اقتباس
بعد نجاح الصليبيين في هزيمة المعسكر السلطاني، اقتحم الصليبيون بقيادة الكونت دارتوا مدينة المنصورة وهم في حالة هياج وسعار صليبي كبير، فراحوا يقتلون المسلمين يمينًا وشمالاً، وهم في حالة نشوة وسكر بما حققوه من انتصار جزئي، وهذا العمى والغرور قد دفعوا ثمنه غاليًا جدًا، وذلك أن فرقة المماليك البحرية بقيادة بيبرس البندقداري قد تجمعت خارج أسوار المنصورة، ثم أطبقت على الصليبيين من حيث لا يحتسبون، فانقلب نصر الصليبيين الوهمي إلى هزيمة حقيقية ساحقة، حتى أن المماليك قد أبادوا كل الصليبيين الذين دخلوا المنصورة وعلى رأسهم الكونت دي أرتوا الذي دفع ثمن تهوره واندفاعه..
وهي المعروفة -تاريخيًا-بالحملة الصليبية السابعة، أو آخر الحملات الصليبية الكبرى في العصور الوسطى.
انتهت الحملة الصليبية الخامسة بانتصار إسلامي ساحق، وأجبرت سواعد المجاهدين الكاردينال المغطرس (بلاجيوس) لئن يطلب الصلح نظير خروجه آمنًا على حياته التعسة، ولكن دروس تلك الحملة لم تعلم سلاطين وأمراء الأيوبيين الصغار شيئًا؛ فظلوا على سياسة التخاذل، والمهادنة من الصليبيين، في حين أشعلوا الأرض حربًا فيما بينهم على مناطق النفوذ، وحدود كل مملكة، ولكن أوروبا الصليبية قد وعت الدرس جيداً، وأخذت تعد العدة لحملة صليبية جديدة، فقد كانت الروح الصليبية متقدة وحية ولابد من استغلالها وتفريغ طاقتها، وبالتالي كان لا بد من استثمارها في حملة صليبية جديدة ضد العالم الإسلامي، وقد دفع السلطان الكامل الأيوبي ثمن تخاذله ومهادنته الأولى مع الحملة الصليبية الخامسة ثم السادسة بأن اضطر ولده نجم الدين أيوب أن يواجه الحملة السابعة والتي كانت هي السبب المباشر لنهاية حكم الدولة الأيوبية على الرغم من انتصار المسلمين الباهر فيها.
التحالف الصليبي المغولي:
في الوقت الذي كان أمراء الدولة الأيوبية الصغار يعبثون بآمن وسلام المنطقة من شمال العراق إلى الشام، ومن الشام إلى مصر، بصراعاتهم الجانبية المقيتة، في هذا الوقت كان كرسي البابويه بزعامة البابا إنوسنت الرابع، وبالتعاون مع لويس التاسع (ملك فرنسا) يجهزان لحملة صليبية كبيرة ضد العالم الإسلامي، ولكن إضافة إلى الهدف الأساسي والثابت لكل الحملات الصليبية، وهو استعادة بيت المقدس، كان لتلك الحملة هدف جديد وخطير في نفس الوقت، وهو إقامة حلف صليبي - مغولي مشترك بهدف تطويق العالم الإسلامي والقضاء عليه نهائيًا.
ومنذ أن بزغت قوة المغول في أوائل القرن السابع الهجري-تحديداً في سنة 615هـ – وكرسي البابويه والملكية الأوروبية تخطط لفكرة تحويل المغول الوثنيين إلى النصرانية، وتوظيف تلك الجحافل البربرية في الضغط العسكري على العالم الإسلامي، وكان السفارات تتردد بين لويس التاسع ملك فرنسا وخان المغول (كيوك بن أوجتاي) ثم خليفته (مانجو بن تولوي) من أجل تنسيق العمليات الحربية ضد العالم الإسلامي، حتى أن لويس التاسع لما توقف في قبرص وهو متجه إلى غزو بلاد مصر، وصلته رسالة ودية من الخان (مانجو بن تولوي) يوضح فيها استعداده لمساعدته في غزو بيت المقدس وتخليصه من أيدي المسلمين.
ونظرًا لاختلاف رؤية كل طرف لهذا المشروع الخطير، فإن الفشل كان مصير هذا التحالف، وذلك من فضل الله -عز وجل- على الإسلام والمسلمين، فالغرب الأوروبي كان يرى مشروع التحالف من ناحية دينية، وهي تحويل المغول الوثنيين إلى النصرانية، واستخدام قوتهم الرهيبة في حصار العالم الإسلامي وإبادته، في حين يراه المغول من ناحية سياسية تعني خضوع ملوك أوروبا لسلطة الخان الأعظم في قرة قورم عاصمة المغول. ثم لم يلبث المغول حتى دخلوا في دين الله أفواجًا، وصاروا من أكبر أعوان الدين وأهله، ومن أكثر الناس دفاعًا عن الأمة الإسلامية.
دمياط ولويس التاسع:
يعتبر لويس التاسع ملك فرنسا من أكثر ملوك أوروبا إيمانًا بفكرة الحروب الصليبية، وكان يختلف عن باقي ملوك وأمراء أوروبا وقتها، فلقد كان متدينًا ورعًا ملتزمًا بكل أوامر البابا والكنيسة الكاثوليكية، لذلك اعتمد عليه البابا إنوسنت الرابع في تنظيم الحملة الصليبية السابعة ،وحظى بدعاية كنيسة هائلة جعلت منه قديسًا في سابقة لم يحظى بها أي ملك أو أمير قاد أو اشترك في الحملات السابقة، ومن ثم بالغ لويس التاسع في تجهيز الحملة والاعتناء بتنظيمها، حتى أصبحت الحملة السابعة هي ذروة الحركة الأوروبية الصليبية، لذلك فقد كانت تلك الحملة آخر مجهود كبير تبذله أوروبا عسكريًا ضد المسلمين في المنطقة العربية في العصور الوسطى.
خرج لويس التاسع على رأس أسطول صليبي ضخم من ميناء مرسيليا في خريف سنة 1248م – 647هـ، وقد جعل وجهته جزيرة قبرص التي كانت تحت حكم آل لوزينان الفرنج، وهناك قضى الشتاء في تحضير الحملة واستدعاء كل من يقدر على حمل السلاح وقد صحب معه أخويه (شارل أنجو) و (روبرت دارتو) ثم لحق به بعد ذلك أخوه الثالث (كونت دي بواتييه).
وصلت الأخبار إلى سلطان مصر –وقتها- وهو الصالح نجم الدين أيوب، وذلك عن طريق صديق أبيه، الإمبراطور فريدريك الثاني، وكان من ألد أعداء البابويه، فقد أرسل إليه أحد رجاله متنكرًا في زي التجار فأخبره بتجهيزات الحملة الصليبية، بل حدد له هدف الحملة ووجهتها، وهي مدينة دمياط مجاز الصليبيين المفضل لغزو بلاد مصر.
كان السلطان نجم الدين أيوب رجلاً جلدًا قويًا صبورًا في القتال، عركته الخطوب، وسبكته الحوادث، ولكنه كان في نفس الوقت مريضًا مدنفًا، ومع ذلك لما وصلته أخبار الحملة أسرع بجيشه حتى عسكر في بلدة أشموم طناح، وأصدر أوامره بتحصين دمياط وشحنها بالمؤن والذخائر، ووضع فيها حامية من عرب بني كنانة للدفاع عنها، ثم بعث إلى نائبه بالقاهرة الأمير حسام الدين الهذباني؛ لتجهيز الأسطول المصري، واستدعاء البحارة من كل مكان في مصر والشام، ولم يكتف نجم الدين بالحامية العربية التي وضعها في دمياط، فأرسل فرقة عسكرية بقيادة الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ وأمره أن ينزل في البر الغربي لدمياط ليحول دون نزول العدو إلى الشاطئ.
الحملة الصليبية السابعة:
وصل الأسطول الصليبي إلى المياه المصرية قبالة دمياط في يونيو سنة 1249م – صفر 647هـ، فلم يمكث سوى يوم واحد، ثم هاجم بكل قوته على البر الغربي للنيل، حيث كان معسكرًا الأمير فخر الدين وفرقته، ونظرًا للتفاوت الشاسع بين الجانبين، انسحب الأمير فخر الدين بجيشه، فانسحبت معه الحامية العربية إلى المعسكر السلطاني بأشموم طناح، فلما رأى أهل دمياط هذا جفلوا من المدينة خائفين مذعورين، ومن شدة فزع الناس سواء الحامية العسكرية أو عامة الناس، فقد نسوا أن يقطعوا جسر السفن الذي يصل البر الغربي ودمياط، فعبر الصليبيون عليه واحتلوا دمياط بكل سهولة، غنيمة باردة بلا ضرب ولا طعن، وهكذا سقطت المدينة التي دوخت الصليبيين في الحملة الخامسة بمقاومتها الشرسة.
استقبل السلطان نجم الدين أيوب خبر سقوط دمياط وهو على فراش المرض بمزيج من الألم والمرارة والغضب، فأمر بإعدام عددٍ من الفرسان الهاربين الذين فروا دون قتال، ووبخ الأمير فخر الدين بشدة وعنفه لدرجة أنه بعض أعوان فخر الدين هموا بقتل السلطان نجم الدين، ولكن فخر الدين منعهم. قرر السلطان المريض نقل معسكره إلى مدينة المنصورة التي بناها أبوه السلطان الكامل الأيوبي أيام الحملة الخامسة قبل ثلاثين سنة، وجعل نجم الدين معسكره الخاص بالقصر السلطاني على ساحل النيل، ورابط الأسطول الحربي تجاه المدينة، فلما رأى الناس سلطانهم المريض قد برز بنفسه للأعداء جاءوا بأعداد كبيرة متطوعين راغبين في الأجر والثواب، فلما رأى السلطان إقبالهم أعلن أن من يأتيه برأس صليبي سيكون له مكافأة كبيرة، فتبارى المتطوعون والفدائيون في شن الغارات الخاطفة على معسكرات الصليبيين، وكانوا يأتون بفنون من الحيل والخدع لأسر الصليبيين أثارت دهشة وإعجاب كل المؤرخين حتى مؤرخي أوروبا أنفسهم.
استمر الحال على ما هو عليه طيلة أربعة أشهر، وكان لويس التاسع ينتظر قدوم أخيه الثالث الكونت دي بواتييه، فلما وصل هذا الأخ، عقد لويس التاسع مجلسًا صليبيًا للتشاور في سير الحملة، فأشار بعضهم بالذهاب إلى الإسكندرية؛ لأنها مرفأ استراتيجي يتسع لمختلف الأساطيل مهما كانت ضخامتها، ولكن الكونت دارتو عارض ذلك الرأي، وأشار بضرورة الذهاب إلى القاهرة العاصمة، وقال: "من يريد قتل الثعبان فليحطم رأسه أولاً" ووافق لويس التاسع على رأي أخيه.
في تلك الأثناء توفى السلطان الصالح نجم الدين أيوب في شعبان سنة 647هـ بعد حياة مليئة بالكفاح والصعاب، فقامت زوجته شجر الدر بإخفاء خبر موته، وقامت بتدبير شئون الدولة على أفضل ما يكون، وذلك خوفًا من حدوث فتنة بين صفوف المسلمين، خاصة وهناك صراع خفي بين أكبر أمراء الدولة، وفي نفس الوقت أرسلت شجر الدر إلى ابنه وولي عهده الأمير توران شاه وكان في حصن (كيفا) في شمال العراق تطلب منه القدوم ليعتلي السلطنة بعد رحيل أبيه.
علم الصليبيون بوفاة السلطان نجم الدين أيوب فانتهزوا الفرصة؛ وقرروا الزحف نحو القاهرة فخرجوا من دمياط زاحفين جنوبًا على شاطئ النيل الشرقي لفرع دمياط، والأسطول الصليبي يزحف معهم بحذائهم في النيل، حتى وصلوا إلى قناة أشموم طناح (البحر الصغير) في ديسمبر 1249م – رمضان 247هـ وأصبح في قبالة معسكرات المسلمين لا يفصلهم إلا البحر الصغير.
ولقد شاهد بحر أشموم هذا ألوانًا من البطولة ودروبًا من الشجاعة من قبل المجاهدين المصريين الذي تفننوا في منع تقدم العدو الصليبي، ولكن بسبب خيانة بعض الأعراب تمكن الصليبيون من عبور البحر من نقاط معينة في البحر يقل فيها منسوب المياه، وذلك تحت جنح الظلام، ولم يشعر المسلمون إلا والصليبيون معهم على أرض المعسكر، وحاول الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ وقف تقدمهم ولكنه خر صريعًا، فتفرق الجند بعد مقتل قائدهم، وعم الهرج والمرج في معسكر المسلمين.
بعد نجاح الصليبيين في هزيمة المعسكر السلطاني، اقتحم الصليبيون بقيادة الكونت دارتوا مدينة المنصورة وهم في حالة هياج وسعار صليبي كبير، فراحوا يقتلون المسلمين يمينًا وشمالاً، وهم في حالة نشوة وسكر بما حققوه من انتصار جزئي، وهذا العمى والغرور قد دفعوا ثمنه غاليًا جدًا، وذلك أن فرقة المماليك البحرية بقيادة بيبرس البندقداري قد تجمعت خارج أسوار المنصورة، ثم أطبقت على الصليبيين من حيث لا يحتسبون، فانقلب نصر الصليبيين الوهمي إلى هزيمة حقيقية ساحقة، حتى أن المماليك قد أبادوا كل الصليبيين الذين دخلوا المنصورة وعلى رأسهم الكونت دي أرتوا الذي دفع ثمن تهوره واندفاعه.
رفع ذلك الانتصار الروح المعنوية للمسلمين وسرت روح جديدة في القتال، وفي اليوم التالي عقد قائد الجيش الأمير فارس الدين أقطاي مجلس حرب؛ عرض فيه على المسلمين الكونت دي أرتوا قائلاً: بأنها سترة الملك نفسه، وأن الصليبيين بلا ملك مثل الجسد بلا رأس، ووضع خطة للهجوم الفوري على معسكرات الصليبيين خارج المنصورة وفي فجر يوم الجمعة 25 ذي الحجة سنة 247 – 11 فبراير 1250م تقدم المسلمون بقيادة أقطاي والمماليك نحو معسكرات الصليبيين، وشنوا عليهم هجومًا كاسحًا استخدموا فيه قذائف اللهب، وتحت وطأة الهجوم اضطر لويس التاسع إلى الانسحاب إلى دمياط قبل تدمير قواته.
وصل توران شاه بعد أيام قليلة من هذه المعركة، وتولى قيادة الجيش، وبدء في تنفيذ الخطة التي قد أوصاه أبوه السلطان نجم الدين أيوب بها، وكتبها له في وصيته، وخلاصتها أن يقطع على الصليبيين خطة الرجعة كما حدث مع الحملة الخامسة تمامًا، وحبذا لو نقلنا هنا نص وصية السلطان نجم الدين -رحمه الله-؛ لنرى كيف يكون النصح لله ولرسوله وللمسلمين حتى بعد الرحيل، وقد جاء فيها: "وهذا العدو المخذول – يقصد الصليبيين – إن نزلوا منزلة من تقدمهم قبالة المنصورة، فرتب العسكر حتى يكونوا ثابتين خلف الستائر على البحر ليلاً ونهارًا، فهم ما لهم زحف إلا بالشواني (الأسطول) فقووا الشواني كيفما قدرتم، واجتهدوا أن تكون بعض الحراريق (السفن القتالية) على بحر المحلة خلف مراكبهم تقطع عنهم الميرة، وهو يكون إن شاء الله سبب هلاكهم...".
وتنفيذًا لهذه النصيحة الذهبية أمر توران شاه بنقل عدة سفن منفصلة أجزاء على ظهور الجمال، وإنزالها بعد تركيبها في بحر المحلة وراء خطوط الصليبيين، وبتلك الطريقة الفريدة؛ تمكن الأسطول الإسلامي، من مهاجمة السفن الصليبية المحملة بالمؤن والأقوات، والاستيلاء عليها وأسر طواقمها –تمامًا-مثلما حدث مع الحملة الخامسة، وقد نتج عن ذلك حصول مجاعة شديدة في المعسكر الصليبي، وبعد المجاعة تفشت الأوبئة، والأمراض في المعسكر الصليبي نتيجة الحصار.
حاول لويس التاسع تنفيذ خطة انسحاب سريع من أرض المعركة عن طريق بناء جسر على بحر أشموم والانسحاب منه إلى دمياط، وبالفعل فعلوا ذلك، ولكنهم من شدة الفزع والرغبة الشديدة للنجاة بأرواحهم وقعوا في خطأ عسكري فظيع، إذ نسوا أن يقطعوا الجسر بعد عبوره، فما كادوا أن يعبروا الجسر باتجاه فارسكور حتى عبره المصريون في الحال خلفهم، وركبوا أعناق الصليبيين ووضعوا فيهم السيف، ولم يكرر المسلمون غلطة الحملة الخامسة التي تخاذل فيها السلطان الكامل الأيوبي، ورضى بالصلح مع قدرته على الحرب والانتصار، فلم يعطوا الصليبيين هذه المرة سوى السيف والقتل والأسر.
واستمرت مطاردة الجيش الإسلامي إلى فارسكور وهناك أحاطوا بالصليبيين من كل جانب، فلم ينج من الصليبيين أحد، إما قتيل أو أسير، فقد قتل منهم زيادة عن ثلاثين ألفًا، ووقع في الأسر سبعون ألفًا في مقدمتهم لويس التاسع وهيئة أركانه بالكامل، وسيق لويس التاسع إلى دار القاضي إبراهيم بن لقمان حيث وضعت في يديه ورجليه القيود تحت حراسة الأمير صبيح، حتى دفع الفدية عن نفسه وقواده، وعادت الحملة الصليبية السابقة والتي كانت تعتبر الأفضل تنظيمًا بنكبة مروعة حسمت فكرة الحملات الصليبية الكبرى في العصور الوسطى للأبد.
وقد أنشد الشاعر المعاصر جمال الدين بن مطروح أبياتاً من الشعر جاء في آخر بيتين فيها، محذرًا الصليبيين بعد هزيمتهم هذه، قال:
وقل لهم إنْ أضمروا عودة *** لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها *** والقيد باق والطواشي صبيح
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم