اقتباس
إنَّ الأصل في الوحي أنه لا يُعارِضُ العقل، إلا أن يكون عقلًا مُنكِرًا، ومتى عرفْنا أنَّ هذا الإنكار لا يأتي من دافع العقل، وإنَّما مِن خارجه لوجود الهوى، وأنَّ مهمَّة الوحْي بالأساس أن يَصرف عنه الهوى حتى يهتدي إلى طريق الحق، تبيَّن أنَّ الوحي هو الذي علَّم الإنسان العقل، حتَّى إذا استوى العقْل واستغنى أنكر الوحي وطغى!
إن الليبرالية مأخوذة من اللغة الإنجليزية Liberalism، وقد أطلَقَه حزْبُ المُحافظين على خصومه في إنجلترا، وباللغة الإسبانية librales، وقد أطلقها الإسبان على السياسات ذات الطابع الإنجليزي.
يقول منير البعلبكي: والليبرالية تُعارِض المؤسَّسات السياسية والدِّينيَّة التي تحدُّ من الحرية الفردية، وتُطالب بحقه في حرية التعبير وتَكافُؤ الفرص، والثقافة الواسعة.
فالليبرالية من الناحية الفكرية تَعني "حرية" الاعتِقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية تعني "حريَّة" الملكية الشخصية، و"حرية" الفعل الاقتصادي المنتظم وفق قانون السوق، وعلى المستوى السياسي تعني "حرية" التجمُّع وتأسيس الأحزاب واختيار السُّلطة، وهكذا نلاحظ أن مقولة الحريَّة لا تشكِّل فقط مبدأً من جملة مبادئ، بل هي مرتكز لتأسيس غيره من المبادئ.
أما على المستوى الواقعي، فإنَّ الأمر يتمظهر على نحو أكثر إشكالاً وتعقيدًا، فالليبرالية أنماط واجتهادات مختلفة، فليس كل حزب ليبرالي من حيث التَّسمية والعنوان يصلح للدلالة على الليبرالية، ودليلٌ على ذلك أن عدم اعتماد الليبرالية لا يعني عدم وجود المحتوى الليبرالي، ودليلنا على ذلك أن الواقع السياسي الأمريكي مثلاً، الذي يعد أحد الوقائع المجتمعية الأكثر استحضارًا للدَّلالة على النموذج الليبرالي، لا نجد فيه ولو حزبًا واحدًا يتسمَّى باسم الليبرالية.
إنَّ أمثال هذه المصطلحات التي تدلُّ على مفاهيم عقائدية ليس لها مَدلول واحد محدَّد عند الأوربيِّين؛ بهذا تفسَّر في بلد بما لا تفسَّر به في بلد آخر، وتُفهَم عند فيلسوف بما لا تُفهَم به عند غيره، وتُطبَّق في مرحلة بما لا تطبَّق به أخرى.
ومن هنا كان اختلاف التعريفات لهذه المفاهيم، وكانت الصُّعوبة في وضْع تعريف منطقي جامع مانع يحدد مدلولها بدقة، حتى اشتِقاق كلمة "ليبرالي" نفسها اختلفوا فيه: هل هي مأخوذة مِن "ليبرتي" التي معناها الحرية، كما هو مشهور، أم هي مأخوذة من أصل إسباني؟
المهمُّ أن الأفكار الليبرالية ظهرتْ في عصر التنوير حتى الثَّورة الصناعية (1750 - 1850)، فالليبرالية متناقضة جذريًّا مع الأيديولوجيا الاقتصادية؛ أي: إنها ضد فكرة الماوراء؛ حين أكَّدت على موضوعية الطبيعة والمادة، وهي ضد الوحي والميتافيزياء؛ حيث أكَّدت على العقلانية والعلم، وهي ضد الاستبداد حين أكَّدت على الحرية، وهي ضد سحق الفرد وامتِصاصه في المجموع حين أكَّدت على أولوية الفرد.
الأسس الفكرية الليبرالية:
يتأسَّس الفكر الليبرالي على ثلاثة أسسٍ:
1- الأساس الأول: الحرية:
إنَّ الليبرالية يجمعها الاهتمام المفرط بالحرية، وتحقيق الفرد لذاته، كما أنَّها هدفٌ وغايةٌ في ذاتها، ويَقصدون بها أن يكون الإنسان حرًّا في أن يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويَعتقد ما يشاء؛ "فالإنسان عند الليبراليِّين إلهُ نفسِهِ"؛ ولهذا يَسعى هذا المذهب إلى وضْع القُيود على السلطة وتعليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية.
إنَّ الليبرالية تَعتبر الحرية المبدأ والمنتهى الباعث والهدف، والأصل والنتيجة في حياة الإنسان، وهي المنظومة الفكريَّة الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحرِّ، وشرْح أوجهِه والتعليق عليه.
إذًا، تُعتبر الحرية أحد المبادئ الأساسية في الفكر الليبرالي، ونقطة انطلاق في كل المجالات المختلفة لدى كل الليبراليِّين بجميع ألوانهم وأطيافهم، كما تَدعو إلى المساواة وتكافؤ الفرص في جميع الميادين والمجالات.
لكن إن جُعلَ لكلِّ فرد حريتُه الشخصية التي لا تخضع لأي قيود تحت مظلَّة: "تبدأ حريتُك عندما تنتهي حريتي"، يَسود المجتمع الفوضى، وتنتشر الفواحش والرَّذيلة، وتَفشو الأمراض... إلخ، وتدور عجلة الاقتصاد لدى كبار المفسدين والجلادين، وتَنتعِش الرأسمالية اللاأخلاقية على حساب معاناة الأمَّة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: "متى تبدأ حريتُك، ومتى تنتهي حريتي؟"، ويمكن أن نجيب عنه: "إنَّ حريتك تنتهي عند وجود أنفي" كما يقال، بمعنى أنَّ الحرية تكون عندما لا تتعدى على حرية الآخرين؛ إذ لا بدَّ مِن تحديد هذه الحرية، والمحدد يجب أن يكون خارجيًّا؛ بحيث "تكونُ الحاكميَّة العليا لله وحده، مُتمثِّلةً في سيادة الشريعة الإلهيَّة، فهذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرَّر فيها البشر تحرُّرًا كاملًا وحقيقيًّا من العبودية للبشر، وتكون هذه "الحضارة الإنسانية"؛ لأنَّ حَضارة الإنسان تَقتضي قاعدةً أساسية هي التحرُّر الحقيقيُّ الكامل للإنسان، وحفظ الكرامة لكلِّ فرد في المجتمع... ولا حرية - في الحقيقة - ولا كرامة للإنسان - ممثَّلًا في كل فرد من أفراده - في مجتمعٍ بعضُه أربابٌ يُشرِّعون، وبعضُه عبيد يُطيعون".
أما بخصوص تكافؤ الفُرَص والمُساواة، فإنَّ الإسلام لا يكره شيئًا كما يَكره الإخلال بالمساواة في أية صورة من الصور، كما ينفي التفاوت بسبب المولد والجنس أو اللون أو الثراء، فإذا سبق أحدهم بموهبته وحدَها لا بأي اعتبار آخر، فذلك السبق الوحيد الذي يقرُّه الإسلام، ويَخلط بعض الناس في فهم الإسلام فيَفهمون آية: ( وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ) [الأنعام: 165] على غير مرادها.
إنَّ الارتفاع هنا فرديٌّ لا طبقي، فرديٌّ قائم على الموهبة الشخصية، وهذا الفرق الأصيل بين النظام الطبَقيِّ، ونِظام الإسلام، وهو فرْق لا مجالَ لتَجاهُلِه أو الشكِّ فيه، وهو يَهدِم النِّظام الطبقيَّ من أساسه، ويقرِّر التَّفاوت بين الأفراد بتفاوت المواهب والاستِعدادات، ومِن حقِّ كل وليد أن يجدَ الكفاية الغذائية والرِّعاية التربوية، ومِن حقِّ كل وليد أن يجد الصحَّة، وأن يجد فرصة للعمل بحسب طاقته ومَوهبتِه، وهنا يكون التفاوت الطبيعي حقَّه؛ لأنه ينشأ عن التفاوت في داخل الشخصيات، لا في ظاهر المَجتمع والملابسات، والإسلام لا يُقرُّ تلك الامتيازات الكاذبة التي تمنح للأطفال بمجرد ولادتهم في بيت أو أُسرة، أو تُمنح لأبناء بمجرد خواطر الآباء.
2 - الأساس الثاني: العقلانية:
تَعني استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية.
ويُمكن تعريفها أيضًا بأن العقلانية هي: "الاتجاهات والمذاهب التي تجعَل العقل المصدر الأول والأساس أو المقدَّم في مصادر المعرفة والفكْر والدين، أو تُقدِّمُه وتُحكِّمه على الوحي".
وقد أصبح الاعتماد على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق مِن أبرَزِ سِمات الفكْر الأُوربيِّ المُعاصِر.
العقلانيَّة كمنهَجٍ يُمكن استخدامُها في حلِّ مَشاكل معيَّنة، مع الاعتراف أنَّها تفشَل في حلِّ البعض الآخر، يكفي فقط أن نُحسن استخدامها وتوظيفها، ومن جهة ثانية، فالعقلانيَّة كمنهج نَجدها دعوةً صريحة في النصوص القرآنية، لا شكَّ أن من يقرأ القرآن بعمْقٍ وتمعُّنٍ فيَستنتج بعقله أنَّ كل ما جاء فيه من دنيوية غيبيَّة سيَجعلُه يرفض دعوة المدَّعين القائلة بأن الدِّين مُكبِّل للعقل، وناقض للعقلانية؛ إذ لا تعارُض بين العقل والإسلام؛ بحيث نجد أنَّ الأحكام الشرعية المُستنبَطة من أدلتها التفصيلية كانت نتيجة تفاعل عقل المسلم المُجتهِد مع النصوص الشرعية، إذًا فالعقل يَحتلُّ مكانةً مركزيَّةً في فهم الإسلام؛ "فقد تحدَّث القرآن بإسهاب عن العقل ومُشتَقَّاتِه ومرادفاته؛ حيث نجدها موزَّعةً كالتالي:
1- العقل ومشتقاته ذُكر في 49 آية قرآنية.
2- مُصطلَح الفؤاد استُعمِلَ في 16 آية.
• أمَّا عبارة الفكر فقد وردَت في 18 آية.
• أما التدبير فقد استُعملت في 8 آيات.
• الفِطرة التي تَعني التدبير والتفكير؛ قد وردتْ في 45 آية.
• الألباب وما في معناها وردتْ في 30 آية.
• النُّهى وردتْ في آيتين.
• الفقه ومشتقاته ورد في 20 آية.
• الحكم والحكمة ومشتَقَّاته وردت في 30 آية.
وكيف وقد جعَل سبحانه العقل مناط التكليف، ووسيلة للتفكير؟ أما الغيب والتَّفكير في ذات الله، فإنه ليس بمَقدورِ العقْل، وليس مِن وظيفتِه أن يفعل ذلك، وإنْ فعَلَ خرَجَ عن نِطاق الواجب عليه، ولن يعودَ عليه خروجه ذلك إلا بالعبَث العقلي والنفسي، والخروج عن نطاق مصلحة الإنسان في معاشه ومعاده.
إنَّ الأصل في الوحي أنه لا يُعارِضُ العقل، إلا أن يكون عقلًا مُنكِرًا، ومتى عرفْنا أنَّ هذا الإنكار لا يأتي من دافع العقل، وإنَّما مِن خارجه لوجود الهوى، وأنَّ مهمَّة الوحْي بالأساس أن يَصرف عنه الهوى حتى يهتدي إلى طريق الحق، تبيَّن أنَّ الوحي هو الذي علَّم الإنسان العقل، حتَّى إذا استوى العقْل واستغنى أنكر الوحي وطغى!
الأساس الثالث: الفردية:
وقد جاءت هذه الفرديَّة بمفهومَين مُختلفين؛ أحدهما أنَّ الفردية بمعنى الأنانية وحب الذات، وهذا المَعنى هو الذي غلب على الفكر الغربي منذ عصر النهضة إلى القرن العشرين.
والثاني يعني: استقلال الفرد من خلال العمل المتواصِل، والاعتماد على النفس، وهذا هو الاتجاه البراجماتي، وهو مفهومٌ حديثٌ للفرديَّة.
ومِن هنا تتَّضح علاقة العلمانية بالليبرالية؛ بحيث أنَّ الأُولى تعد التربة الخصبة الصالحة لغرس الليبرالية، بل أكثر من ذلك أنهما قرينتان؛ "بحيث شكَّل انشِقاق التيار البروتستانتِي حدَثًا عَظيمًا في تطوُّر الفكرة الليبرالية؛ بحيث دعا إلى حرية الفكر، والخروج من استعباد الأسرار المقدَّسة".
وأضيف إلى ذلك أنَّ شِعار الثَّورة الفرنسية كان "حرية - عدالة - مساواة"، والحرية - بمفهومها الخاص - تعدُّ العنصرَ الأساسيَّ في استمراريَّة الليبرالية، إذًا فهُناك ترابُط بين العلمانية والليبرالية؛ وذلك راجعٌ إلى أنَّهما نشأا في سياق تاريخي واحد، وتَجمعهما أرضية فكرية مُشترَكة، قائمة على إقصاء الدين واستبعاده من الحياة.
فالأصل لدى العلمانيين والليبراليِّين أن يبقى الطابع الغربي سائدًا غالبًا على عاداتنا وتَقاليدِنا في المأكل والملبَس والزِّينة والمسكَن، والعلاقة بين الرجال والنِّساء، ونحوها، ضاربين عرضَ الحائط بما قيَّد الله به الفرد المسلم والمجتمع المسلم من أحكام الحَلال والحرام.
فنحن - معشرَ المسلمين - لنا أنطروبولوجية خاصة، شكلاً ومضمونًا؛ لهذا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم دائمًا ما يَدعونا إلى مخالفة غير المسلمين في مسائل وقضايا كثيرة.
انطلاقًا مما سبق، يُمكن تسجيل أن هناك علاقة متينة بين العلمانيَّة والليبرالية؛ حيث إن كلًّا منهما تقومان على الحرية والعقلانية... إلخ - بفهمهم الخاص - التي لا تُقيم للدين بشكل عام - والإسلام خاصَّةً - وزنًا، وتعتبره مجرد موروث ثقافيٍّ؛ ولذلك يَجب استبعاده من الحياة العامة.
كما تَجدر الإشارة أنَّ "نقد الليبرالية لا يعني نقد الحرية، ولا يعني كذلك الاستبداد وترجيحه على التحرُّر، بل إنَّ الموقف المبدئي هو مع كل دعوة إلى التحرُّر المسؤول، فحرية الكائن الإنساني هي خَصيصة ميَّزه الله عز وجلَّ بها، وجعله بها حقيقًا بمُهمَّة الاستخلاف في الأرض، تلك المهمة (الأمانة) التي تستلزم الحرية، وتستوجِب المسؤولية الأخلاقية".
-----
المراجع المعتمدة:
• العقيدة والفكر الإسلامي؛ محمد هشام سلطان، مكتبة الرحاب الجزائر، ط2، 1988م، (ص: 24).
• بؤس الدهرانية (النقد الانتمائي لفصل الأخلاق عن الدين)؛ الشبكة العربية للأبحاث والنشر، طه عبدالرحمن، ط 2، 2014م، (ص: 40).
• حقيقة الليبرالية وموقف الإسلام منها؛ سليمان بن صالح الخراشي، (د. ط). 1429 هـ، (ص: 22).
• الاتجاهات العقلانية الحديثة؛ ناصر بن عبدالكريم العقل، دار الفضيلة، ط1، 2001م، (ص: 15).
• هكذا تكلم العقل (المفهوم العقلاني للدين)؛ غنية حيدر، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط1، 1999م، (ص: 23).
• مفهوم الحرية؛ عبدالله العروي، المركز الثقافي العربي، ط 5، 1993، (ص: 41).
• معالم في الطريق؛ السيد قطب، (ص: 107، 108).
• معركة الإسلام والرأسمالية؛ السيد قطب، ط13، 1993م، (ص: 47)
• الحلول المستوردة؛ يوسف القرضاوي (د. ط) (ص: 49).
• التوبماليتارية الليبرالية الجديدة والحرب على الإرهاب؛ توفيق المديني، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق 2003، (د. ط) (ص: 7 - 8).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم