موعظة وذكرى

ناصر بن مسفر الزهراني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أهمية الموعظة الحسَنة 2/ مواعظ النبي الكريم 3/ حاجتنا للوعظ والتذكير 4/ الجمعة كمنبر للوعظ 5/ بيان حقيقة الدنيا 6/ غفلتنا وعدم اتعاظنا 7/ طائفة من المواعظ

اقتباس

لقد تجمَّدت المشاعر، وقست القلوب، وجفَّت الأعين، وتبلدت الأحاسيس، إلا من رحم ربك؛ لقد أصبح كثير من الناس في غرة الانخداع بالدنيا وبهرجها، وزينتها، ومتعها، ومناصبها، غافلين عن الآخرة، منصرفين عن الباقية، لا تجدي فيهم موعظة، ولا تحركهم نصيحة، ولا تهزهم ذكرى.

 

 

 

 

 

الموعظة هي زاد القلوب، ودواء النفوس، وشفاء الأسقام، وبلسم الآلام، إنها الكلمة الحية، والعبارة النابضة، والجملة المفيدة؛ إنها استثارة المشاعر، ومخاطبة الوجدان، ومناجاة الضمائر، ولفت العقول.

إن الموعظة متى كانت صادقة قويمة، ناصحة حكيمة، نقيَّة سليمة، تنساب إلى القلوب، وتنسكب في المشاعر، وتمازج الأرواح، فهي خير دواء لكل داء؛ لأن القلب إذا أغلق عن المواعظ، وتنكر للتذكير، فلن يفيده بعد ذلك شيء، وصدق الله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].

ولأهمية الموعظة ومنزلة النصيحة، ومكانة الذكرى، جاءت الكتب الربانية، والوصايا النبوية، محمَّلة بأريج الوعظ، مجملة بروائع النصح، مزينة بفرائد الكلام.

وجاء القرآن الكريم ليكون موعظة للناس، وذكرى، وشفاء لما في الصدور، إنه الموعظة الربانية الفريدة التي تزيد الذين آمنوا هدى، ولا يزداد بها الظالمون إلا نفورًا.

وبعث اللهُ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، ومعلمًا للحكمة، ومزكيًا للنفوس، وواعظًا للقلوب: (وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النساء:63]، وأمَره تعالى أن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.

لقد كان يتفنن في وعظ أصحابه، ويتفنن في اختيار الوقت المناسب، والمكان المناسب، والموعظة المناسبة؛ فكانت كلماته الواعظة تحيي الضمائر، وتوقظ القلوب، وتثلج الصدور، وتستدر الدموع؛ لقد كان يهتف بمواعظه إلى أسماع أصحابه، فإذا لهم خنين وأنين بالبكاء وهو معهم، بل لقد كان يعظهم حتى يقول أصحابه أحيانًا: ليته سكت! وذلك من شدة تأثير الموعظة عليهم، ومن شدة خوفهم عليه -صلى الله عليه وسلم-، ورحمتهم به، لما يرونه عليه من تأثر بما يعظ به.

ومن أهم منابر الوعظ، ومنافذ الذكرى التي كان يحرص عليها -صلى الله عليه وسلم- خطبة الجمعة، فقد كانت خطبة في مجملها مواعظ مؤثرة، ونصائح معبرة، يهز بها القلوب هزًا؛ بل لقد حفظ بعض أصحابه وبعض الصحابيات بعض سور القرآن الكريم منه -صلى الله عليه وسلم- من كثرة ما يرتلها على المنبر في خطبه، مثل سورة (ق)؛ وذلك لما حوته من المواعظ الرائعة، والنصائح النافعة، فهي تذكير بالموت، وتخويف بالآخرة، وتزهيد في الدنيا، وحث على الطاعة، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق:19-22].

ولذلك فإننا بأمس الحاجة إلى الوعظ والتذكير، والتنبيه والتوجيه، والترغيب والترهيب؛ إنه لا يجب أن تطغى المواضيع الاجتماعية والسياسية على الهدف الرئيس من خطبة الجمعة وهو الموعظة والتذكير، وإيقاظ الضمائر، وتحريك المشاعر.

إن الجمعة زاد أسبوعي يجب أن يكون فيه ما يساعد المرء على القرب من ربه، والمبادرة بالتوبة، والمسارعة للطاعة، والحذر من التفريط، والتذكر للآخرة، والاستعداد ليوم المعاد، فالحاجة إلى ذلك ماسة في كل زمان ومكان، فكيف بها في زمن كهذا؟ أظلمت فيه القلوب، وجثمت الذنوب، وقربت الشهوات، وعظمت الشبهات، وهاجت المغريات، وتعلق الناس بالدنيا، ولاذوا بالمتع، وركنوا إلى اللهو، إلا مَن رحم الله.
  

إن الدنيا مهما كانت، ومهما حسُنَت، ومهما تجمَّلت، فهي متاع قليل، قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ) [النساء:77]، فوصَفَ اللهُ جميعَ متاعها بالقليل، وما يؤتى الإنسان من هذا القليل إلا القليل، ثم هذا القليل -إن سلم الإنسان من المعصية- فيه فهو لعب ولهو وزينة، (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الحديد:20]، ثم وصف تعالى الآخرة بأنها هي الحياة الحقيقة: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].
 

أين مَن يعلم هذه الحقائق، ويغلغلها في قلبه، ويسكنها في ضميره، فلا تغره الدنيا، ولا تلهيه المصالح، ولا تـخدعه الشهوات، ولا يستفزه البهرج؟ فتأمل أيها العاقل! هل آتاك الله من الدنيا مثل ما آتى سليمان بن دواد -عليه السلام-؟ حيث آتاه الله ملك جميع الدنيا، والإنس والجن والطير والوحوش، والريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ثم زاده الله تعالى ما هو خير منها فقال: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص:39]، ومع ذلك لم يغتر بها سليمان، ولا عدها ميزة وكرامة، فاشتغل بها وتاه بها، بل قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [النمل:40].

أين أنت أيها المشتغل بالملاهي، الغارق في المعاصي، المنغمس في الآثام، أين أنت من قوله تعالى وهو يعظك: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، سوف تسأل عن مثقال الحبة، فكيف بجبال من المعاصي، وأطنان من الذنوب، وأرتال من الآثام؟

يا الله !الإنسان لو يطلب من البنك كشف حساب لمدة خمس سنوات لمكث أيامًا في مراجعته، ولرأى فيه العجب العجاب من العمليات البنكية التي نسي أكثرها، وهذا فقط لمدة خمس سنوات، وعبارة عن رصد حركات بنكية قد تتم في الأسبوع مرة، وقد يمر الشهر وما تم منها شيء، فكيف تظن بمن عاش ستين سنة، وقد أحصي عليه فيها كل صغيرة وكبيرة؟ (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر:53]، (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) [الإسراء:13].

النظرات والغدرات، والفجرات والهمسات، والكلمات والخيانات، والسرقات والقنوات، والمكالمات والشاتات، والساحات والبلوتوثات، والفضائح والقبائح، والخزايا والنوايا، والخفايا والفسوق، والعقوق والحقوق، والكبائر والصغائر، كل ذلك سيجده الإنسان أمامه (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) [آل عمران:30]،
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، فهل اتعظنا بهذا الآيات، وصلحت القلوب، وزكت الضمائر؟ أم أن الغفلة مخيمة، والآمال حاجزة، والمعاصي جاثمة، عش ما شئت فإنك ميت، واحبب من شئت، فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به.

أحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأَيَّامِ إذْ حسُنَتْ *** وعنْدَ صفْوِ الليالي يحْدُثُ الكَدَرُ
قدْ سالَمَتْكَ الليالي فاغْتَرَرْتَ بِها *** ولَم تَخَفْ سوءَ مَا يأتي بهِ القَدَرُ

إن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يحسد من لا فقه له، من صح فيها سقم، ومن سلم فيها برم، ومن افتقر حزن، ومن استغنى فتن، حلالها حساب، وحرامها عقاب، ومتشابهها عتاب، من سعى لها فاتته، ومن قعد عنها أتته، ومن نظر إليها أعمته، ومن تبصر بها بصرته، لا خيرها يدوم، ولا سرورها يبقى، وليس فيها لمخلوق بقاء.

هِيَ الدارُ دارُ الأذَى والقَذَى *** وَدَارُ الغُرورِ وَدَارُ الغِيَرْ
فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافيرِها *** لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الوَطَرْ

وقد شبهها بعض أشياء: كالماء المالح يضر ولا يروي، وكلما شربت منه ازددت عطشًا، وكالبرق الخُلَّب الذي لا غيث فيه، يغر ولا ينفع، وكسحاب الصيف يغر ولا ينفع، وكظل الغمام يغر ويخذل، وكزهر الربيع يزين وينضر، ثم يصفرّ فتراه هشيمًا، وكأحلام النائم يرى السرور في منامه فإذا استيقظ لم يكن في يده إلا الحسرة، وكالعسل المخلوط بالسم يضر ويقتل.

زَخرف هارون الرشيد رحمه الله قصرًا له، وزيَّنَه، وجمل مجالسه، وصنع طعامًا كثيرًا، ودعا الناس لزيارته، وكان من ضمن المدعوين أبو العتاهية، فقال له هارون: صف لناما نحن فيه من النعيم. فقال:
عِشْ ما بَدَا لَكَ آمِنَاً *** في ظِلِّ شاهِقَةِ القُصُورِ
يُسْعَى إِليْكَ بمَا اشْتهيْـــ *** ــتَ لَدَى الرواحِ وفي البكُورِ
فإِذا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ *** في ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُور
فهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنَاً *** مَا كُنْتَ إِلَّا في غُرورِ

فبكى هارون، فغضب الناس وقالوا: بعث إليك أمير المؤمنين تسره وتفرحه، فأحزنته! فقال لهم هارون: دعوه، فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمى.

ومما يروى من الإسرائيليات أن عيسى بن مريم -عليهما السلام- كان في بعض سياحاته، فمر بجمجمة نخرة، فأمرها أن تتكلم فقالت: يا روح الله! أنا ملك من ملوك اليمن، عشت ألف سنة، وولد لي ألف ولد، وقتلت ألف جبار، وتزوجت ألف امرأة، فمن رآني فلا يغتر بالدنيا، فما كانت إلا كحلم النائم، فبكى عيسى -عليه السلام-.

وروي أن نوحًا -عليه السلام- الذي عاش أكثر من ألف سنة، قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ قال: كدار دخلت من بابها هذا وخرجت من ذاك، ووصفها -صلى الله عليه وسلم- بأنها كراكب نام تحت ظل شجرة ثم ذهب وتركها.

لقد تجمدت المشاعر، وقست القلوب، وجفَّت الأعين، وتبلدت الأحاسيس، إلا من رحم ربك؛ لقد أصبح كثير من الناس في غرة الانخداع بالدنيا وبهرجها، وزينتها، ومتعها، ومناصبها، غافلين عن الآخرة، منصرفين عن الباقية، لا تجدي فيهم موعظة، ولا تحركهم نصيحة، ولا تهزهم ذكرى.

أين آدم أبو الأولين والآخرين؟ أين نوح شيخ المرسلين؟ أين إدريس رفيع رب العالمين؟ أين إبراهيم خليل الرحمن؟ أين موسى الكليم؟ أين عيسى إمام السائحين؟ أين محمد خاتم الأنبياء وسيد المرسلين؟ أين أصحابه الغر الميامين؟ أين الأمم الماضية؟ أين الملوك السالفة؟ أين القرون الخالية؟ أين الذين نُصبت على رؤوسهم التيجان؟ أين من عمّر القصور؟ أين من تمتع باللذات، وانغمس في الشهوات، ونال المتع، وتزوج النساء، ولبس الفارِه؟.

أين الذين ملؤوا الأرض عزًا؟ أين الذين فرشوا القصور خزًا؟ أين الذين هزوا الأرض هزًا؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ أين آباؤك؟ أين أجدادك؟ أين أصدقاؤك؟ أفناهم الله، أفناهم ملك الملوك، أفناهم الواحد الأحد، أفناهم مفني الأمم، أخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور، ومن الظل الممدود إلى ظلمة اللحود، فعاث في أجسامهم الدود، وسالت العيون على الخدود، وتساقطت الأعضاء، وتمزقت الجلود، أصبحوا تحت الأجداث، وتقاسم الأهل الميراث، أيام معدودة، ثم لا يذكرهم أحد، وكأنهم لم يكونوا بالبلد، ولم ينعموا بالمال والولد، فلم ينفعهم ما جمعوا، ولم يغن عنهم ما كسبوا، إلا الأعمال الصالحة.

فيا بشرى لمن حسن عمله، وزكا قلبه، واستنارت بصيرته، وحفظ ربه، وصان نفسه، وتاب إلى ربه، فأولئك يتوب الله عليهم وهو التواب الرحيم.
 

 

 

 

 

 

المرفقات

وذكرى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات