عناصر الخطبة
1/ موقف نبوي رائع 2/ أهمية العواطف النبيلة في حياة المسلم 3/ فقه حقيقة الفتنة بالأولاد 4/ حبّ الحسن والحسين -رضي الله عنهما- دين وإيمان 5/ قصة عجيبة في محبة آل البيت 6/ من قصص عجائب الأقدار الإلهية.اقتباس
إنها أُبُوّةُ ورحمةُ من وسعت رحمته العالمين، تتجلى هذه الرحمة في هذا الموقف النبويّ الأبويّ الكبير ليكون موقفًا يتعلّم منه البشر أن الرحمة والأبوّة لا يجوز أن تغيب في كل ساعات الحياة، ولا يصح أن تضيع بين زحمة الأعمال، بل لا ينبغي أن تخفُتَ جذوتها المتّقدة في أي لحظة ولو كانت لحظةً خُلقت للجِدِّ والحَزْم، وخُلقَ الجدُّ والحزم لها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: عن بُريدةَ بنِ الحُصَيب الأسلمي -رضي الله عنه- أنه قال: خَطَبنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبل الحَسَنُ والحُسَينُ -رضي الله عنه-ما عليهما قميصان أحمران يَعْثُرانِ ويقومان. فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذهما وصعد بهما إلى المنبر ثم قال: "صدق الله: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) رأيتُ هذين فلم أصبر". ثم أخذ في الخطبة. (رواه أبو داود في سننه وكذلك الترمذي).
أيها الأخ المبارك: لك أن تستحضر خطيبًا من الخُطباء في أيامنا هذه قام في جَمْعٍ غفيرٍ مُلْقيًا خطبته، فالأنظار به متعلِّقة، والأسماعُ إليه مُصغية، وهو مستغرقٌ في جِدّ مواعظه البليغة التي تَهَمَّمَ لها يحاول أن يستجمع لها قُواه الذهنية، وأن يستصحبها فؤادَه، فتفيضَ مشاعره بمعانيه لينطلق لسانه في بيانها مترجمًا عمّا في جَنانِه، فتتكلّم بها جميعُ حواسّه، بنبرات الصوت المختلفة، وبإشارات اليد، والتفاتة الوجه، ونظرة العين. هل سيجد بصره فضلا عن قلبه مكاناً لنظرة أبويّة في هذا الخضَمِّ الهائل من الشغل؟! هل يمكن أن يتسلّلَ إلى قلبه حينها أدنى شعورٍ بدلال الطفولة وهزلها الفطري؟!.
أيها الأخ المبارك: لك أن تستحضر خطيبًا من الخُطباء في أيامنا هذه، فعل كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ترك الخطبة ونزل من المنبر ليحمل أحد أولاده، أو أحد الصغار في المسجد، في موقف عاطفيّ أبويّ، وصعد به المنبر ثم أكمل خطبته، ما هو شعور المصلين؟!
فإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: في عِظَمِ أعبائه التي لم يُقاربها أحدٌ من العالمين، لأنها أعباءُ إصلاح البشرية وهدايتها إلى قيام الساعة!
وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: في تمحُّضِ عبوديّته لربّه -عز وجل-، وسُمُوِّ تألُّهِهِ لإلهه سبحانه، وشديد وَجَلِه، وكبير رجائه، وكامل حُبّه لخالقه العظيم تعالى وتقدّس سبحانه.
وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: في زُهده البالغ في الدنيا وحقارة زينتها في قلبه أمام الآخرة، وتأخير أجلِّ ملاذّها عن أيِّ عملٍ يقربه من ربه -عز وجل-، والإعراض عن جميع مفاتنها في سبيل رضوان الله تعالى وجنته.
وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: رئيسَ الدولة الإسلامية الناشئة والتي يؤسسها -صلى الله عليه وسلم- لتكون الدولةَ الخالدة إلى قيام الساعة. وهو يؤسسها ويسير بها كسفينة في محيط هادرٍ من الأعداء هم أهل الأرض كلهم حينها. فما أشقَّ كل مَهَمةٍ من هاتين المهمّتين: تأسيس دولة فيها مقوّمات الخلود، وفي وسطٍ هائج من الأعداء!
وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: الذي كان مع قيامه بتلك المهمّة الخارقة وهي تأسيس الدولة الفاضلة الخالدة فهو المسؤول عن جميع شؤونها: من أجلّها إلى أدقِّها، فمن حروبها ومعاهدات سِلْمها وعلاقاتها الدولية التي تجاوزت حدود جزيرة العرب إلى أعظم إمبراطوريات العالم حينها إلى شئونها الداخلية التي تصل إلى آخر التفاصيل وأضعف الدقائق: كحمل همّ الضعفاء، وسُقيا مواشي البدو، وحلّ نزاعات الخصوم في توافه الدنيا، إلى آخر هذه القائمة التي ليس لها آخر.
وإذا كان هذا الخطيبُ هو رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: والمنبر هو أشرفُ منبرٍ عرفه الخطباء في تاريخ البشر، وأعلى منبر صُعّدت إليه الأبصار، وأسمى موضعٍ حفّت به قلوبُ المنصتين، ثم لا يملك -صلى الله عليه وسلم- إذ رأى حفيديه يمشيان ويعثران من الصِّغَر إلاّ أن يهبط عن منبرِه وهو منبرُه! فهو هبوطٌ في كل درجة من درجاته الثلاث، والنازل الصاعد هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأثناء إلقائه خطبة!
إن هذا الهبوط والصعود لهو كلحظةٍ يتوقّف فيها الزمن، أو تُحتبَسُ فيها الشمسُ عن الغروب، فهي لحظةُ هبوطِ وصعودِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من منبر خطبته، ولحظةٌ توقّفت فيها خطبته صلى الله عليه وسلم.
الله أكبر! ما أعظم أبوّتك يا رسول الله.
ينزل -عليه الصلاة والسلام- من منبره ويقطع ما انقطعت القلوب لسماعه من خطبته. لماذا؟ من أجل أن يضمَّ حفيديه إلى جناحه ويشمَّ عبقَ طفولتهما ويُطفئَ حرارةَ شوقه إليهما! وأمام ذلك الجمع الجليل الذي توقّف الزمن لديه، وتجمّد الأوانُ عنده، حتى خشعت نبضات قلوبهم لذلك، وتسمّرت أحداقُهم على هذا المشهد الجليل فلم تَطْرُف.
إنه موقف لا يمكن أن تصفه العبارات، ولا أن تصوره الخيالات، ولا أن تستجمعه المشاعر. إنها أُبُوّةُ ورحمةُ من وسعت رحمته العالمين، تتجلى هذه الرحمة في هذا الموقف النبويّ الأبويّ الكبير ليكون موقفًا يتعلّم منه البشر أن الرحمة والأبوّة لا يجوز أن تغيب في كل ساعات الحياة، ولا يصح أن تضيع بين زحمة الأعمال، بل لا ينبغي أن تخفُتَ جذوتها المتّقدة في أي لحظة ولو كانت لحظةً خُلقت للجِدِّ والحَزْم، وخُلقَ الجدُّ والحزم لها.
وبعد هذا الموقف النبويّ الأبويّ الكبير هل يستطيع مَن في قلبه محبّة صادقةٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يُحبَّ حبيبيه وريحانتيه السيّدين: الحسن والحسين -رضي الله عنه-ما؟! بل هل يمكنه أن لا يخصهما في فؤاده بمنزلة كبيرة من الحُبّ؟! وهما من حلّا في فؤاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك المنزلة.
إنهما حفيدا أحبِّ مخلوقٍ لدينا: رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، إنهما سيّدا شباب أهل الجنّة، فأُمهما: سيدة نساء هذه الأمة فاطمة الطاهرة ابنة رسول الله صلى الله عليهما وسلم، وأبوهما: علي بن أبي طالب الذي له مع المحبة أعظم أوسمة الشرف، لا يحبُّه إلا مؤمنٌ ولا يبغضه إلا منافق.
أيها المسلمون: فإذا ما تجاوزنا حديثَ المشاعر إلى حديث الشعائر والأحكام والفقه المستنبط من هذا الخبر: نقف عند استشهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال: 28]. فهل ما وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الموقف الأبويّ من الفتنة التي حذّرت الآيةُ منها؟
لا يمكن أن يكون هذا! وحاشاه -صلى الله عليه وسلم- من أن يفتنه عن رضوان ربه -عز وجل- شيءٌ! ثم ما الفتنة التي وقعت في هذا الموقف الأبويّ الرائع؟ هل نقص بلاغه -صلى الله عليه وسلم-؟! هل فسد ما أصلحه؟! هل تعطّلت مصالح العباد؟! هل خربت البلاد؟! بل هل قطع -صلى الله عليه وسلم- خطبته بلا رجعة؟! كل ذلك لم يكن! فأين هي الفتنة؟
كيف يمكن أن لا نفهم من هذا الموقف الأبويّ الرائع إلاّ أنه أحد نماذج القدوة النبوية؟! وأنه أحد دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- في خُلُقه العظيم وكمال بشريته التي كان -صلى الله عليه وسلم- بها أفضلَ الخَلْق وأحبَّهم إلى الله تعالى. ولذلك فهذا الموقف تشريعٌ وليس فتنةً يُحَذَّرُ منها.
تشريعٌ يُذكِّرُ أصحابَ الجِدّ والمسؤوليّات العِظام بأنه لا يصحُّ لهم أن يسمحوا لجِدّهم ولمسؤولياتهم بأن تَقتُل فيهم عواطفَهم ولا أن تُغَيِّبها ولو للحظة، ولو كانوا غارقين في أعماق الجِدّ، لأن عواطفهم هي طَوْقُ نجاتهم من الغرق في لُجّةِ جِدّهم. تلك اللجّة التي لو ابتلعتهم لأفْقَدَتْهم إنسانيّتَهم لتُلْقِيَهم بعد ذلك على ساحل الجفاف العاطفي وفي صحراء نُضوبِ المشاعر.
إن تلاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتلك الآية لا يعني أن ما وقع منه هو الفتنة التي حذرت منها، وليس ذلك بلازم من تلاوته -صلى الله عليه وسلم- لها، ولكنه أراد أن يُنبِّهَ إلى أن الفرق بين الحُنُوِّ الأبويّ الذي لا ينبغي أن يَنضُبَ والفتنةِ بالولد إلى حدّ شَلَلِ التفكير وتعطُّلِ عمل العقل، فرقٌ دقيقٌ جدّا هو شَعْرةٌ تفصل بينهما.
فتلا -صلى الله عليه وسلم- تلك الآية مستشعرًا تمامَ حاجته إلى عناية الباري وحفظه في أن يَقِيَهُ من فتنة الولد. وتلا -صلى الله عليه وسلم- تلك الآية لكي يُذكِّرَ نفسه بضرورة الوقوف بحبّه لحفيديه عند أعلى حدود الأبوّة الحانية دون أول حدّ الافتتان الذي يؤدّي إلى التقصير في حقّ أعظم محبوبٍ على الإطلاق ألا وهو ربُّنا -عز وجل-.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم..
بارك الله..
الخطبة الثانية :
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: إن حبّ الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، جعل من جاء من سلف هذه الأمة يدافعون حتى عن أولادهما. تأمل هذه القصة!.
رُوي أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نُصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذا أقبل علي بن الحسين فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالاً له وهيبةً واحترامًا وهو في بزة حسنة وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه، استنقاصًا به واحتقارًا لئلا يرغّب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق وكان حاضرًا: أنا أعرفه فقالوا: ومن هو؟ فقال:
هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطأتَه ***والبَيْتُ يَعْرِفه والحِلُّ والحرمُ
هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهِمُ *** هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العلَمُ
هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهله *** بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِموا
وليس قولُك مَن هذا بضائرِه *** العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها *** إلى مكارِم هذا ينتهي الكرمُ
يُغْضِي حياءً ويُغْضى من مهابته *** فما يُكَلَّمُ إلا حين يَبْتسِم
الله شرَّفه قِدْماً وعَظّمه *** جَرَى بذاك له في لوحِه القلم
مَنْ جَدّه دان فَضْلُ الأنبياء له *** وفَضْلُ أمَّته دانت له الأمم
ينشقّ ثَوبُ الدجى عن نُور غُرَّته *** كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلَم
مِنْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ *** كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصَم
إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم *** أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيلَ همُ
يُسْتَدفَع الشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ *** ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَم
فما أن سمع هشام هذا من الفرزدق حتى غضب غضباً شديداً وأمر بحبسه بعسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثنى عشر ألف درهم فلم يقبلها وقال: "إنما قلتُ ما قلتُ لله ونصرة للحق وقيامًا بحق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء، فأرسل إليه عليّ بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك وأقسمت عليك بالله لتقبلنّها فقبلها منه".
هذه القصة ذكرها ابن خلِّكان رحمه الله في "وفيات الأعيان" عن والد ابن حزم العالم المشهور صاحب كتاب "المحلى"؛ مِن أن أباه كان وزيراً للمنصور، فبينما هو في مجلس للمنصور ذات يوم إذ رُفعت ورقة استعطاف من امرأة إلى المنصور لكي يرحم ابنها ويخرجه من السجن، فلما وقعت هذه الورقة في يد المنصور قال: ذكَّرتني به والله ليصلبنّ، فقام المنصور فكتب ورقة فقال وهو يريد أن يكتب يُصلب إذا بيده تكتب يُطلَق، فأعطاه لوالد ابن حزم، فأمضى الورقة إلى صاحب الشرطة بإطلاق فلان، فغضب المنصور وقال ماذا تصنع؟ قال آمر بإطلاق سراحه، قال أجُننت؟ فأراه توقيعه، فقال المنصور وهمتُ، والله ليصلبنّ، فبدل أن يكتب يُصلب كتب مرة ثانية يُطلق، فأعطاها والد ابن حزم فأمر بإطلاقه، فاستعظم المنصور منه هذا الأمر واشتد حنقه أعظم وأعظم، فأراه والدُ ابن حزم توقيعه، قال وهمت، والله ليصلبنّ، وإذا به في المرة الثالثة لم تطاوعه يده فبدل أن يكتب يُصلب كتب يُطلق، فأمر والد ابن حزم بناءً على توقيع المنصور أن يُطلق، فغضب المنصور أكثر من المرتين الأوليين، فأراه والد ابن حزم توقيعه، فلما رأى توقيعه قال يُطلق على رغم أنفي، من أراد الله إطلاقه فلن أمنعه أبدًا.
اللهم فكّ أسر المأسورين من المسلمين..
اللهم فكّ أسر المأسورين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم