عناصر الخطبة
1/شدة الحر 2/المؤمن يتفكر ولا يتذمر 3/فوائد الحر 4/دروس وعبر من حر الصيف 5/ الفرار من حر الدنيا وتذكر حر الآخرةاقتباس
الحرَّ ابتلاءٌ مِن الله، وآيةٌ مِن آياتِه، وهو مِن أقدارِ اللهِ وحكمتِه ورحمتِه بعبادِه، ففيه مع قسوتِه وشدّتِه كثيرٌ مِن المنافعِ والمصالحِ لمعاشِهم ومعادِهم، فالمؤمنُ في موجةِ الحرِّ الشديدِ لا يَتسخّطُ ولا يَتذمّر، بل يَتفكّرُ ويَتذكّر...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمدُ للهِ الذي يُقلّبُ الليلَ والنّهار، وأصلي وأُسلمُ على نبيِّه المختار، خيرِ مَن دعا إلى الجنّةِ وحذّرَ من النّار، وعلى آلِه وصحبِه الأخيار.
أمّا بعدُ: عبادَ الله: لقد خلقَ اللهُ الجنَّ والإنسَ لعبادتِه، وأعدَّ للطّائعينَ جنّةً يَتنعّمونَ بأنهارِها وأشجارِها وظِلالِها، وأَعدَّ للعاصينَ نارًا يُعذّبونَ بحرِّها وسَمومِها وأغلالِها. وأقامَ في هذهِ الدّنيا علاماتٍ تَدلُ عليهما، فما فيها مِن النّعيمِ يُذكّرُ بالجنّة، وما فيها مِن الألمِ يُذكّرُ بالنّار.
وإنّ ممّا يُذَكّرُ بالنّار، وما فيها مِن السَّمومِ والحميم، ما يَجدُهُ الناسُ في تلك الأيّامِ مِن شدّةِ الحرِّ وسَمومِ الشّمس، والذي هو مِن فَيْحِ جهنّم؛ أَعاذَنا اللهُ منها. قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلم-: "فأشدُّ ما تَجدونَ مِن الحرِّ، مِن سَمومِ جهنّم".
وإنَّ المؤمنَ ليَعلمُ أنَّ هذا الحرَّ ابتلاءٌ مِن الله، وآيةٌ مِن آياتِه، وهو مِن أقدارِ اللهِ وحكمتِه ورحمتِه بعبادِه، ففيه مع قسوتِه وشدّتِه كثيرٌ مِن المنافعِ والمصالحِ لمعاشِهم ومعادِهم.
فالمؤمنُ في موجةِ الحرِّ الشديدِ لا يَتسخّطُ ولا يَتذمّر، بل يَتفكّرُ ويَتذكّر، فيَقتبسُ مِن جذوتِهِ ما يَزيدُ إيمانَهُ ويُهذّبُ نفْسَهُ ويُزكّيها، فعندما يَلفحُهُ سَمومُ الحرِّ وتكويهِ حرارةُ الشّمس، يَتذكّرُ نارَ جهنّمَ وسَمومَها، ويَتخيّلُ أهلَها وهم يُعذّبونَ فيها (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)[المؤمنون: 104]؛ فيَستعيذُ باللهِ منها.
وعندما يمشي تحتَ أشعّةِ الشّمسِ الملتهبة، ويَجدُ كلَّ شيءٍ يَلمسُه كالنّارِ الموقدة، والأرضُ تَغلي مِن تحتِه وتَفورُ كالجمرةِ الحارقة، يَتذكّرُ يومًا تَدنو فيه الشّمسُ مِن رؤوسِ العباد، ويُزادُ في حرِّها وهم حفاةٌ عُراةٌ، فيَفيضُ منهم العرقُ بحسبِ أعمالِهم، فمنهم مَن يَبلغُ العرقُ إلى كعبيه، ومنهم إلى حِقْوَيْه، ومنهم مَن يُلجِمُه العرقُ إلجامًا.
ويَتذكّرُ مَنْ يَقفُ على جمرتينِ مِن النّارِ يَغلي منهما دماغُه كما يَغلي المِرْجَلُ، ما يَرى أنّ أحدًا أشدَّ منه عذابًا وإنّه لأهونُهم عذابًا. فكيف بمن هم في دَرَكاتِ جهنّمَ يَتقلّبونَ، وفي حرِّها يَصطلونَ، وفي جحيمِها يُسْجَرون، ومِن زقّومِها يَأكلون، ومِن حميمِها يَشربون؟ نَسألُ اللهَ العافية.
فيَتذكّرُ المؤمنُ بحرِّ الصّيفِ حرَّ النّار، فيَتوبُ ويُقلعُ عن الذّنوبِ والأوزار، التي هي سببُ الهلاكِ والبوار..
تَفِرُّ مِن الهجيرِ وتَتّقيهِ *** فَهَلّا مِن جهنّمَ قد فَرَرْتَا
وَلَسْتَ تُطِيقُ أَهْوَنَهَا عَذَاباً *** وَلَوْ كُنْتَ الْحَدِيدَ بِهَا لَذُبْتَا
وَلاَ تُنْكِرْ فَإِنَّ الأَمْرَ جِدُّ *** وَلَيْسَ كَمَا حَسِبْتَ وَلاَ ظَنَنْتَا
فإنْ كانَ الفرارُ مِن حرِّ الدّنيا إلى الظلِّ والمكيفات، فلا فرارَ مِن حرِّ نارِ جهنّمَ إلا بفعلِ الطّاعاتِ وتَرْكِ السّيئات، والصّبرِ على المشقّةِ في ذلك واحتسابِ الأجرِ ورفعةِ الدّرجات.
فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، وحاسبوا أنفسَكم، وجاهدوها على طاعةِ ربِّكم، واستقيموا على ذلك في كلِّ وقتٍ وحالٍ، واحذروا مِن حالِ أهلِ الضّلال، الذينَ تَمُرُّ بهم الآياتُ ولا يَعتبرونَ ولا يَتفكّرونَ ولا يَتذكّرون (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81].
باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآنِ العظيم، وبهديِ سيّدِ المرسلين، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ مِن كلِّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وأصلي وأسلمُ على خاتمِ النّبيّين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.
أمّا بعدُ: عبادَ الله: خُذُوا مِن شدّةِ هذا الحرِّ العظةَ والعِبرةَ، التي بها يَزدادُ إيمانُكم، وتَزكو نفوسُكم، وتَسمو أخلاقُكم، وتَلينُ قلوبُكم، واجعلوا منها واعظًا يُذكّرُكم ما أعدَّه اللهُ لمن عصاه مِن حرِّ النّارِ، وما فيها مِن السّمومِ والحميم، ليكونَ رادعًا لكم وزاجرًا عن الوقوعِ في الذّنوبِ والمعاصي، التي يُجَرُّ أهلُها إلى النّارِ يومَ القيامةِ بالأقدامِ والنّواصي، نَسألُ اللهَ العافية.
فما أسعدَ أصحابَ القلوبِ الطّاهرة، المتعلقةِ باللهِ والدّارِ الآخرة، صَبَّ بعضُ الصّالحينَ على رأسِه ماءً فوجدَه شديدَ الحرارةِ فبكى، وقالَ: ذكرتُ قولَه -تعالى-: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ)[الحج: 19- 20].
وكانَ بَعضُ السَّلفِ إذا رجَعَ من الجُمُعةِ في حرِّ الظهيرةِ في مثلِ يومِكم هذا، يَذكُرُ انصرافَ النّاسِ مِن موقفِ الحسابِ إلى الجنّةِ أو النّار، فإنَّ السَّاعةَ تقومُ يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِفُ ذلك النّهارُ، حتى يَقيلَ أهلُ الجنّةِ في الجنّةِ وأهلُ النّارِ في النّار، ثمّ تلا: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا)[الفرقان: 24].
نَسألُ اللهَ مِن فضلِه، فاتّقوا اللهَ -رحمَكم اللهُ-، وإذا وَجَدَ أحدُكم حرَّ الشّمسِ وشدّةَ حرارةِ سيّارتِه في الظّهيرة، فاستبدلوا التّذمّرَ بالتّفكّر، والشّكوى بالذّكرى، والتّسخّطَ بالتّعوّذ، فما أطيبَ أنْ يَتذكّرَ المؤمنُ بذلك حرَّ جنّهمَ! ويَقول: "لا إلهَ إلا الله، ما أشدَّ حرَّ هذا اليوم!، اللهمّ أجرْني مِن حرِّ جهنّم".
قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "ما اسْتَجَارَ عَبْدٌ مِنَ النّارِ سبعَ مرّاتٍ في يَوْمٍ إلَّا قالتِ النّارُ: يا رَبِّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلانًا قَدِ اسْتَجَارَكَ مِنِّي فَأَجِرْهُ، ولا يَسْأَلُ اللهَ عَبْدٌ الجنّةَ في يَوْمٍ سبعَ مراتٍ، إلَّا قالتِ الجنّةُ: يا رَبِّ إِنَّ عَبْدَكَ فُلانًا سألَنِي فَأَدْخِلْهُ".
ويَقولُ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: "مَن سَألَ اللَّهَ الجنَّةَ ثلاثَ مرَّاتٍ قالتِ الجنَّةُ: اللَّهمَّ أدخلهُ الجنَّةَ، ومَن استجارَ مِنَ النَّارِ ثلاثَ مرَّاتٍ، قالتِ النَّارُ: اللَّهمَّ أجِرْهُ مِنَ النَّارِ".
فاللهمّ إنّا نسألُك الجنّةَ ونَستجيرُ بك مِن النّار، اللهمّ إنّا نسألُك الجنّةَ ونَستجيرُ بك مِن النّار، اللهمّ إنّا نسألُك الجنّةَ ونَستجيرُ بك مِن النّار، لنا ولوالدِينا وأزواجِنا وذرّيّاتِنا ولجميعِ المسلمينَ، برحمتِك يا أرحمَ الرّاحمين.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزّةِ عمّا يصفونَ، وسلامٌ على المرسلينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم