موت النبي -صلى الله عليه وسلم-

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ وفاة رسول الله أعظم مصيبة أصابت الأمة 2/ انقطاع الوحي بوفاة رسول الله 3/ حال المسلمين يوم وفاته 4/ تفاصيل يوم وفاته -صلى الله عليه وسلم- 5/ بدعية الاحتفال بيوم المولد ويوم الوفاة 6/ علامات محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

اقتباس

وأعظمُ مصيبةٍ أصابت الناس في هذه الأمة هي موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أخرج ابن ماجه في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي".

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فالموت يأتي فجأةً، والقبر صندوق العمل، والخلق كلهم يموتون، كما قال سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، وقال: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ).

 

والناس يختلفون، فالبعض منهم إذا مات، لم يترك أثرًا خلفه، ولم يفقده الناس، وأسوء منه من إذا مات استراح منه العباد والبلاد، وهناك من يُفقد إذا مات، وتتأثر النفوس بفقده، ويُثلم في الإسلام ثلمة لا تسد، وهذه الثلمة على حسب نفعه للأمة، وأعظمُ مصيبةٍ أصابت الناس في هذه الأمة هي موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أخرج ابن ماجه في سننه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أيها الناس: أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي".

 

قال أبو العتاهية:

 

اصبر لكـل مصيـبة وتجلَّد *** واعلـم بأن المـرء غير مخلَّـدِ

واصبر كما صبر الكرام فإنها *** نُوبٌ تنوب اليوم تكشف في غدِ

أوما ترى أن المصائب جمـةٌ *** وترى المنيـة للعبـاد بمرصـدِ

فإذا أتتك مصيبة تشجى بها *** فاذكر مصـابك بالنبي محمـدِ

 

قال القرطبي: "وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ انْقطعَ الوحي، وماتت النبوَّة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير، وأول نقصانه". اهـ.

 

فأشار -رحمه الله- إلى أمرٍ عظيمٍ انقطع بموت النبي -صلى الله عليه وسلم- ألا وهو: انقطاع الوحي الذي كان يتنزل من يوم أهبط آدم إلى الأرض؛ فانقطع بموته -صلى الله عليه وسلم-.

 

دخل أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- على أم أيمن بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- يتفقدانها، فوجداها تبكي، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟! ما عند الله خير لرسوله، قالت: "والله ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحي انقطع من السماء"، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان.

 

معاشر المؤمنين: إن موت النبي -صلى الله عليه وسلم- حدث جليل عظيم، ولهذا لم يُختلف في يوم وفاته؛ حيث كان يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، ورأى الجمهور أنه كان في اليوم الثاني عشر منه، في العام الحادي عشر للهجرة.

 

لقد كان موت النبي -صلى الله عليه وسلم- أعظمَ مصيبة ابتليت بها الأمة مطلقًا، وكان له أثر عظيم على نفوس الصحابة وحالهم؛ حتى صدق فيهم وصف عائشة -رضي الله عنها-: "صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم".

 

يقول ابن رجب -رحمه الله-: "ولما تُوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أُقْعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية".

 

يقول أنس -رضي الله عنه-: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلّ شيء، وما نفضنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا".

 

عباد الله: بدأ المرض بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في مطلع شهر ربيع الأول، قال ابن حجر: "اختُلف في مدة مرضه -عليه السلام-، فالأكثر على أنها ثلاثةَ عشر يوماً، وقيل بزيادة يوم وقيل بنقصه... وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح". فتح الباري (7/736).

 

وقد نُقل إلينا بعض أخباره وأحواله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه، قالت عائشة: لما ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي، فأذنَّ له، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بين رجلين تخطُّ رجلاه في الأرض، بين عباس ورجل آخر، قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس فقال: أتدري من الرجل الآخر؟! قلت: لا، قال: هو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

 

أخرج البخاري (664)، ومسلم (418) في صحيحيهما قالت عائشة -رضي الله عنها-: لما مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: "إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فخرج أبو بكر فصلى، فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- من نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن مكانك، ثم أُتي به حتى جلس إلى جنبه. قيل للأعمش: وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر!! فقال برأسه: نعم.

 

وأخرج البخاري (681)، ومسلم (419) من حديث أنس بن مالك قال: لم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم، فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب فرفعه، فلما وضح وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ما نظرنا منظراً كان أعجبَ إلينا من وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا، فأومأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده إلى أبي بكر أن يتقدم، وأرخى النبي -صلى الله عليه وسلم- الحجاب فلم يُقدَر عليه حتى مات.

 

وأخرج البخاري (5646)، ومسلم (2570) في صحيحيهما قالت عائشة: "ما رأيت رجلاً أشد عليه الوجع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

 

وأخرج البخاري (5648)، ومسلم (2571) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك وعكاً شديداً فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله: إنك لتوعك وعكاً شديداً‍! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أجل"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها".

 

وأخرج أحمد في مسنده من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يموت، وعنده قدح فيه ماء يدخل يده في القدح ويمسح وجهه بالماء وهو يقول: "اللهم أعني على سكرات الموت".

 

وأخرج البخاري (2644) من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: لما ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل يتغشاه، فقالت فاطمة: وا كرب أباه، فقال لها: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم".

 

اللهم هوّن علينا سكرات الموت، أقول قولي هذا...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

فيا أيها الناس: لقد كان لمرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثر بالغ في نفوس أصحابه، فكلهم يفديه بنفسه وولده والناس أجمعين.

 

أخرج البخاري ومسلم  في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك الأنصاري أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ينظر إلينا، وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر، فتوفي من يومه. وفي رواية أخرى: وتوفي من آخر ذلك اليوم. البخاري (754).

 

قال ابن كثير: "وهذا الحديث في الصحيح، وهو يدل على أن الوفاة وقعت بعد الزوال، وذهب النووي وابن رجب إلى أنه توفي ضحى ذلك اليوم". البداية (5/223).

 

وأخرج البخاري  ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- تقول: "إن من نعم الله عليّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبد الرحمن وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: أليّنه لك، فأشار برأسه أن نعم، فليَّنْتُه فأمره وبين يديه ركوة أو علبة -يشك عمر- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت سكرات"، ثم نصب يده فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى". حتى قبض ومالت يده.

 

وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن الله -عز وجل- تابع الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته حتى توفي، وأكثر ما كان الوحي يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق".

 

وفي رواية فيهما، قالت: فلما نزل به ورأسه على فخذي غُشي عليه، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى"، قالت: فكانت آخر كلمة تكلم بها: "اللهم الرفيق الأعلى". البخاري ومسلم 

 

أيها المؤمنون: فأيُّ احتفال يكون في يوم رزئت فيه الأمة بأعظم مصيبة في تاريخها، يقول الفاكهاني: "هذا مع أنّ الشهر الذي وُلِد فيه -صلى الله عليه وسلم- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه".

 

فلم يحتفل بمولده ولا يحتفل بموته ولا يحتفل بيوم هجرته مع أنها كلها في ربيع الأول.

 

فبهذا يُعلم بدعية المولد، والخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف.

 

معاشر المؤمنين: يظن البعض أن إقامة الموالد علامةٌ على محبة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس هذا بصحيح، بل هي علامة على عدم محبته، فمن أحب شخصًا أطاعه.

 

تعصي الإله وأنت تزعم حبه *** هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقًا لأطعته *** إن المحـب لمن يحـب مطيع

 

فمن كان يحب النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحب لقاءه فليسر على هديه، وليتمسك بسنته، فهي علامة الحب الصادقة.

 

والنبي -صلى الله عليه- نهى عن البدع والإحداث في الدين، وقال: "تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها"، والله قال في كتابه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، فمن ابتدع في الدين فقد عارض أمر الله ورسوله، وزعم أن الدين ناقص، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكمل الدين والبلاغ.

 

فأين عقول أهل الموالد من هذا، ولذا تراهم أقلَّ الناس تطبيقًا للسنة، بل للفروض والله المستعان.

 

عباد الله: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم...

 

اللهم أرنا الحق...

 

 

 

 

المرفقات

النبي -صلى الله عليه وسلم-

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات