اقتباس
مرة أخرى يضرب لنا ملك مسلم المثل الرائع في فقه المصالح والمفاسد: فمراد خرج من معتكفه, وترك اعتزال الناس للعبادة, وعاد مرة أخرى للميدان من أجل نصر الإسلام؛ فقد ترك النفع الخاص من أجل النفع العام, وهذا من أفقه أن يوازن بين الخاص والعام, ثم علمنا كيفية الإستفادة من خلافات الأعداء فيما بينهم؛ ذلك لأن جنوة رفضت نقض العهد, وحرم البابا أمراءها من المغفرة؛ فوقع...
غدر الأعداء:
هذه المعركة رسالة واضحة لكل من يثق في أعداء الإسلام, ويحسب أن لهم وعدا ً أو عهدا ً, رسالة لكل من لا يفهم قوله عزوجل :( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) [التوبة: 10], وقوله :(فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم ) [التوبة: 12].
رسالة إلى هؤلاء الحمقى المنبهرين بأدعياء الحضارة والرقي وحقوق الإنسان, وإلى كل من وضع يده في يد أعداء الإسلام: يعاهدهم, ويتفق معهم, وهو يظن أنهم سيوفون بالعهد, ويحترمون الوعد, رسالة إلى خدام الشرعية الدولية, وأوفياء القانون الدولي في زمان لا يحترم فيه أعداء الإسلام أي شيء وكل شيء.
السلطان مراد الثاني ورحلة الاتحاد
عندما بدأت الدولة العثمانية في الظهور في أوائل القرن الثامن الهجري, وضعت لنفسها هدفا ً استراتيجيا ً, وهو فتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزينطية, واعتمدت من أجل ذلك سياسة توسيع الرقعة الأفقية للدولة الوليدة؛ بضم إمارات الأناضول في آسيا الصغرى, وبالفعل استطاع السلطان بايزيد الصاعقة توحيد الصف سنة 793 هـ, بضم إمارات الأناضول, وبعدها اتجه بايزيد إلى أوروبا ليحقق الحلم العثماني الكبير, واستطاع بايزيد أن يضم الكثير من المدن والمناطق الاوروبية للدولة العثمانية, وكسر التحالف الصليبي المقدس الذي دعا له البابا بونيفاس الرابع, وأصبح قاب قوسين أو أدنى من تحقيق الحلم بفتح القسطنطينية, ولكنه اصطدم مع جحافل التتار بقيادة النكبة المنتسب للإسلام زورا ً تيمور لنك الرافضي, وأسفر هذا الصدام عن انفراط عقد الدولة العثمانية مرة أخرى, وذلك سنة 804 هـ, وانفصلت إمارات الأناضول مرة أخرى.
ظلت الدولة العثمانية تعمل على إعادة وحدتها, وبناء قوتها من جديد, واستمرت رحلة البناء والإتحاد من سنة 804 هـ وحتى سنة 825 هـ, وذلك في عهد السلطان مراد الثاني؛ وكان سلطانا ً عالما ً عاقلا ً عادلا ً شجاعا ً, مهتما ً بشأن العلم والعلماء, محبا ً للخير, ميالا ً للرأفة والإحسان, وهو مع ذلك بطل شجاع صنديد, يباشر الحروب بنفسه, ويقود الجيوش دون غيره, وقد أفنى حياته كلها فى خدمة قضية الإسلام, ونصرة دين الله.
متاعب الدولة العثمانية:
كانت أوروبا الصليبة تعلم عم اليقين أن الدولة العثمانية تسعى لنشر الإسلام بين ربوعها, وأن الروح الجهادية العالية التي تمتلأ بها صدور العثمانيين ستساعدهم على مواصلة السعي الحثيث لتحقيق هذا الهدف, فعملت أوروبا الصليبة كل ما في وسعها من أجل إثارة المتاعب الداخلية, وحركات التمرد داخل الدولة العثمانية؛ فهي التي عملت على تحريض تيمورلنك على الاصطدام مع العثمانيين, وكل ذلك من أجل أن ينشغل العثمانيون بأنفسهم عن الجهاد في سبيل الله؛ ( وهي مازال على منوالها ينسج أعداء الإسلام, فإنك لا تكاد ترى صراعا ًداخليا, أو فتنة عمياء تشتعل في بلد إسلامي, إلا وتجد خلفها أصابع أعداء الإسلام تحرك الأحقاد, وتثير الأطماع, وتؤلب الأقليات, وهكذا, وما يحدث بالجزائر المسلمة من أحداث وفتن بمنطقة البربر خير دليل على ما نقول ).
كان الإمبراطور البيزنطي عمانويل الثاني خلف كثير من المؤامرات والدسائس, والهدف والدافع معروف؛ فهو أول من يتعرض للخطر إذا تفرغ له العثمانيون؛ فلقد احتضن عمانويل رجلا ً اسمه مصطفى: هو عم السلطان مراد الثاني, وأمده بأسطول بحري؛ ليقود حركة تمرد ضد العثمانيون, ولما فشلت تلك الحركة احتضن أخا ً للسلطان اسمه أيضا ً مصطفى, ولكن السلطان مراد الثاني كان بالمرصاد لكل هذه المحاولات فعمل على وأدها كلها, وقرر بعدها تلقين عمانويل درسا ًقاسيا ً, ليكف عن تآمره ودسائسه ضد المسلمين.
تأديب المتآمرين:
كان أول التأديب من نصيب عمانويل الثاني؛ حيث سار السلطان مراد الثاني على رأس جيش قوي, واستولى على مدينة سلانيك سنة 833 هـ, وأصبحت جزءا ً لا يتجزأ من الدولة العثمانية حتى وقتنا الحاضر, ثم اتجه بعدها إلى البقان, وقضى على حركات التمرد بها, والمدعومة من القسطنطينية.
اتجه مراد الثاني بعد ذلك إلى بلاد الأرنؤوط ( ألبانيا ), فأستولى على الجزء الجنوبي, وسلم أميرها أبناءه الأربعة كرهينة عند السلطان, حتى لا يثير الفتن مرة أخرى, وبعد هذه الفتوحات الكبيرة خضع ملك الحرب ستيف لازار للعثمانيين, ودفع الجزية, وتعهد بقطع كل صلاته مع ملك المجر: العدو اللدود للمسلمين عامة, والعثمانيين خاصة, وتبعه بعد ذلك أمير الأفلاق ( جنوب رومانيا ) الآن, ودفع الجزية هو الآخر.
أما أقوى الضربات الموجعهة التي تلقتها من العثمانيين في حملةى التأديب تلك فكانت ضد دولة المجر: التي كانت تعتبر نفسها حامية الصليب في أوروبا, ورأسالحربة الاوروبية في مواجهة التوسع العثماني؛ حيث اصطدم العثمانيون مع المجريين سنة 842 هـ في معركة طاحنة انتهت بهزيمة المجريين, وأسر منهم سبعوم ألف, وكان ملك الحرب وقتها قد مات, وجاء مكانه صليبي حاقد اسمه جورج رانكوفيتش, خلع عهد وطاعة العثمانيين, وتعاون مع المجريين, فلما هزم المجريين استدار السلطان مراد الثاني إلى الصرب, وحاصر بلجراد عاصمة الحرب ستة أشهر, ولكنه لم يتمكن من فتحها.
العجيب أن الصرب قبل هجومهم الوحشي البربري على مسلمي البوسنة قام زعيم الصرب سلوبودان ميلوسوفتش باستخراج جثة جورج برانكوفيتش, وسار بها في موكب مهيب في شوارع بللجراد لإثارة الحملة الصليبية عندهم, وليذكرهم بما حدث لهم من قبل على يد المسلمين؛ فأعداء الإسلام لا ينسون التاريخ أبدا ً, وذاكرتهم الصليبية قوية, في حين أن المسلمين قد أبعدوا سهوا ً وعمدا ً عن تاريخهم وأمجادهم.
الضربة الأليمة:
كان للحملات الصليبية الناجحة التي قان بها العثمانيون على البلقان صدى هائل عند كرسي البابوية, الذي كان يحترق حقدا ً وغيظا ً على تلك الفتوحات, وقد هاله دخول الإسلام إلى تلك البقاع التي لم تعرف نور الهداية من قبل؛ فدعا بابا روما إلى حلف صليبي كبير للقيام بطرد العثمانيين من أوروبا؛ فاستجاب لدعوة البابا كل من المجر وبولندا والصرب ورومانيا والإمارات الإيطالية والإمبراطورية البيزنطية وألمانيا والتشيك, وأعطيت قيادة التحالف لقائد أفضل القادة المجريين وهو يوحنا هيناوي.
دائما ً وقت الأزمات تجد أعداء الإسلام يدا ً واحدة, ويتناصرون على عدوهم الوحيد الإسلام, ويضربون أروع الأمثلة في وحدة الصف؛ فأين نحن يا عباد الله ؟ .
قامت القوات الصليبية المتحدة, وعبرت نهر الدانوب من ناحية الجنوب, ولم تكن الجيوش العثمانية وقتها مستعدة لخوض المعركة مع هذا العدد الضخم من الجنود الموتورين ضد الإسلام والمسلمين, فوقعت الهزيمة بقدر من الله وحده على المسلمين سنة 846 هـ, واستشهد عشرون ألفا ً من المسلمين, وحاول مراد إعادة الكرة, لكن على عجل, ودون استعداد كاف؛ فهزم مرة أخرى ولكن بصورة أفدح من الأولى؛ إذ استشهد هذه المرة ووقع في الأسر ثمانون ألفا ً من بينهم محمود شلبي القائد العام للجيوش العثمانية, وزوج ابنة مراد الثاني, وعندها اضطر مراد لتوقيع معاهدة صلح لمدة عشر سنوات مع الأوروبيين تنازل بموجبها عن عدة بلاد, وأجزاء قد فتحها من أوروبا, وقد حررت وثيقة الصلح باللغتين العثمانية والمجرية, وأقسم مراد على القرآن, وأقسم لاديسلاسي ملك المجر على الإنجيل بحضور الشهود من الطرفين.
اكملت الضربات الأليمة على السلطان مراد الثاني بادث أليم لابنه الكبير, وولي عهده من بعده الامير علاء الدين, وأثر هذا الحادث في نفسية مراد بشدة, وفجع في ولده وهو في ريعان الشباب, واشتد حزنه على تلك المصيبة حتى قرر أن يخلو بنفسه قليلا ً, ويتفرغ للعبادة والذكر والمناجاة, ولأول مرة في تاريخ الملوك يقوم سلطان وهو في أوج سلطانه وقوته بالتنازل عن السلطة طواعية واختيارا ً لولده الصغير محمد الثاني ,هو الفاتح, وكان عمره أربع عشرة سنة, وقد جعل له مراد بطانة من المخلصين وأهل الرأي؛ ليقوموا بأمره حتى يشتد عوده, وتوجه مراد الثانمي إلى ولاية مغنيسيا بالأناضول ليتفرغ للعبادة.
نقض المعاهدة:
اطمأن مراد الثاني على وضع الدولة تحت ظل حكم ولده محمد الثاني وذلك لأن بينه وبين أعدائه الأوروبيين معاهدة مدة عشر سنوات يكون ولده الصغير بعدها قد اشتد عوده وقوي ساعده, فلا يستهين به أعداؤه, ولكن مراد لم يعلم أن الروح الصليبية لا تنطفىء نارها ضد المسلمين أبدا ً, ولايردعها عهد ولا ميثاق؛ حيث قام البابا أوجين الرابع بإيفاد الكاردينال سيزاريني, وهو رجل يتقد نشاطا ً وعزما ً للتحلص من العثمانيين, ولديه رغبة عامة في أن يرى أوروبا خالية تماما ً من أي مسلم, وقد كلفه بمهمة خاصة, هي إقناع ملوك أوروبا عامة, وملك المجر خاصة بوجوب نقض عهدهم مع المسلمين بأي طريقة كانت.
وقام الكاردينال النشيط الشرير سيزاريني, بزيارة ملوك أوروبا, ودعاهم لنقض العهد مع المسلمين, واستخدم من أجل ذلك مؤثرات وضغوط دينية, مثل إخبارهم أن المعاهدة باطلة؛ لأنها عقدت بدون إذن البابا وكيل المسيح في الأرض, وقال أيضا ً: إن البابا سوف يبرىء ذمتهم من الآثام والخطايا الناجمة عن نكث العهد, وأيضا ً سوف يعطي صك غفران لكل من يقوم بنقض العهد مع المسلمين وحربهم, وسوف يسدل عليهم بركته, ويطهرهم من الذنوب والأوزار ! وهكذا اتبع سيزاريني أساليب شيطانية من أجل إقناع الأوروبيين بنقض العهد, وأعلن لاديسلاسي الحرب الصليبية الجديدة على المسلمين, ونقض العهد.
دائما ً أعداء الإسلام يستغلون الفرصة المناسبة للنيل من المسلمين؛ فعندما شعروا أن الساحة قد خلت من رجل قوي, وأسد مجاهد؛ عندها ينقضون؛ فلا عهود تردعهم, ولا مواثيق تمنعهم, ولا أيمان توقفهم؛ فهم كما قال الحق :(لا أيمان لهم ) [التوبة: 12], فعندما يشعرون أن الأمة ضعفت ودب فيها الوهن؛ فعندما تسقط الأقنعة. وتختفي غصون الزيتون, وحمائم السلام, وتظهر ( البي 52 ), و( الإف 16 ) والصقور والذئاب, والمذابح والمشانق, والضحية هم المسلمون.
معركة ?ارنا:
وصلت أخبار الحلف الصليبي الجديد المكون من معظم صليبي أوروبا إلى مسامع الأسد الرابض مراد الثاني, وهو في معتكفه, وجاء رجال الدولة يشرحون له خطورة الموقف وحساسيته, خاصة أن ولده محمد الثاني مازال صغيرا ً على مجابهة أمثال تلك الحملات الصليبية الكبيرة؛ فخرج الأسد من عرينه, وأعد الجيوش المسلمة لمواجهة هذا العدوان الصليبي, وقرر العمل من أجل نقل المعركة إلى الأرض الأوروبية؛ فاتفق مع أسطول جنوة لينقل جيشه المكون من أربعين ألف مقاتل من آسيا إلى أوروبا تحت سمع وبصر التحالف الصليبي في مقابل دينار لكل جندي.
مرة أخرى يضرب لنا ملك مسلم المثل الرائع في فقه المصالح والمفاسد: فمراد خرج من معتكفه, وترك اعتزال الناس للعبادة, وعاد مرة أخرى للميدان من أجل نصر الإسلام؛ فقد ترك النفع الخاص من أجل النفع العام, وهذا من أفقه أن يوازن بين الخاص والعام, ثم علمنا كيفية الإستفادة من خلافات الأعداء فيما بينهم؛ ذلك لأن جنوة رفضت نقض العهد, وحرم البابا أمراءها من المغفرة؛ فوقع بينهما الخلاف, فعرف مراد الثاني كيف يوظف هذا الخلاف لصالح الإسلام.
كان الأعداء قد وصلوا إلى مدينة فارنا – وكانت تحت السيطرة العثمانية – واحتلوها, بعد ان أقاموا مذبحةمروعة للمسلمين بها, وخاف سكان أدرنة – وهي القريبة من فارنا – من هجوم الصليبين عليهم, ولكن وصول الجيوش المسلمة ثبت قلوب المسلمين هناك, وقويت عزائمهم, وانضم كثير من المتطوعين للجهاد في سبيل الله مع جيوش العثمانيين, ووصل المسلمون إلى فارتا, واستعدوا للصدام مع الصليبين وقد وضع السطان مراد الثاني المعاهدة التي نقدها أعداؤه على رأس رمح طويل؛ ليشهد الجميع على الغدر والعدوان؛ فالتهب حماس المسلمين.
وفي 28 رجب سنة 848 هـ اندلع القتال الشامل بين الفريقين: الصليبين مدفوعين بالحقد الصليبي, وأماني المغفرة الكاذبة من كبيرهم, والمسلمين بإيمانهم ويقينهم بعدالة قضيتهم, وسلامة قصدهم, والروح الجهادية العالية التي تملأ القلوب والوجدان, وفي وسط الميدان التقى الرجلان المسلم والصليبي, الوفي والغادر ,التقى السلطان مراد مع الملك لاديسلاس؛ حيث طعنه مراد برمحه طعنة قاتلة ألقته من على ظهر جواده؛ فأسرع بعض المجاهدين, وجز رأس لاديسلاس, ورفعها على رمح مهللا ً ومكبرا, وصاح في الاعداء: " أيها الكفار؛ هذا رأس ملككم " وكان لهذا المنظر وقع هائل على نفوس الصليبين؛ انهارت بعدها قوتهم وعزيمتهم, وولوا مدبرين, وركب المسلمون اعناقهم, وأخذوا بأقفيتهم فريقا ً يقتلون, ويأسرون فريقا ً, وقتل محرض الفتنة ومثيرها الكاردينال سيزاريني في المعركة جزاءا ً وفاقا ً لغدره وحقده على المسلمين, وانتهت المعركة بنصر عظيم, وفتح هائل انقمعت به قوى الشر الصليبية سنين طويلة, وخرجت مملكة المجر الصليبية من حلبة الصراع مع المسلمين إلى الأبد, وكان يوما ً عظيما ً أعز الله فيه الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, وعلى الغادر تدور الدوائر.
-----------
المراجع:
- النجوم الزاهرة
- تاريخ الدولة العثمانية
- عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية
- التاريخ الإسلامي
- موسوعة التاريخ الإسلامي
- محمد الفاتح ( للرشيد )
- أطلس تاريخ الإسلام
- الدولة العثمانية المفترى عليها
- الدولة العثمانية في العصر الحديث.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم