عناصر الخطبة
1/تعريف الحب 2/هل الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم دليل محبته؟ 3/البرهان الصادق على محبته صلى الله عليه وسلم 4/بعض أدلة السنة في التحذير من البدع 5/بعض القصص والآثار في ذم البدع 6/الرد على مقولة: \"من لم يحتفل بالمولد فهو وهابي\" 7/خطر علماء أهل الضلال 8/هل احتفل الصحابة بمولده صلى الله عليه وسلم؟ 9/أول من ابتدع بدعة المولد 10/قصة إفحام الإمام أحمد للخليفة العباسي الواثقاقتباس
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- لما أنزل الشرائع والشعائر لم يجعلها فوضى، ولا محل اجتهاد وذوق العباد، كلا! بل أنزلها محددة بأزمنتها وأماكنها وهيئاتها، وأمر بالالتزام بتلك الهيئات التعبدية النبوية، وحذر من الزيادة عليها ما ليس منها، ولو كانت الزيادة في ظاهرها فاضلة مستحسنة لدى المشاهد.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من تعريفات الحب: أنه شعور قلبي عميق وجميل، يحس به الإنسان تجاه من له في نفسه مقام كبير وعزيز.
وبما أن الحب شعور قلبي داخلي، لا يمكن التعرف عليه لزم أن يكون هناك عمل حسي ظاهر، يبرهن به المحب على محبته.
ومن المفروض أن يكون في هذا العمل الحسي سرور المحبوب ورضاه، وإلا لن يكون برهانا مجديا، ولا سليما لدوام المحبة؛ فغاية المحب إرضاء المحبوب، وليس إغضابه، وإثارة سخطه.
أقول هذا الكلام بالنظر إلى دخول شهر ربيع الأول الذي يعتقد كثيرون أنه الشهر الذي ولد فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، والذي يحتفل فيه الملايين بمولد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إظهارا للفرح، وبرهانا على محبتهم له عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة: إن المتأمل حقا في موضوع المولد، واحتفالات المولد التي تنتشر عبر العالم الإسلامي، كلما دخل هذا الشهر، وتنشرها الفضائيات والإذاعات، ينبغي أن يقف قليلا، ثم يسأل نفسه سؤالا مهما جدا، وهو: هل هذه الاحتفالات هي البرهان الصحيح والسليم على محبتنا لنبينا -صلى الله عليه وسلم- أم أنا لسنا على الجادة؟
وإذا أردنا استيعاب الإجابة كاملة، فينبغي أن نتجاوز ذات الموضوع، ثم ننظر في أمور أخرى تابعة للموضوع، ننظر في لوازمه ونشأته، وعلاقته بالعبادة، التي يتقرب بها العباد إلى ربهم، ويظهرون من خلالها محبتهم، وتعظيمهم وطاعتهم له -جل وعلا-.
أيها المسلمون: إن الله -تعالى- لما أنزل الشرائع والشعائر لم يجعلها فوضى، ولا محل اجتهاد وذوق العباد، كلا! بل أنزلها محددة بأزمنتها وأماكنها وهيئاتها، وأمر بالالتزام بتلك الهيئات التعبدية النبوية، وحذر من الزيادة عليها ما ليس منها، ولو كانت الزيادة في ظاهرها فاضلة مستحسنة لدى المشاهد.
قال الله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية: 18].
وقال سبحانه: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) [الشورى: 21].
وأمر سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يبين للعباد كيف يبرهنون على صدق محبتهم له ولرسوله.
وأما البرهان: فيكون باتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وذلك بقوله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ) كيف تثبتون ذلك؟ (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)[آل عمران: 31].
وموضوع وجوب الاتباع، وتحريم الابتداع، موضوع مهم جدا جدا، ولذلك نرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرر التحذير من الزيادة على الدين ما لم يشرعه الله -تعالى- ولم يرد عنه هو صلى الله عليه وسلم من الهيئات أو المناسبات، ويجعل هذا الأمر قضية كبيرة وجوهرية، حتى تبرأ صلى الله عليه وسلم ممن بالغ في العبادة ما لا نص فيه ولا سنة.
تصورا! تبرأ منه عليه الصلاة والسلام!.
فمن التناقض والغرابة: أن يتقرب الإنسان إلى حبيبه بما يبغضه، ويباعده عنه، فهل هذا برهان على الحب؟!
ولا تكفي النية الحسنة إذا كان العمل بغيضا إلى المحبوب!.
لما سأل بعض الصحابة أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر، يعني عن عبادته في بيته، يريدون أن يقتدوا به: "فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[أخرجه البخاري في صحيحه].
"ليس مني" براءة ممن ابتدع.
تحسبون الموضوع سهلا ويسيرا -يا إخوة-؟ لا –والله- ولو كان سهلا لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكرر هذا التحذير لصحابته طوال حياته بينهم، وبأساليب مختلفة، ومناسبات مختلفة، تأكيدا على خطورته وأهميته؛ فمرة يقول لهم صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
ومرة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
بل أصبح يكرر هذا المفهوم في مطلع كل خطبه لأهميته، وحتى يكون دائما في الأذهان، فقد جاء في السنن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: "أما بعد: فإن أحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
حتى لما كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم جعل هذا التحذير وصية من وصاياه الخالدة لأمته، كي يحذروا الابتداع في الدين، والتكلف والزيادة في العبادة، ما ليس في كتاب الله، ولا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولا سنة خلفائه الراشدين.
وقدم لهذه الوصية بموعظة بليغة ذكر فيها بالآخرة وقربها، وخوف من الانحراف عن هديه، والانتكاس من بعده، حتى شعر الصحابة أن هذه الموعظة البليغة إيذانا بموته القريب صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه وصية.
ففي السنن بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله "كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟".
فقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ".
"وإياكم ومحدثات الأمور" العبادات المخترعة التي ليس لها دليل من كتاب أو سنة،
"وإياكم" تحذير وتخويف.
وبعد هذه التربية النبوية الكريمة المتتابعة لسنين عديدة، ترسخ هذا المفهوم لدى صحابته، لا سيما العلماء منهم، وتأصل فهمهم لضوابط العبادة، فلم يرحل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا وهم على دراية تامة بخطورة استحسان العبادة بلا دليل؛ لأنه منزلق إلى دوامة الإتباع التي لا نهاية لها.
ونرى أحد علماء الصحابة الأجلاء عبد الله بن مسعود، ينكر على من اخترعوا في الدين ما لم يرد عن رسول الله، لا أمرا ولا ندبا ولا إقرارا، ولا عن خلفائه الراشدين من الهيئات، أو الشعائر التعبدية؛ فقد جاءه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- فقال: "يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر -والحمد لله- إلا خيرا".
"ولم أر -والحمد لله- إلا خيرا" هذه هي طبيعة البدعة -يا إخوة- في ظاهرها تكون جميلة حسنة، مستحسنة!.
قال ابن مسعود: "فما هو؟" قال: "رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة -هذه هيئة من هيئات العبادة- فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة، قال: فماذا قلت لهم؟ قال: "ما قلت لهم شيئاً انتظار رأيك" قال: "أفلا أمرتهم أن يعدّوا سيئاتهم، وضمنتَ لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء؟".
أتحسبونه تركهم؟ لا والله!.
يقول: ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: "ما هذا الذي أراكم تصنعون؟" قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح!.
قال: "فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة؟".
قالوا والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: "وكم من مريد للخير لن يصيبه".
ولذلك كان رضي الله عنه كان يحذر بين حين وآخر، فيقول: "أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم -يعني من شعائر الدين التي لا أصل لها- فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول".
وكانت هذه وصية غيره من علماء الصحابة.
فهذا ثمان بن حاضر الأزدي يدخل على حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فيقول له: "أوصني؟" فيقول: "نعم، عليك بتقوى الله -تعالى- والاستقامة، اتبع ولا تبتدع".
وهذا حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما-؛ كما في سنن أبي داود يوصي فيقول: "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا تعبدوها، فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من كان قبلكم".
ومعاذ بن جبل -رضي الله عنه- يحذر فيقول: "إياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة".
وأمير المؤمنين الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يوصي أيضا فيقول: "أوصيكم بتقوى الله -تعالى- والاقتصاد في أمره، واتباع سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وترك ما أحدث المحدثون بعده".
والأدلة في هذا الباب كثيرة جدا.
أيها الإخوة: أعود وأقول: إنكم سترون وتسمعون خلال الأسابيع القادمة من الاحتفالات واللقاءات؛ بمناسبة المولد النبوي الشيء الكثير، فإن جئنا بأدلة حكم الاحتفال بالمولد، وكانت تلك الأدلة لا تقر الاحتفال احتج البعض، وقالوا: كيف خفيت تلك الأدلة على كثير من العلماء في البلاد الإسلامية؟!
لأن المصيبة التي تدمي القلب: أن بعض المؤسسات الدينية في بعض البلاد العربية والإسلامية بشيوخها وعلمائها، يقرون هذه المناسبات، ويشاركون فيها، لا، بل ويدعون إليها.
وقد يصنف بعضهم من عارض هذه الاحتفالات تصنيف الرافضة لأهل السنة -مع الأسف-، فيسمون من عارض الاحتفال: "وهابي" لا يحب الرسول -صلى الله عليه وسلم-!.
نعم، فقط هم الذين يحبون، أما "الوهابي" كما يطلقون عليه لا يحب النبي -عليه الصلاة والسلام-!.
"الوهابي" تصنيف عامي بليد ومشهور، وهو أسلوب في الرد لا يليق، حتى بالعامي، فكيف بطالب العلم الشرعي؟!
ما أسهل أن يقول أحد عند الرد على المخالف: هذا "وهابي" لا يحب الرسول! وانتهى! ما أسهله؛ لأن هذا التصنيف العامي ليس أسلوب العلماء، فأسلوب العلماء في الرد يستلزم الدليل الشرعي، لا إلى إطلاق اللمز، فالمفروض إن كانوا يسمون أنفسهم علماء أن يسندوا أدلة المعارضين بأسلوب علمي رصين، يعتمد على أدلة الكتاب والسنة، ونقل الخلفاء الراشدين وأفعالهم.
لكن هذا لا يحصل: أتدرون لماذا؟
لأن أكثر هؤلاء أصلا لا يتبنوا منهج الاستدلال العلمي، فهم -مع الأسف- يحتطبون احتطاب العميان، فلا يميزون بين صحيح الأحاديث وضعيفها ومكذوبها، فكل ما وافق أهوائهم ومنهجهم جاءوا به ونشروه بين الناس، ولو كان حديث مكذوب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-!.
بل في بعض الأحيان يكون دليلهم ذوقهم، وما ورثوه عمن كان قبلهم من القصص والروايات!.
فالمشكلة الكبرى هنا، هي: كيف لعامة الناس أن يميزوا بين الخطاب السني والخطاب البدعي، وهم يرون أمامهم شيخا معمما، ذا لحية وافرة، يذكر الله كغيره من سائر المشايخ، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم-! كيف لهم أن يميزوا؟!
هذا هو وجه الخطورة -أيها الإخوة-: وقد صح في المسند والسنن: "إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي الأئمة المضلون".
هذا هو الجانب الذي كنت أقصده في بداية كلامي عن تجاوز ما في الموضوع، والنظر في أمور أخرى تابعة للموضوع.
أسأل الله لي ولكم رؤية الحق حقا، والباطل باطلا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فينبغي أن ندرك: أن الاحتفال بالمولد لم يدعو إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يفعله أحد من خلفائه الراشدين، الذين كانوا أشد حبا وتوقيرا له صلى الله عليه وسلم منا جميعا، وكانوا أعرف بما يرضيه صلى الله عليه وسلم منا جميعا، وأعرف بما يغضبه منا جميعا.
قال أنس بن مالك: "لم يكن شخص أحب إليهم من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا إذا رأوه كانوا لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك".
يعرفون ما يكرهه صلى الله عليه وسلم وما يحبه، وما يفعله زوجاته الكريمات -رضي الله عنهن- التي كن يعرفن السنة، ولو كان الاحتفال بالمولد خيرا لفعلن رضي الله عنهن.
ونرى أن الهيئات التي كانوا أي أولئك الصحب الكرام أن الهيئات التي كانوا يتخذونها للتعبير عن حبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- هي اتباعه في أوامره وسننه، دون زيادة ولا اختراع هيئة في العبادة لم يشرعها، والصلاة عليه إذا ذكر صلى الله عليه وسلم، والذب عنه إذا أسيء لشخصه الكريم الشريف.
أما الاحتفال بمولده لم يفعله أحد منهم، بل لم يفعله أحد من علماء الأمة، أو أفرادها، طوال الثلاثمائة سنة الأولى من وفاته صلى الله عليه وسلم، وهي التي تسمى القرون المفضلة، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
وإذا علمنا جزما أن الاحتفال بالمولد عند المؤرخين قاطبة إنما ابتدعه الفاطميون العبيديون الرافضة، أثناء حكمهم لمصر، في منتصف القرن الرابع الهجري.
قال الحافظ السخاوي المصري: "عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعده".
وقال المقريزي: "وكان للفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي مواسم رأس السنة، ومواسم أول العام، ويوم عاشور، ومولد النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وذكر بقية الموالد والمناسبات البدعية؛ كموالد الإمام: علي والحسن الحسين وفاطمة، وعيد الغدير... وغيرها من المناسبات التي أسسها العبيديون.
وإذا علمنا ذلك أدركنا أن المولد ليس له أساس من كتاب أو سنة صحيحة إطلاقا، ولعل من النافع أن أختم بهذه الحادثة التي ينقلها الإمام الذهبي في السير، وهي كفيلة بالرد على أهل المولد.
في زمن الخليفة العباسي الواثق أثناء بدعة محنة بدعة القول بخلق القرآن، جيء للخليفة بشيخ مقيدا، جميلا، حسن الشيبة، ممن عارضوا تلك البدعة، فقال له الخليفة: ناظر ابن أبي دؤاد، وهو شيخ المبتدعة في تلك المحنة، وكان قاضيا مقربا من الخليفة.
فقال الشيخ المقيد: يا أمير المؤمنين إنه يضعف عن المناظرة -يعني ما هو كفء للمناظرة- فغضب، وقال: أبو عبد الله يقصد ابن أبي دؤاد- يضعف عن مناظرتك أنت؟.
قال: هون عليك وأذن لي، واحفظ علي وعليه، فقال: يا أحمد، أخبرني عن مقالتك هذه في خلق القرآن.
تصوروا الآن المقالة هي المولد، أو أي بدعة أخرى، قال: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه؟ قال: هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين فلا يكون الدين كاملاً حتى يقال فيه ما قلت.
فرد بكل كبر وعناد: نعم، قال: فأخبرني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بعثه الله، هل ستر شيئاً مما أمر به يعني اعتمادا على قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم" [هذا في صحيح مسلم].
قال: هل ستر شيئا مما أمر به؟ قال: لا، قال: فدعا إلى مقالتك هذه؛ فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدة؛ فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: أخبرني عن الله -تعالى- حين قال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة: 3] أكان الله هو الصادق في إكمال دينه، أم أنت الصادق في نقصانه حتى تقول مقالتك؟
فسكت ابن أبي دؤاد؛ فقال الشيخ: اثنتان؛ قال الواثق: نعم.
فقال: أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم جهلها؟ قال: علمها؛ قال: فدعا الناس إليها، فسكت، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث؛ قال: نعم.
قال: فاتسع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يمسك عنها ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم؛ قال: واتسع لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ذلك؟ قال: نعم؛ فأعرض الشيخ عنه، وأقبل عليه، وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدمت القول أن أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة؛ يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتسع للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلا وسع الله عليك؛ وأطلق قيده.
وهكذا كان إمام أهل السنة أحمد يكرر سؤاله لأهل البدعة في هذه المحنة، فيقول: "أعطني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به؟"
فيرد ابن أبي دؤاد: "وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا" أي بالكتاب والسنة.
يقول الإمام أحمد: "وهل يقوم الإسلام إلا بها؟".
وأنا أقول لأهل المولد: أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أو خلفائه حول مشروعية المولد، حتى أقول به.
والجواب بالطبع: ليس هناك شيء!.
إذاً هو محدث!.
أسأل الله رفع الغمة عن الأمة...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم