نار وطين

الشيخ إبراهيم بن سعد العامر

2023-07-23 - 1445/01/05
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

شريعة الله وأوامره الثّابتة ليست رأيا من الآراء، إنها الأمر المُبَجَّل الذي استمد قُدسيّته من العزيز الذي شَرَعه، واسْتقى عظمتَه من العظيم الذي أمَر به، إنها شريعة الجبّار صاحب الكبرياء، والمُهيمن الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء!

مُذْ جاءَه الأمْر، وقلبُه يَشْتعل حسَداً، قدْ أضْمر في نفْسِه العصْيان، وعنْدما يَحين الوقت وفي مَنْظر مَهِيب، تَخِرُّ الملائكة سُجّدا؛ اسْتجابة لأمْر اللَّه؛ (إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ * فَسَجَدَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ  كُلُّهُم  أَجۡمَعُونَ)[ص: 72-71].

 

جَميعهُم ساجد إلّا واحدًا بَقِي مُنْتَصِبًا، قدْ انْتفخَ رأسُه كِبرا؛ (إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ)[ص: 74]،  (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِی مِن نَّارࣲ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِینࣲ)[الأعراف: ١٢]، (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)، إبليس مُعْتَرضًا، كيف يُؤَمَر الفاضلُ بالسُّجود للمفْضُول؟

فالنَّار أشْرَف من الطّين، فيها القُوَّة والنُّور والصَّفَاء والتَّطْهير، وغَفَلَ المِسْكِين أنَّ حُجَّتَه يَنْقَضّ آخرَهَا أوَّلُها؛ فمن أمره بالسُّجود لآدم هو الذي خَلَقَه من نار ووهَبَه الفضْل الذي يَزْعُمُه عَمِيَ قلبُه، ولمْ يَنْظُر إلى الشّرف العظيم الذي حبَاهُ اللهُ آدم؛ (قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِیَدِ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ وَا⁠سِعٌ عَلِیمࣱ)[آل عمران: ٧٣]، وهو أنّه سبحانه  خَلَقَهُ بيَدِه، (لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ)[(ص: 75]، ونَفَخ فيه من رُوحِه؛ (وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي).

 

اسْتِكبَارُه مَنَعه من رُؤْية الأمر على حقيقته، هو يراه كما يتمَنَّاه!

 

 ففي النَّار الخِفَّة والطَّيش والاضْطِراب والحَرْق والإتْلاف، وهي لا تقُوم بنفْسِها، فخُمودُها يَكون بانطِفاء الأجسام المُلهبة لها، أمّا الطّين ففِيه الثَّبات والأَناة والسُّكون، فيه يَسْتقِرُّ الماء، ومِنْه يخْرج الزَّرع؛ فالطّين رَمْزٌ للحياة والنَّار رَمْز للهلاك.

 

هل غره ما عرفه من حلم الله ورحمته، وهل ظن المسكين أنه بمأمن عن مقت الله، وبعيد عن غضبه؛ (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِیمِ).

 

هل كان يتوقع تلك العقوبة من الطرد الأبدي عن رحمة الله، والخلود في نار جهنم؟! (قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِیمࣱ * وَإِنَّ عَلَیۡكَ لَعۡنَتِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلدِّینِ).

 

هل ظن أنه آمن من مكر الله؟ (أَفَأَمِنُوا۟ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا یَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ).

 

 حَلَّت اللّعنة، ونَزلَت النِّقْمَة، وجَرى القلم!

 

 لا يُعرف خذلان أعظم من هذا، فإبليس من أَعْلم الخلق بالله، وها هو يدعوه بربويته فيقول (ربي) لا ليعفو عنه، بل لِيُنظِرَه إلى يوم الدين، وما كان الحقير ليوفق للتوبة؛ فقد علم الله مِنْه ذلك قبل أن يخلقَه؛ (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرۡنِیۤ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ)، ثم يعظم خذلانه حين يقسم بعزة الله على معصيته فيقسم أن يغوي عباده؛ (قَالَ رَبِّ بِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأُزَیِّنَنَّ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِیَنَّهُمۡ أَجۡمَعِینَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ).

 

واعجبا لنار وطين أوْبَقَت صَاحبها في دِينه ودنياه!

 

واعجبا لنار وطين أخْرجت صاحبها من جنات الخلود!

 

واعجبا لنار وطين نقلت صاحبها من شرف العبادة إلى ذل المعصية ومن نور الإيمان إلى دياجير الكفر!

 

واعجبا لنار وطين أحَلَّت بصاحِبها اللّعائن و أورثَتْه النِّقَم!

 

يريد إبليس وأتباعه أن يكون الموضوع موضوع نار وطين، بينما هو في حقيقته كبر أَرْدَى صاحبَه، وعقل أهْوى به إلى الهلاك!

 

نار وطين ما كانت على عِظَمها معصيةً مُجرّدة.  

 

حقيقتُها عقل طائِش صَيَّر العبد نِدًّا لسيده، وبصيرة عمياء جعلت المخلوق شريكا لخالقه، يَقْبل ويرفُض، ويُعرِض ويَعْترِض، ويريد أن تكون أوامر الله على هواه، لا كما يريدها الحكيم -سبحانه-!

 

شريعة الله وأوامره الثّابتة ليست رأيا من الآراء، إنها الأمر المُبَجَّل الذي استمد قُدسيّته من العزيز الذي شَرَعه، واسْتقى عظمتَه من العظيم الذي أمَر به، إنها شريعة الجبّار صاحب الكبرياء، والمُهيمن الذي لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء!

 

 الشريعة الربّانية، والأوامر الإلهيّة أشْرَف من أن يُخَطِّئَها حَقير، وأكبر من أن يُصَوِّبَها صغير، وأجَلّ من أن يَعِيبَها غَرير!  

إنما هي أمر الله العزيز الحكيم وانصياع العبد أو تمرده، فثواب أو عقاب.

 

ولايزال العبد بخير وإن غلبته نفسه وطغت عليه شهوته، مادام مقرا بذنبه، راجيا عفو ربه متأرجحا بين معصية وتوبة، ولكن الويل لمن كان لشريعة الله مُخَطِّئا، وبحكمته مُشَكّكا؛ (وَیُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِیرُ)[آل عمران: ٢٨].

 

 

                                         كتبه إبراهيم بن سعد العامر 21 ذي القعدة 1444للهجرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات