجزاءً تناثرت من الإله، أو تجلِّيات الإله، وكانت الأصنام في الغالب أسماءً لأُناس صالحين جزِع الناس لموتهم فاتخذوهم آلهة يتقربون بهم إلى المعبود الأعلى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3].
وقد يُشكِل على بعض الباحثين كلام الله تعالى عن المنكرين للبعث بعد الموت؛ حيث أطلق عليهم بعضُ المفسِّرين اسمَ (الدهرية)، وعدَّهم المعاصرون من طوائف الملاحدة القائلين بقِدم العالم وإنكار الصانع؛ وذلك لأنهم يقولون: إنه لا يُهلِكهم إلا الدهر، والحقيقة أن جملة المشركين كانوا يستعظمون على الله إحياءَ الموتى، مع إيمانهم بأنه خلق الخَلْق سبحانه ودبَّر أمرهم؛ لذا نجد أنه قيل في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] أقوال، منها: ما يهلكنا إلا الموت؛ قاله قُطرب، واستدلَّ بقول الشاعر:
أمِنَ المَنونِ ورَيبِها تتوجَّع ♦♦♦ والدهرُ ليس بمعتبٍ مَن يجزعُ
وقال عكرمةُ: وما يُهلكنا إلا اللهُ[5].
ولما جاء أُبيُّ بن خلَف يتهكَّم بعَظْم أمام النبي صلى الله عليه وسلم كما في آخر سورة (يس) كان الجواب عليه قوله تعالى: ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [يس: 79][6]، فلو لم يكن يؤمن بالخالق الذي خلَقه أول مرة لمَا كان في الاحتجاج بها فائدة! ولهذا قال الزَّجَّاج في قوله: ﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ [يس: 81]؛ أي: إذا كنتم قد أقررتم بالإنسان والابتداء، فما تنكرون من البعث والنشور؟! وهذا قولُ كثيرٍ من الناس، وهو بيِّن واضح[7].
فالحاصلُ أن مشركي العرب كانوا - في المجمل - يُنكرون البعث والنشور مع إيمانهم بالله، وهذا يشبه إنكارهم أن يرسِلَ اللهُ بشرًا رسولًا منهم، وذلك ظنهم بالله ظنَّ الجاهلية.
فلم يكن بين العرب ملاحدةٌ بمعنى إنكار الخالق، وهذه نقطةٌ تحتاج إلى بحث وتدقيق في نسبة هذا المعتقد إليهم، وهم في الحقيقة بُرَآءُ منه.
نخلُصُ مِن ذلك إلى أن الإلحاد غريب عن البشرية، غريب عن النفس الإنسانية، ومع هذا فإن المرءَ يعجَبُ من ظهوره في هذا العصر بصورة لافتة للنظر حتى أصبح سمة بارزة وظاهرة تحتاج إلى دراسات، بل أصبح يتصدر نسبًا عالية في بعض البلدان، وصلت في أمريكا إلى 25%، وبعضها وصل إلى 45%.
ويبدأ ظهور موجات الإلحاد الفعلية أعقابَ الثورة الفرنسية، وتحرُّر دول أوربا من سلطة البابوية وهيمنة الكنيسة على عقول الناس، حتى الطبقة الحاكمة منهم.
ومما يؤسَفُ له ظهورُ هذه الموجات الإلحادية في البلاد العربية؛ فهذا أغرب مِن سابقه؛ لأن الدِّين كان - وما زال - جزءًا من هُوية العربي لا تنفكُّ عنه بحال.
وهذا الظهورُ يرجع إلى أسبابٍ تحتاج إلى تفصيل، وإنما يبحَثُ هذا المقالُ في تاريخ الإلحاد، وليس في أسبابه ودوافعه.
[1] انظر كتاب الدين؛ د. عبدالله دراز ص83.
[2] المصدر السابق ص80.
[3] تاريخ الفلسفة اليونانية؛ ولتر ستيس ص29 وما بعدها.
[4] معجم لاروس مادة: (Religion) نقلًا من كتاب الدين؛ د. عبدالله دراز.
[5] انظر تفسير القرطبي 16 /170 - 171 دار الكتب المصرية.
[6] انظر: تفسير الطبري: 20 /553، مؤسسة الرسالة.
[7] معاني القرآن للزجاج: 1 /377.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم