مُجَاهِدٌ العَامِري (فَاتِحُ جَزِيرَةِ سَرْدَانِيَة)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

ومن شدة براعته ذهب كثير من المؤرخين مثل: ابن خلدون، وابن الآبار، وغيرهم أن مجاهد العامري كان من موالي العرب، ولم يكن من الصقالبة، ويكفي أن ندلل على حبه للقرآن واللغة؛ أن بلاط قصره كان يضم أساطير العلم في شتى الفروع مثل: أبي عمرو الداني صاحب القراءات المشهور، وأبي عمر بن عبد البر المالكي صاحب كتاب الإجماع، وابن سيده اللغوي الشهير صاحب كتاب المحكم، وقد أشادت التواريخ المعاصرة واللاحقة بخصال مجاهد العامري، وعبقريَّتِه الحربية والسياسية، ومآثره العلمية والأوروبية.

 

 

 

 

يعتبر عصر ملوك الطوائف أهم وأخطر عصور تاريخ دولة الإسلام في الأندلس، فهو التاريخ الأكثر تشعبًا واضطرابًا وتأثيرًا على باقي عصور التاريخ الأندلسي، هذا على الرغم من أنه يشغل فقط زهاء سبعين أو ثمانين سنة من عمر دولة الإسلام في الأندلس والذي يتجاوز الثماني قرون، والعجيب في شأن عصر ملوك الطوائف العامر بالسلبيات، والآثار السيئة أنه جاء بعد أن بلغت الأندلس ذروة القوة والتماسك في ظل رجال عظام في النصف الثاني للقرن الرابع الهجري، أمثال: عبد الرحمن الناصر، والحكم المستنصر، والحاجب المنصور، وفجأة تتبدل الأوضاع، وتنحدر الدولة فجأة إلى معترك الفوضى والتفكك إلى أكثر من عشرين دويلة، شكلت عصر ملوك الطوائف، عشرون دويلة وزيادة مثل حبات المسبحة ولكن حباتها التي انفرط خيطها فتناثرت بعد أن كانت منظومة في إطار واحد.

 

 مجاهد العامري ومملكة دانية:

 

تقع مدينة دانية في شمال اللسان المثلث الممتد من ولاية لقنت في البحر الأبيض المتوسط، وهي الآن مدينة متواضعة وهادئة لا يتبادر إلى ذهن المتجول في طرقاتها العريضة التي تظلها أشجار التوت الوارفة، أن هذه المدينة كانت ذات يوم عاصمة لمملكة أندلسية بحرية كبيرة، لعبت دورًا كبيرًا في سيطرة المسلمين على الحوض الغربي للبحر المتوسط ولفترة طويلة.

 

في عصر الطوائف قامت في دانية مملكة تمتاز بموقعها الجغرافي المنعزل في شرقي الأندلس، ويمتد نفوذها ورياستها عبر البحر إلى الجزر الشرقية (ميورقة-منورقة-يابسة)، وهي بذلك إلى الصفة البحرية أقرب من البرية، وهذا الموقع البحري المنعزل؛ جعلها بعيدة عن معترك الحروب الأهلية التي اندلعت بين العناصر السكانية في الأندلس-العرب والبربر والصقالبة-كما أتاح لها هذا الموقع البعد النسبي عن تهديدات ألفونسو السادس ملك قشتالة وألد أعداء المسلمين في الأندلس.

 

كانت دانية مثل معظم قواعد الأندلس الشرقية عند اضطرام الفتنة، وسقوط الدولة الأموية من نصيب الصقالبة الذين عرفوا باسم الفتيان العامريين، وهم من ذوي الأصول الأوروبية، وقد جلبوا إلى بلاط الأندلس وهم أطفال صغار حيث تم تربيتهم تربية عربية إسلامية، فهم بذلك يشبهون المماليك البحرية، الذين أقاموا دولة عظيمة ورثت الدولة الأيوبية في منتصف القرن السابع الهجري، وقد نسبوا إلى أستاذهم ومعلمهم الحاجب المنصور بن أبي عامر أعظم حاكم مسلم ظهر في القرن الرابع الهجري.

 

ويعتبر مجاهد العامري من أفضل وأعظم هؤلاء الفتيان الصقالبة، فقد رباه المنصور، وعلمه، وأدبه، واستعمله؛ لما رأى فيه مخايل النجابة والذكاء، وكان مجاهد العامري صاحب شخصية قوية مخلصة، فعله كاسمه، محبًا للجهاد، تشربت نفسه وقلبه بحب الإسلام والعمل من أجله، أضف لذلك أنه قد برع في علوم اللغة العربية، وعلوم القرآن والقراءات، ومن شدة براعته ذهب كثير من المؤرخين مثل: ابن خلدون، وابن الآبار، وغيرهم أن مجاهد العامري كان من موالي العرب، ولم يكن من الصقالبة، ويكفي أن ندلل على حبه للقرآن واللغة؛ أن بلاط قصره كان يضم أساطير العلم في شتى الفروع مثل: أبي عمرو الداني صاحب القراءات المشهور، وأبي عمر بن عبد البر المالكي صاحب كتاب الإجماع، وابن سيده اللغوي الشهير صاحب كتاب المحكم، وقد أشادت التواريخ المعاصرة واللاحقة بخصال مجاهد العامري، وعبقريَّتِه الحربية والسياسية، ومآثره العلمية والأوروبية.

 

 وقد وصفه كبير مؤرخي الأندلس أبو مروان بن حبان، وكان معاصرًا له فقال :"كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره؛ لمشاركته في علم اللسان، ونفوذه في علم القرآن، عني بذلك من صباه، وابتداء حاله إلى حين اكتماله، ولم يشغله عن التزيد، عظيم ما مر به في الحروب برًا وبحرًا، حتى صار في المعرفة نسيج وحده "  هذه الأوصاف الجليلة صدرت من قلم مؤرخ عرف بشديد انتقاده لملوك الطوائف؛ لأنه قد عاصرهم، ورأى كثيرًا من جرائمهم، ومظالمهم بحق الأمة الإسلامية، لذلك لا يشكك أحد أبدًا في مصداقية كلام ابن حبان في حق الأمير مجاهد العامري.

 

مجاهد العامري استطاع-وقت اندلاع الحرب الأهلية في الأندلس-أن يستقل بحكم دانية وذلك سنة 406هـ، ومنها وثب على الجزر الشرقية (جزر البليار الآن)، وقد استعمل ذوي الكفاءة والصلاح؛ من أجل توطيد حكمه على مملكة دانية، وذلك ليتفرغ هو إلى تحقيق حلمه الطموح، ومشروعه الضخم الذي كان يخطط له منذ فترة.

 المشروع الضخم، في الوقت الذي كان فيه أمراء، وكبراء، وقادة الأندلس يخوضون غمار المنازعات والحروب الأهلية المقيتة على السلطة والنفوذ، كان مجاهد العامري يفكر في مشروع ضخم من أعظم مشاريع أمراء الطوائف قاطبة، ذلك هو غزو جزيرة سَرْدَانِيَة، وفتحها، وضمها للدولة الإسلامية في الأندلس، وكان مجاهد العامري من أعظم بحارة عصره، وخاض قبل ذلك الكثير من المعارك البحرية في مياه البحر المتوسط، لذلك لما تمت له السيطرة على جزر البليار أو الجزر الشرقية، وأصبحت مملكته ذات صفة بحرية كبيرة؛ قرر الاستفادة من خبراته ومن موقع مملكته في تحقيق مشروعه الطموح.

 

بدأ مجاهد الإعداد لغزوته البحرية الجريئة؛ بتجديد دار صناعة السفن، وكانت بدائية، وضاعف من طاقتها الإنتاجية، ونوَّع من أحجام السفن الجديدة، واستكثر من شراء المعدات الحربية، وآلات القتال والحصار، ولم يمض وقت قصير حتى غدا أسطول دانية من أعظم وأكبر الأساطيل الأندلسية.

 

كانت جزيرة سَرْدَانِيَة من أكبر جزر البحر المتوسط إذ تبلغ مساحتها 24089كيلو متر، وتقع إلى الجنوب الغربي من إيطاليا، وكانت موضع اهتمام المسلمين مبكرًا منذ فتح الأندلس، فقد غزاها المسلمون لأول مرة سنة 711م أيام موسى بن نصير، ثم توالت الغزوات سنين 813، 816، 817، 838م، بيد أن كل هذه المحاولات كانت غزوات عارضة، لم تحقق الاستقرار الدائم والفتح الكامل، وكانت المقاومة العنيفة التي يبديها أهل سردانية حائلاً دون الفتح والاستقرار.

 

حشد مجاهد العامري أسطولاً كبيرًا قوامه مائة وعشرون سفينة، وشحنها بالمجاهدين، والبحارة، والأبطال، وانطلقت السفن المجاهدة من ثغر دانية في ربيع الأول سنة 406هـ - أغسطس 1015م، وكانت المسافة بين دانية وجزيرة سردانية مسيرة ثمانية أيام بحرًا، وكانت سردانية، في الأصل تتبع الدولة البيزنطية، فلما ضعفت البحرية البيزنطية وانطلقت السيادة البحرية للمسلمين؛ أصبحت سَرْدَانِيَة تحت حكم اللونبارد، ثم حكم الفرنج، غير أن كلها كانت تبعية اسمية فقط، والحل والعقد في أيدي أمراء محليين، وقضاة وطنيين، ونظرًا لطبيعتها الوعرة وشجاعة أهلها الجبليين، لم يحاول أحد من الغزاة إحكام سيطرته على الجزيرة.

 

الحملة التي سيرها مجاهد العامري كانت تختلف عن غيرها من الحملات الإسلامية، فقد كانت تمتاز بالضخامة والعزم الراسخ على الفتح والاستقرار، وتكرار تجربة صقلية التي فتحها المسلمون سنة 213هـ وأقاموا فيها حضارة إسلامية مزدهرة شع نورها على أوروبا والعالم الغربي كله، لذلك فإنه ما كادت السفن الإسلامية ترسو على شواطئ الجزيرة من ناحية الجنوب عند خليج كالياري؛ حتى شق المجاهدون طريقهم إلى الداخل بمنتهى القوة، ووقعت بينهم وبين أهل الجزيرة معارك شديدة وعنيفة، قتل خلالها قائد الجزيرة واسمه (مالوتو)، وغنم المسلمون غنائم ضخمة، وأحكموا قبضتهم على الجزيرة على الرغم من المقاومة العنيفة التي لاقوها وذلك في ربيع الثاني سنة 406هـ.

 

شرع الأمير مجاهد العامري في توطيد الوجود الإسلامي في الجزيرة، وقد قرر البقاء فيها لفترة، حتى يحقق الاستقرار، واختط مدينة واسعة شرع في بنائها، وانتقل إليها بأهله وولده؛ ليشجع الناس على الاستقرار، وليرهب أعداء الإسلام بالتواجد الكامل بالمال والعيال، غير أن المقاومة الداخلية لم تنقطع ضد الوجود الإسلامي.

 

أدى وقوع فتح جزيرة سَرْدَانِيَة في قبضة المسلمين لردة فعل عظيمة في أوروبا عامة، وفي إيطاليا-حيث كرسي البابويه-خاصة، فقد ارتجت أوروبا لفتح سَرْدَانِيَة، وزاد في خطورة الحدث عند أوروبا: أن مجاهد العامري قد أخذ في شن غارات قوية على شواطئ الجمهوريات الإيطالية التجارية (جنوة – بيزة – نابولي – أمالفي)، وكانت تلك الجمهوريات من القوى البحرية الكبرى في البحر المتوسط، ولها مصالح تجارية ضخمة تحرص على حمايتها، لذلك أعلن البابا بندكتوس الثامن الحرب الصليبية ضد المسلمين، فلما وصلت أخبار تلك الحرب إلى مجاهد العامري أرسل إلى البابا كيسًا مملوءًا بحبات القسطل الصغيرة، معلنًا أنه سوف يلقه بعددها رجالاً، فرد عليه البابا بكيس مملوءٍ بالحشائش الرفيعة، قائلاً أنه سوف يلقه بعددها ممن يرتدون الخوذات.

 

أقبلت الأساطيل الصليبية المتحدة إلى شواطئ سردانية، فلما سمع أهلها الخبر ثاروا ضد المسلمين، وأصبح المسلمون بين المطرقة والسندان، أضف إلى ذلك هبوب عواصف عاتية؛ حطمت معظم قطع الأسطول الإسلامي، وفقد مجاهد معظم رجاله بين قتيل وغريق وأسير حتى أن زوجته وأهله وولده الوحيد (علي إقبال الدولة)، قد وقعوا في الأسر، ولم ينج سوى بضع سفن، عاد بها مجاهد العامري إلى سَرْدَانِيَة، وهو يخطط للعودة مرة أخرى.

 

ظل مجاهد العامري يغزو الشواطئ الإيطالية والفرنسية مرات كثيرة؛ حتى أصبح مثل الكابوس الذي يقلق مضاجع الأوروبيين، وجعلوا منه شخصية أسطورية مروعة، كتبوا عنه القصص والروايات، وقد أطلقوا عليه اسم ملك إفريقية، لذلك لا جرم أن يستحق مجاهد العامري لقب أعظم بحارة العصور الوسطى.  

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات