ميلاد عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام

خالد بن سعد الخشلان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ كثرة دلائل قدرة الله في الكون والخلق 2/ قصة مريم عليها السلام ونشأتها وعبادتها 3/ معجزة ميلاد عيسى ابن مريم 4/ حكم مشاركة غير المسلمين في أعيادهم.

اقتباس

أما مشاركة الكفار كالنصارى في أعيادهم؛ فوالله إنه لبدعة عظيمة وضلال كبير، لا يجوز للمسلمين الوقوع فيه، ولا مشاركة النصارى فيه بأيّ لون من الألوان، ولا يجوز تهنئة النصارى بعيدهم هذا؛ لأن هذا العيد عيد مرتبط بعقيدة من عقائدهم الباطلة، فهم يحتفلون في هذا اليوم بميلاد المسيح الذي يعتقدون أنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا-. فكيف يليق بمسلم! كيف يليق بمؤمن! كيف يليق بموحد أن يشارك النصارى في هذا العيد؟! كيف يهنئهم على هذه العقيدة التي يعتقدونها...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، جل سبحانه عن الأشباه والأنداد، وتقدس سبحانه عن الصاحبة والأولاد، ليس له شبيه ولا مثيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

 

أحمده سبحانه له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك له في ربوبيته وإلوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو الرب وحده لا شريك له، وجميع من سواه من الخلق مربوب مخلوق، وهو الإله وحده لا شريك له، وجميع مَن سواه عبيدٌ له، وكلّ ما سواه سبحانه من الإلهة باطلة (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [لقمان:30].

 

 وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ختم الله بنبوته ورسالته النبوات، فلا رسول ولا نبي بعده، ونسخ بشريعته ودينه ما سبقه من الديانات والشرائع، فلم يرضَ سبحانه لعباده بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- دينًا غير الدين الذي بعث به محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فقال عز من قائل: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) [آل عمران: 18]، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أهل النار".

 

فالرب المعبود المستحق للعبادة هو الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، مالك الكون وخالقه ومدبره ومصرف أموره (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف: 54].

 

والرسول الخاتم المطاع المبلِّغ عن الله دينه وشرعه الناسخ بشريعته جميع الشرائع والأديان هو محمد بن عبدالله رسولُه المرسَل للناس كافة عربهم وعجمهم، بل إلى الثقلين الإنس والجن جميعًا، صلوات الله وسلامه عليه.

 

والدين الحق المبرَّأ من كل عيب ونقص، الدين الموصل لرضا الله وجنته المحقِّق لسعادة الدنيا والآخرة، الجامع لمصالح الدارين هو الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكل ما سواه مما يتعبد به الناس اليوم وقبل اليوم بعد بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي أديان باطلة، سواء ما كان منها له أصل سماوي كالنصرانية واليهودية، أو ما لم يكن له أصل سماواي كالديانات البشرية الأخرى جميعها غير دين الإسلام، جميعها أديان باطلة والإسلام وحده هو الدين الحق، هو الدين الذي لا يرضى الله للعباد دينًا سواه (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران:85].

 

فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماء والأرض، وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعدُ؛ على أن منَّ علينا بنعمة الإسلام والتوحيد.

 

الحمد لله الذي جعلنا مسلمين، الحمد لله الذي جعلنا من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعلنا مسلمين في زمن ضلَّ فيه أكثر الناس عن هذا الدين، فهو وحده له المنة، له وحده الفضل في ذلك، فاللهم كما هديتنا للإسلام بفضلك وإحسانك ورحمتك وجودك ثبِّتنا على الإسلام حتى نلقاك، اللهم كما كرَّمتنا بالإسلام فضلاً منك وحدك وإحسانًا أكرمنا بجنتك يوم الورود عليك بصحبة أنبيائك ورسلك وخيرة خلقك والصالحين من عبادك، إنك سميع مجيب.

 

أيها الإخوة في الله في كتاب ربنا -عز وجل- من عظيم الدلائل وصادق الحجج والبراهين على عظمة الله وقدرته ما يأخذ بالألباب، ويزيد في الإيمان، ومن هذه الدلائل على عظيم قدرته -سبحانه وتعالى- دلائل تفرده سبحانه بالخلق والإحياء والإماتة فهو -سبحانه وتعالى- وحده هو وحده خالق الخلق كلهم من عدم، خلق آدم -عليه السلام- من طين لازب، خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وخلق زوجه حواء منه -عليه السلام- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) ثم كان عليهما السلام سببا للخليقة بعد ذلك (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء) [النساء: 1].

 

ومن الدلائل العظيمة على تفرُّده -سبحانه وتعالى- بالربوبية والخلق والإحياء والإماتة ما قصَّه الله -عز وجل- في كتابه الكريم من قصة خلق عيسى بن مريم -عليه السلام- وولادته.

 

لقد كانت مريم ابنة عمران امرأة صالحة منقطعة للعبادة متنزهة عن القبائح والفواحش والآثام، ومن مزيد تعبدها وتنسكها أنها اتخذت من دون أهلها حجابًا لتنفرد بعبادة الله وتزداد قنوتًا له مع كمال الإخلاص والخضوع امتثالاً منها لقوله تعالى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران:43].

 

فأرسل الله -عز وجل- إليها وهي في خلوتها وتبتُّلها جبريل -عليه السلام- (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) كاملاً من الرجال في صورة جميلة وهيئة حسنة لا عيب فيه ولا نقص؛ لكونها لا تحتمل رؤية جبريل على الهيئة العظيمة التي خلقه الله عليها.

 

فلما رأته في هذه الحال البشرية وهي معتزلة عن أهلها منفردة عن الناس؛ خافت -رحمها الله ورضي عنها- أن يكون رجلاً يريد التعرض لها بسوء، فما كان منها وهي المرأة الصالحة العابدة القانتة إلا أن اعتصمت بربها واستعاذت به منه فقالت: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) [مريم: 18].

 

فلما رأى جبريل -عليه السلام- منه الخوف والوجل هدَّأ من روعها وقال: (إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا) [مريم:19]، فتعجبت مريم تعجبت من وجود الولد لها من غير أب فقالت (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) [مريم:20]، والولد لا يوجد إلا بذلك، فأجابها جبريل -عليه السلام- أجابها الجواب القاطع المبدِّد لكل سؤال وتعجب (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ) بخلقه وولادته على هذه الهيئة من غير أب لنجعله (آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) [مريم:21].

 

فالله -سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء فيرى العباد بذلك خرق العوائد في بعض الأسباب العادية، وتخلف السبب أحيانًا من أجل ألا يقف العباد على الأسباب وحدها، ويقطع النظر عن مسبب الأسباب ومقدرها وهو الله -عز وجل-.

 

فالله الذي خلق آدم من غير أم ولا أب لا يعجزه سبحانه أن يخلق عيسى من أم بغير أب، ولهذا قال الله -عز وجل- في محكم كتابه (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [آل عمران:59]، فكان ما أراد الله -عز وجل- وقضى ونفخ جبريل -عليه السلام- في فرج مريم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا) [التحريم: 12].

 

وحملت بعيسى -عليه السلام- وخافت من الفضيحة فتباعدت عن الناس مكانًا قصيًّا، فلما قربت ولادتها ألجأها المخاض إلى جزع نخلة، فلما آلمتها الولادة ووجع الانفراد عن الطعام والشراب والأهل، ووجع قلبها من قول الناس، وخوف من عدم صبرها تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، فكانت نسيًّا منسيًا لا تُذكر.

 

وهذا التمني لمريم أثر من آثار ذلك الانزعاج، لكن ليس فيه خير لها ولا مصلحة بل الخير والمصلحة فيما قدَّر الله وكتب.

 

ولهذا سكَّن المَلَك من روعها، وثبَّت جأشها، وناداها من تحتها أي من مكان أنزل من مكانها التي هي فيه، وقال لها: (لاَ تَحْزَنِي) لا تجزعي لا تهتمي (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهرًا تشربين منه (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [مريم: 25] أي طريًّا لذيذًا، فكُلي من الرطب، واشربي من النهر وقرِّي عينا بعيسى.

 

وبهذا حصلت لها الطمأنينة من جهة السلامة من ألم الولادة وحصول المأكل والمشرب الهنيء.

 

وأما من جهة قالة الناس وخوفها من كلامهم واتهامهم، فقد أمرها إذا رأت أحدًا من البشر أن تقول على وجه الإشارة (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) أي سكوتًا عن الكلام (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا) [مريم: 26]، أي: لا تخاطبيهم بالكلام لتستريحي من قولهم وكلامهم، وما ذاك إلا لأنها لن تستفيد من مخاطبتهم ومناقشتهم في نفي ما سيقولونه عنها من الإفك والبغي والبهتان؛ لأنهم مهما قالت لهم لن يصدقوها، وإنما ستكون تبرئتها مما سيتهمونها به بآية عظيمة، ألا وهي كلام عيسى في المهد؛ ليكون هذا الأمر الخارق للعادة من كلام صبي في المهد دليلاً وشاهدًا على براءة أمه، بل وبينة على الأمر الخارق للعادة، وهو مجيئه -عليه السلام- وولادته من غير أب.

 

فلما انقضت مدة نفاسها أتت مريم بعيسى تحمله إلى قومها غير مبالية بما يقولون لعلمها ويقينها ببراءتها وطهارتها، فما كان منهم عندما رأوها (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) وأرادوا بذلك اتهامها بالبغاء والزنا.

 

حشاها وهي العفيفة الطاهرة المطهرة من ذلك (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم:28]، فما كان من مريم العفيفة الطاهرة المطهرة إلا أن نفذت أمر ربها، فأشارت إلى الطفل في المهد (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم:29].

 

وحينئذ تكلم عيسى -عليه السلام- وهو في المهد في الأيام الأولى من ولادته آية عظيمة خارقة للعادة، تكلم ليس بأي كلام، وإنما تكلم بالحكمة، تكلم بالموعظة، تكلم بلسان النبوة (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) [مريم: 30- 33].

 

فكانت تلك معجزة عظيمة دالة على نبوته ورسالته، ودالة في الوقت ذاته على براءة أمه وطهارتها مما اتهموها به.

 

وهكذا شبَّ الغلام عيسى -عليه السلام- وكان نبيًّا رسولاً يدعو -عليه السلام- إلى ما دعا إليه الأنبياء قبله من آل إبراهيم وآل عمران وغيرهم من الرسل -عليهم جميعًا الصلاة والسلام-.

 

يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له منذ طفولته وهو في المهد (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ) لا عبدَ غيره ولا أعبد سواه (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [مريم: 36].

 

واستمر عيسى -عليه السلام- على ذلك، وآمن بهم آمن من الحواريين، وكفَر به وضل من ضل من الضالين، فذهب اليهود -عليهم لعائن الله متتابعة- إلى أنه ابن زنا وبغي، حاشاه -عليه السلام- وحاشا أمه من ذلك.

 

وادعى آخرون ربوبيته أنه الرب المعبود والعياذ بالله، وذهب آخرون إلى أنه ثالث ثلاثة، وذهب آخرون من أهل الضلال إلى أنه ابن الله.

 

وكل هذا من الإفك المبين والضلال الكبير (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [مريم: 34- 35].

 

وهكذا تتوالى الآيات في كتاب الله مفنِّدة كل الدعاوى الباطلة في عيسى ابن مريم وأمه (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المائدة: 72- 75].

 

وكما ظن النصارى في عيسى ابن مريم وأمه؛ ظن اليهود فيه وأمه، وسعوا إلى قتله، ولكن الله -سبحانه وتعالى- نجَّاه منهم وألقى شبهه على غيره، فقتلوه وصلبوه ظنًّا منهم أنه المسيح ابن مريم، ولهذا عاقَبهم الله على ذلك كما قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) [النساء: 155- 157].

 

هكذا كانت ولادة المسيح عيسى ابن مريم ونهايته عليه الصلاة والسلام، وسينزل في آخر الزمان فيقتل المسيح الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويحكم عيسى -عليه السلام- بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً * لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا) [النساء: 171- 173].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أفضل الرسل وخلاصة العباد دعا أمته بالحكمة والموعظة الحسنة، وهداها إلى سبيل الرشاد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بالأقوال والأفعال والاعتقاد وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا على البر والتقوى، وتمسكوا بإسلامكم ودينكم، واحرصوا على عقيدتكم، وتجنبوا التشبه بالكفار؛ فإن من أعظم خصال الدين الولاء والبراء، والحب والبغض في الله.

 

أيها الإخوة في الله: هذه عقيدتنا نحن المسلمين في عيسى وأمه، عيسى ابن مريم عبدُ الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه؛ خلافًا للضالين من اليهود والنصارى، فليس عيسى ابن مريم -عليه السلام- ليس ربًّا ولا ابنًا لله ولا ثالث ثلاثة، وإنما هو عبدُ الله ورسوله أرسله الله -عز وجل- وجعله من أولي العزم من الرسل، ولم يدع عيسى ابن مريم -عليه السلام، وحاشاه من ذلك- لم يدعُ لعبادة نفسه من دون الله ولا لطاعته من دون الله (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 116- 117].

 

لم يتخذ عيسى ابن مريم -عليه السلام- عيدًا لميلاده، ولم يأمر أتباعه ممن آمن به لم يأمرهم بذلك، فليس في النصرانية الحقة احتفال بميلاد المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام.

 

وأما نحن المسلمين فليس عندنا في ديننا عيد إلا ما شرع ربنا -عز وجل- لنا عيد الفطر وعيد الأضحى، ولهذا لما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ووجدهم يحتفلون بعيد لهم قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد أبدلكم بعيدين اثنين خيرًا من هذا العيد؛ عيد الفطر وعيد الأضحى".

 

ومن ثَم فلا يجوز للمسلمين أن يتخذوا أعيادًا غير ما شرع لهم ربهم -عز وجل-، وأما مشاركة الكفار كالنصارى في أعيادهم؛ فوالله إنه لبدعة عظيمة وضلال كبير، لا يجوز للمسلمين الوقوع فيه، ولا مشاركة النصارى فيه بأيّ لون من الألوان، ولا يجوز تهنئة النصارى بعيدهم هذا؛ لأن هذا العيد عيد مرتبط بعقيدة من عقائدهم الباطلة، فهم يحتفلون في هذا اليوم بميلاد المسيح الذي يعتقدون أنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا-.

 

فكيف يليق بمسلم! كيف يليق بمؤمن! كيف يليق بموحد أن يشارك النصارى في هذا العيد؟! كيف يهنئهم على هذه العقيدة التي يعتقدونها (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا) [مريم: 88- 92].

 

إن المسلم ليعجب أشد العجب من أقوامٍ فقدوا هويتهم، وتحللوا من عقيدتهم، وسارعوا في التشبُّه بالنصارى، فصاروا -والعياذ بالله- أشد احتفاء وفرحًا بأعياد النصارى من أعياد المسلمين التي شرعها الله لهم، والتي جمعت بين العبادة والطاعة والفرح والذكر والشكر.

 

وأما أعياد النصارى ففضلاً عن كونها مرتبطة بذلك المعتقد الفاسد، فهي أيام خلاعة، أيام رقص وإباحية وعري وفجور وشرب للخمور.

 

فاحذر أيها المسلم! احذر من التشبه بأعياد أعداء الله، إياك والتنازل عن عقيدتك ولو في جانب منها؛ فإن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله.

 

احذر من أن تقع في هذا التشبه بأولئك النصارى ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "من تشبَّه بقومٍ فهو منهم".

 

نسأل الله -عز وجل- أن يزيدنا هدًى وبصيرة وتمسكًا وثباتًا على الدين؛ كما نسأله -سبحانه وتعالى- أن يهدي مَن ضلَّ مِن المسلمين؛ إن ربي على كل شيء قدير.

 

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشرًا" اللهم صلِّ وسلم وبارك...

 

 

المرفقات

عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات