عناصر الخطبة
1/ ظاهرة الإسراف والتبذير في حفلات الأفراح 2/مفهوم الإسراف والتبذير 3/اختلاف الناس في حد الإسراف والتبذير 4/الطرق الشرعية في معرفة حد الإسراف والتبذير 5/ضوابط العرف المعمول به في الشرع 6/التوسط في الإنفاق على حفلات الزواجاقتباس
إذاً! فمن أنفق شيئا من ماله ولو كان قليلا باستئجار مزامير ومغنيات، لإحياء الحفل بالمزامير، بالموسيقى، كما يعبر البعض إحياء الحفل، فإنه آثم؛ لأنه محرم، ومن أنفقت مالها في تفصيل ملابس فاضحة، تكشف مفاتنها المحرم كشفها للنساء -والتي تقدم ذكرها- فهي مسرفة مبذرة.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
نتابع -أيها الأحبة وإياكم- موضوع مخالفات الأفراح في حفلات الزواج التي فضلا عن كونها معاصي توجب الخوف من الله -تعالى- إلا إنها ممحقة للبركة، التي يتمناها المسلم في حياته كلها، وبالذات في حياته الزوجية.
ومن أسوأ المخالفات الشرعية في الحفل، وحتى لو دخوله بستر وجوههن، أو وضع خرقة فوق الرأس، فإن ذلك غير مضمون من جميع النساء.
ثم على فرض تحققه: هل يباح هذا لهن الإمعان في النظر إلى ذلك الرجل الشاب الغريب، والله -تعالى- يقول: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...)[النــور:31]؟.
فهل غابت هذه الآية عن النساء؟
وإنما يجوز للمرأة: أن تنظر إلى الرجل للحاجة! أما تركيز النظر بإعجاب ونحوه، فالآية صريحة بمنعه!.
أما دخول أب الزوج وإخوانه وأخواله وأعمامه، إلى آخر القائمة، لتهنئته، وهو جالس في ذلك المكان عند النساء! فمزيد قبح على قبح!.
نسأل الله -تعالى- أن يحفظنا من فساد الرأي، وسوء العمل.
المحور الثالث من محاور المخالفات الشرعية في حفلات الزواج -بعد محوري: التشبه وكشف العورات- محور الإسراف والتبذير:
والإسراف في أي أمر هو تعد الحد، ومجاوزة القصد، كما في قوله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ)[الزمر: 53].
والإسراف في الإنفاق هو التبذير، قال الله -تعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
وقال سبحانه: (وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26-27].
والناس لا يزالون مختلفين في حد الإسراف والتبذير، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67].
وهذا القوام الذي ذكرته الآية ما هو؟
الناس مختلفون في الفرق بين الإسراف والتقتير، وما هو الحد؟ هل هم مبذرون أم غير مبذرين إذا فعلوا كذا أو كذا؟
فأحدهم مثلا يعلل غزارة إنفاقه على الحفل بكثرة ماله، وأن الله أعطاه من المال ما لم يعط غيره، فلا بد أن يكون مستوى الحفل مناسبا لتلك المنزلة.
وفي الجهة الأخرى: هناك من هو في نفس منزلته في الثراء، لكنه بالرغم من ثرائه، وإنعام الله عليه، بالمال الكثير، يقيم الحفل في سطح المنزل مثلا، ويحشر الناس في ضيق وحر، ولا يكرمهم إلا بقليل الطعام، وزهيده، من باب إظهار الورع والزهد، وعدم الإسراف.
وآخر ليس ثريا، بل هو متوسط الحال، ولكنه ينفق إنفاقا باهظا وغزيرا، متعذرا بالخوف من ملامة الناس، فيقول: ماذا يقول الناس لو لم أفعل كذا؟ أو فعلت كذا؟ يقولون عني بخيل؟! يقولون الحفل ليس بالمستوى؟! يقولون فلان الذي أقام حفل ابنه بتلك الصالة أو ذلك الفندق أحسن مني؟!
فتراه يقترض من هنا وهناك، ويحمل نفسه من الديون لم يسبقنا إليها أحد، ولو كلفت ما كلفت.
فالناس إذاً مختلفون في مفهوم الإسراف وحده، فكيف نخرج من هذا الخلاف؟
أيها الإخوة: أولا: يجب أن نضع رضا الله -تعالى- في مكانه الصحيح، وملامة الناس ورأيهم وانتقادهم ورضاهم في مكانه الصحيح أيضا، فلئن كان رضا الله غاية تدرك، فإن رضا الناس غاية لا تدرك.
مهما قدمت ومهما بذلت، فستجد من يلوم وينتقد، خاصة بين النساء، وقد صح في الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة النفس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس".
والله لا يقدرون له على شيء وكله الله إلى الناس!.
وما أحسن أن يعتاد العاقل، وأن تعتاد العاقلة أن يعتاد العاقل في رده على من يلوم فيما عنده، وأنه شاكر لما أنعم الله عليه!.
أيها الإخوة: إن قضية الإسراف في المال لها عدة جوانب من ناحية الضبط:
الأول: النية.
والثاني: الحكم الشرعي.
والثالث: العرف.
ونتحدث قليلا عن هذه الأمور الثلاثة التي تضبط حد الإسراف.
أما النية أن يعتلي نية صاحب الحفل عند إنفاقه رغبة في التباهي والفخر والخيلاء؛ لأن بعض الناس يربط بين الانفاق وبين شعوره بتميزه على الناس، وعلو نفسه، وخيريته عليهم، ومكانته الاجتماعية المرموقة الراقية، وكذا .. وكذا..
فيقول: أنا فلان ابن فلان، لست كسائر الناس، لا بد أن أفعل كذا .. وكذا.
وأخرى تقول: أنا فلانة بنت فلان .. تفتخر بنفسها، كيف أقيم الحفل في المكان الفلاني؟! هذا لا يليق بي وبمستواي؟!
ونتنبه هنا إلى العلة التي يحذر منها، فالعلة في الإسراف، أو التبذير باختيار مكان الحفل مثلا، ليست العلة في ذات المكان، فخما كان أو متواضعا؛ لأن اختيار المكان لا يخضع بالضرورة إلى التباهي والفخر، بل قد يكون هناك عدة أسباب أخرى منها: قربه وسهولة الوصول إليه، ومنها: سعته، ومنها: نظافته، ومنها: جودة تصميمه، وتوزيع صلاته، ومنها: تميز خدمة إدارته، ومنها: توفر بعض الخدمات فيه، ما لا يتوفر في غيره.. أو ما شابه هذه الأسباب متفرقة كانت أو مجتمعة.
فالحرج ليس في المكان ذاته، باهظ التكاليف كان أو رخيصا، وإنما الحرج في قلب صاحب ذلك الحفل، عند اختيار المكان، الحرج في الباعث النفس أو ذاك: هل هو تلك الأسباب العملية الآنفة الذكر؟ أم هو حب الشهرة والتميز على الغير والظهور بمظهر الثراء والعز والفخر والفخامة؟
وقل مثل ذلك في نوع الفستان، ونوع البطاقة.
فالحرج -أيها الإخوة-: في الباعث على ذلك النوع من الإنفاق، الحرج سر نيته، مهما أنكرها، ومهما أبدى للناس خلافها، مهما حاول إخفاءها، فإنها لا تخفى على الله، فهو العليم بذات الصدور.
والخيلاء واعتقاد الإنسان بأفضليته على غيره من المسلمين؛ مشاعر آثمة، وما نتج جراء هذه المشاعر من أفعال، فهي آثمة أيضا.
وقد صح في مسلم من حديث عبد الله بن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة".
قال ابن حجر: "البطر والتبختر مذموم، ولو لمن شمر ثوبه" أي لمن قصر ثوبه، قال: "والذي يجتمع من الأدلة أن من قصد بالملبوس الحسن إظهار نعمة الله عليه، مستحضرا لها، شاكرا عليها، غير محتقر لمن لا يملك مثلها، لا يضره ما لبس من المباحات".
وفي السنن بسند صحيح عن ابن عمر يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم تلهب فيه النار".
قال العلماء: وهذا لأنه قصد به الاختيال والفخر، فعاقبه الله بنقيض ذلك فأذله.
"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس".
فالنية هي الفاصل بين حسن العمل وقبيحه في ذلك المقام، فإذا فعل ذلك الفعلة تكبرا واختيالا كان ذميما، وإن فعله تجملا وإظهارا لنعمة الله كان محمودا، وكل ذلك عائد إلى النية التي يعلمها رب العالمين.
الأمر الثاني الذي يحكم الإسراف بعد النية، هي: الحكم الشرعي:
إذاً! فمن أنفق شيئا من ماله ولو كان قليلا باستئجار مزامير ومغنيات، لإحياء الحفل بالمزامير، بالموسيقى، كما يعبر البعض إحياء الحفل، فإنه آثم؛ لأنه محرم، ومن أنفقت مالها في تفصيل ملابس فاضحة، تكشف مفاتنها المحرم كشفها للنساء -والتي تقدم ذكرها- فهي مسرفة مبذرة.
والتي أنفقت مالها على ملابس تكشف ما يحرم كشفه أمام النساء، فهي بالإضافة إلى معصية كشف عورتها؛ مبذرة مسرفة؛ لأنها أنفقت مالها في الحرام.
وقيسوا على ذلك ما فيه إنفاق للمال في محرم، فإنه إسراف وتبذير للمال.
الأمر الثالث والأخير من ضوابط الإسراف، هو العرف:
كل ما ورد في الشرع مطلقا غير محدود بحد فإنه يرجع في تحديده إلى العرف، وهو ما تعارف عليه الناس غالبا في ذلك المجتمع من قول أو فعل أو ترك.
لكن العرف لا يكون صالحا يرجع إليه؛ إلا بالشروط التالية:
أولا: أن لا يخالف العرف نصا شرعيا.
وثانيا: أن يكون موجودا مستقرا شائعا بين الناس عند ورود الحالة، لا قديما مضى عليه الدهر وتغير، ولا طارئا حديثا لم يتلقاه معظم الناس بالقبول.
وثالثا: أن يكون العرف محترما من عقلاء الناس وصالحيهم، من أهل الفضل والثقة، فيكون موافقا للآداب العامة، ومحافظا على مقاصد الشرع، لا عرفا فاسدا خاضعا للأهواء، لا يشيع إلا بين السفهاء.
وهنا نسأل أنفسنا: كيف نحدد وجود الإسراف من عدمه فيما كان أصله مباحا من الأفعال؛ كالإنفاق في حفل الزواج وما يجري فيه مثلا؟.
فنقول: إذا صلحت النية ولم يكن هذا الانفاق فيما هو محرم شرعا بعد ذلك ننظر: هل هذا الإنفاق فيما فيه نفع معتبر للعقل السليم، والفطرة السليمة، والعرف الصحيح الذي يعرف فيه البذخ من عدمه أم لا؟.
ومن ثم يحكم على فاعله بالإسراف، أو لا يحكم عليه بذلك.
فالبذخ يعرفه أفراد المجتمع بناءً على أحوالهم وعادتهم، وما تعارفه العقلاء بينهم.
فالغلاء الفاحش في المهر، وما يتبعه من هدايا نفيسة، لا تكاد تضاهي للعروس وأقاربها وأمها وأبيها، وفيض الولائم، بحيث ترمى في صناديق القمامة، هي مؤشرات واضحة للإسراف، يحددها العرف.
كما أن اشتمال الحفل على مظاهر بارزة تعرف بالعقل الراشد: أنها إسراف؛ كالإنفاق الكبير على بطاقات الدعوة، أو على باقات الورد الباهظة الثمن، أو على ما يوضع على موائد الضيوف من أصناف عديدة، من أطعمة خفيفة وحلويات، هذا قبل طعام العشاء!.
أو ما يهدى أحيانا من الضيوف من تحف، أو ذهب، أو فضة، أو عادة ما يسمى بالنقود، وهو نثر النقود والجنيهات الذهب على العروسين! هذا لا شك من الإسراف.
وكل هذا مرجعه: العقل السليم، والذوق السليم.
والمحسن حقا هو: من إذا امتلك المال الكثير اعتدل في إنفاقه على حفل زواج ابنه وابنته، فلا يحدث رياءً ولا سمعة، ولا يبدي شحا وبخلا، وإنما يحرص على مراعاة الضوابط الثلاثة: "النية، والحكم الشرعي، والعرف السليم".
والمؤمن العاقل يدرك بأن البركة مرتبطة بيسر الزواج، وأن المحق والشؤم مرتبط بارتفاع مؤنته.
والبركة -أيها الإخوة- أمر مهم جدا لكل مؤمن ومؤمنة، ذا إيمان قوي، لكنها ذات قيمة، أي البركة لدى ضعيف الإيمان، وضعيفة الإيمان.
ففي مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "إن من يمُن المرأة -أي بركة المرأة- تيسير خطبتها، وتيسير صداقها، وتيسير رحمها".
وفي المستدرك بإسناد صحيح عن عقبة بن عامر، قال صلى الله عليه وسلم: "خير الصداق أيسره".
وكم سجل لنا التاريخ وجاءتنا الأخبار، وعلمتنا الأحداث: كيف انتهت زيجات باهظة، مسرف فيها: إلى خصومات، أو فرقة، أو تعاسة مخجلة في ذلك.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم