موانع التكفير

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/موانع التكفير2/منهجية أهل الضلال في التكفير 3/منهجية أهل السنة في التكفير.

اقتباس

إنَّ قضيةَ الإيمان والكفر من أخطر القضايا في دين الله، وقد ضلَّ فيها طوائفُ كثيرة في الأمصار والأعصار، واحتار كثيرٌ من الناس بسبب الاختلاف فيها، فهناك أقوامٌ عرضت لهم بعض الشبهات في إخوانهم المسلمين؛ فكفَّروهم ثم...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها النّاس: إنَّ شريعة الله تعالى وسطٌ بين إفراط المفَرِّطين، وتفريط المفْرِطين، ووسطٌ بين غلوّ الغالين، وجفاء الجافين، وهي الدين الذي لا يقبل الله سواه، قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ)[آل عمران: 19]، وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85].

 

فمن اختار لنفسه الإسلام ديناً فلا يُحكم بكفره أبداً، إلا إن أتى بناقض من نواقض الدين؛ وبُيِّنَتْ له الحجة، وأزيلت عنه الشبهة؛ فأصرَّ على ما به يكفر.

 

ولا بُدَّ من أن يُعلمَ -يا عباد الله- أنَّ المسلمَ إذا وقع في مكفِّرٍ من المكفِّرات الواضحة فإنّه لا يلزم من وقوعه الحكم بكفره ابتداءً حتى تتوفّر الشروط، وترتفع الموانع، وعلى ذلك قد دلَّت نصوصُ الكتاب والسُّنّة، وانعقد إجماع سلف الأمة، خلافاً للفرق الضّالة في هذا الباب.

 

عباد الله: هناك مجموعة من الموانع التي تمنع من تكفير المسلم:

أولها: الإكراه؛ فمن غلب على ظنّه أنه سيُقتل أو يُعذّب إن لم يكفُر؛ فقد رخص الله له أن يقول الكفر أو يفعله، شريطة أن يكون سليم القلب منه، مطمئناً بالإيمان، كما فعل عمّار بن ياسر -رضي الله عنهما- حين عذّبه المشركون، وما تركوه حتى سبّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، وذكر آلهتهم بخير، فشكا ذلك إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله! ما تُرِكتُ حتى سببتك وذكرتُ آلهتهم بخير، قال: كيف تجدُ قلبك؟ قال: مطمئنًا بالإيمان، فقال: إن عادوا فَعُدْ"(رواه الحاكم وصححه).

 

وأنزل الله تعالى قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل: 106].

 

ولا شك أنَّ من ثبت على دينه ولو أفضى ذلك إلى تعذيبه وقتله أفضل عند الله؛ كما ثبت بلال -رضي الله عنه، حين أغاظ المشركين وهم يفعلون به الأفاعيل حتى كانوا يضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحرِّ ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم، ويقول: "أحدٌ أحدٌ"(رواه أحمد)، ويقول: واللهِ، لو أعلم كلمةً هي أغيظ لكم منها لقلتها، رضي الله عـنه وأرضاه.

 

وثبت حبيب بن زيد الأنصاري أيضاً، لمّا قال له مسيلمة الكذاب: "أتشهد أن محمداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع، فلم يزل يقطعه إرَباً إرَباً وهو ثابت على ذلك حتى لقي الله تعالى"(رواه أبو نعيم).

 

وقد نهى الله عباده المؤمنين عن أن يتخذوا الكافرين أولياء، إلا أن يخافوهم على أنفسهم، فيصانعوهم؛ درءَاً لشرِّهم، وردّاً لخطرهم، مع بغضهم لهم، فقال: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)[آل عمران: 28]، أي: إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين؛ فلكم الرخصة في المسالمة والمهادنة، لا في التولي الذي هو محبّة القلب الذي تتبعه النصرة.

 

أيها المؤمنون: ومن موانع وصف المسلم بالكفر: أن يكون جاهلًا؛ فإذا فعل المسلم مُكفِّرًا أو قاله، أو أتى ناقضاً من نواقض الإسلام جاهلاً به، فإنه لا يكفر؛ حتى يُرفع جهله بالعلم، وتقام عليه الحجة.

 

والدليل على هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أسرف رجل على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا متُّ فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح في البحر؛ فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذّبَه أحداً، قال: ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أدّي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: خشيتُك يا ربِّ! أو قال: مخافتك، فغفر له بذلك".

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذا الرجل اعتقد أن الله -تعالى- لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شكّ، وأنه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفّر من قامت عليه الحجة؛ لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمانٌ بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه فغفر الله له بخشيته.

 

فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل؛ فيغفر الله -تعالى- خطأه، أو يعذبه؛ إن كان منه تفريطٌ في اتِّباع الحقّ على قدر دينه، وأما تكفير شخص عُلِمَ إيمانُه بمجرد الغلط في ذلك فعظيم".

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "غفر الله -تعالى- له ورحمه لجهله؛ إذ كان ذلك الذي فعله مبلغ علمه، ولم يجحد قدرة الله -تعالى- على إعادته عناداً أو تكذيباً".

 

عباد الله: ومما يمنع تكفير المسلم أيضاً: أنه قد تعرض له شبهة توقعه في الغلط بالتأويل؛ فيفهم النصوص على غير وجهها، فيقول كفراً أو يفعله، وهنا فليس لأحد أن يحكم عليه بالكفر حتى يزيل شبهته، ويصحح غلطه، فإن أصرَّ بعد ذلك على ما يكفر به كُفِّر ظاهراً، وأقيم عليه حدُّ الردّة، وسريرته إلى الله -تعالى-.

 

وقد وقع لبعض الصحابة شيء من ذلك؛ كما روى عبد الله بن عامر: "أن عمر -رضي الله عنه- استعمل قدامة بن مظعون على البحرين؛ فقدم الجارود سيد عبد القيس على عمر -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين! إن قدامة شرب فسكر، وإني رأيت حداً من حدود الله حقاً عليَّ أن أرفعه إليك، فقال: عمر -رضي الله عنه- من شهد معك؟ قال: أبو هريرة، فدعا أبا هريرة -رضي الله عنه-؛ فشهد عليه، ثم كتب عمر إلى قُدامة أن يقدم عليه من البحرين، واستشهد عمر زوجة قدامة؛ فأقامت الشهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة -رضي الله عنهما-: إنِّي حادُّك، فقال: لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، فقال عمر -رضي الله عنه-: لمَ؟ قال قدامة: لأن الله يقول: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا)[المائدة: 93]؛ فقال عمر -رضي الله عنه-: أخطأت التأويل، إن اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله عليك، فجلده حد الخمر"(رواه البيهقي).

 

أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يثبتنا على الحق المبين، وأن يحفظنا وإخواننا المسلمين من مضلّات الفتن والأهواء، إنه سميعٌ قريبٌ.

 

قلت قولي هذا وأستغفر الله..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

 

أيها المسلمون: إنَّ قضيةَ الإيمان والكفر من أخطر القضايا في دين الله، وقد ضلَّ فيها طوائفُ كثيرة في الأمصار والأعصار، واحتار كثيرٌ من الناس بسبب الاختلاف فيها، فهناك أقوامٌ عرضت لهم بعض الشبهات في إخوانهم المسلمين؛ فكفَّروهم ثم قاتلوهم؛ بناء على تكفيرهم لهم، ونتج عن ذلك مفاسد عظيمة، كالحكم بالكفر على من لا يستحقّه، والاعتداء عليه، واستباحة دمه وماله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس"(متفق عليه).

 

وهناك أقوامٌ وقعوا في ظلم عظيم فقالوا بالإرجاء، ونفوا الكفر عمن يستحقه من الكفار الأصليين كاليهود والنصارى والوثنيين، أو المرتدين الذين يعلنون رفضهم لشريعة الله، مع قيام الحجة عليهم، واستبانة المحجة لهم؛ بحجة أن وصفهم بالكفر لا يتناسب مع ثقافة الحوار، وقبول آراء الآخرين، وغير ذلك من الحجج الواهية التي تُلغَى بها شريعةُ رب العالمين؛ إرضاء للكافرين والمنافقين، ومن وافقهم من الظالمين والجاهلين.

 

بل زعم بعض من ضلّوا في هذا الباب أن الحقّ خفيٌ، وأن جميع الأديان موصلة لرضا ربّ العالمين، ولا يجوز الاختلاف بسببها، وكل هذه الأقاويل ظلماتٌ بعضها فوق بعض، وضلال كبير، والقول بها يلغي الإسلام جملةً وتفصيلًا.

 

وقد كفَّر الله من استحقّ الكفر من عباده، فقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)[المائدة:17]، وقال: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)[المائدة: 73].

 

وثبت في السُّنّة النبوية لعن اليهود والنصارى، والحكم عليهم بالنار خالدين فيها أبداً ما داموا على عدم إيمانهم، كما روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار".

 

فالحقُّ أحقُّ أن يُتّبع، ودين الله لن يضره ضلالُ الضالين، ولا تحريف المحرفين، الذين جعلوا مهمتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتبديل الدين وشرائعه، وتصدير الفتاوى الشاذة التي ليس لهم فيها سلف؛ بل هي مصادمة للنصوص القطعية من الكتاب والسنة؛ ليشتروا بذلك ثمناً قليلاً، وينالوا به عَرَضَاً رخيصاً، كما فعل أسلافهم من أحبار اليهود، ورهبان النصارى، فقال الله فيهم: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)[البقرة: 79].

 

فاتقوا الله ربكم، واستمسكوا بدينكم، وعضُّوا عليه بالنواجذ، ولا تغرنّكم أقوال المخذلين، وتشكيك المشككين، وتلاعب المتلاعبين بدين رب العالمين؛ فإنهم لن يضروا الله ولا شريعته شيئاً، وإنما يضرُّون أنفسهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

 

وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم...

 

 

المصدر: تكفير المسلمين (2) موانع التكفير؛ الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

 

المرفقات

موانع التكفير

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات