اقتباس
ولعل البداية الفعلية للوصول إلى هذا المقام الإيماني الراقي في التعامل مع كتاب الله، يبدأ من معرفة الأسباب الحقيقية في عدم الانتفاع من هذا القرآن، وغياب أثره الذي أنتج أجيالاً قرآنية فريدة من سلف الأمة، فمعرفة أسباب الداء هي الخطوة الأولى لكتابة وصفة الدواء. وبلا شك أن هذا لم يحدث في يوم وليلة، بل حدث عبر قرون طويلة، بسبب عوامل كثيرة ساهمت مجتمعة أو متفرقة في انزواء القرآن في ركن صغير في نفوسنا..
القرآن كنز عظيم، وبحر زخار، ومعين لا ينضب، ومنجم لا ينفد، وخلود بلا فناء، باق إلى يوم الدين، فيه كل ما يحتاجه الفرد ليصبح عبداً ربانياً كما يحب الله ويرضى، وفيه كل ما تحتاجه الأمة للخروج من النفق المظلم الذي تسير فيه، والنهوض من كَبْوتها التي طالت وطالت، وفيه الإجابة على كل التساؤلات، والهداية المنقذة من كل الضلالات. والقرآن للأمة بمثابة مشروع لنهضة الأمة جمعاء، فهو كالشمس يسع الجميع، مع الأخذ في الاعتبار أن الشمس لا تؤثر إلا فيمن يتعرض لها، كذلك القرآن لا ينتفع به إلا من يحسن التعرض له، بل ويزيد القرآن على شمس الدنيا، بأن نوره لا يأفل وشمسه لا تغيب عن أي زمان أو مكان.
ومع تيسُّر القرآن للجميع إلا أن غالبية الأمة -إلا من رحم ربي– قد أعرضت عنه كمصدر متفرد لتوليد الإيمان وتقويم السلوك، واكتفت منه بتحصيل الأجر والثواب المترتب على تلاوته وحفظه. من هنا برزت أهمية التنبيه على الجانب العظيم المهجور في القرآن، والذي قد لا ينتبه إليه الكثيرون ممن يتعاملون معه، لذلك كان من الأهمية بمكان معرفة عن الانتفاع الحقيقي بكتاب الله، بحيث تقع الآيات المباركات مواقع القطر على الصحاري الجدباء، فيحيي به الله القلوب بعد موتها. والسماح لنور القرآن بدخول القلب حتى ينوره ويغيَّره، سيستدعي يقيناً التعامل مع القرآن بالطريقة التي تحقق هذا الهدف، والتي أرشدنا إليها الله -عز وجل- في كتابه، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، وطبقها الصحابة – رضوان الله عليهم – فكانوا بحق (جيلاً قرآنيًا فريدًا).
ولعل البداية الفعلية للوصول إلى هذا المقام الإيماني الراقي في التعامل مع كتاب الله، يبدأ من معرفة الأسباب الحقيقية في عدم الانتفاع من هذا القرآن، وغياب أثره الذي أنتج أجيالاً قرآنية فريدة من سلف الأمة، فمعرفة أسباب الداء هي الخطوة الأولى لكتابة وصفة الدواء. وبلا شك أن هذا لم يحدث في يوم وليلة، بل حدث عبر قرون طويلة، بسبب عوامل كثيرة ساهمت مجتمعة أو متفرقة في انزواء القرآن في ركن صغير في نفوسنا، ويمكن إجمال هذه العوامل والأسباب في الآتي:
أولاً: الصورة الموروثة عن القرآن:
قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يُهوَّدانه أو يُنصَّرانه، أو يمجِّسانه ". هذا الحديث النبوي قاعدة في فهم سلوك كثير من الناس وطريقة إدارة حياتهم من المهد إلى اللحد، أو ما يطلق عليه علماء الاجتماع (أثر البيئة المحيطة). فالأطفال الذين تدفعهم الأرحام إلى الوجود ولا يملكون فكرًا أو كلامًا، أو كتابة، وليس لديهم إلا الاستعداد لأن يكونوا أي شيء تكون عليه بيئتهم، فكل طفل يولد في العالم العربي يصير عربيًا في لسانه وفكره، حين لا يرى غير قومه، والصيني يصير بوذياً، والهندي برهمياً، وكذلك كل أطفال أهل الملل والنحل واللغات. من هنا يتعلم الطفل الأشياء المقدسة التي يغضب من أجلها إذا انتهكت، والأشياء والمفاهيم المدنسة التي يغضب منه إذا قارفها أو تدنس بها.
إن الصورة التي طبعت في أذهان كثير من أبناء المسلمين، في مراحل الطفولة للقرآن أنه لا يُستدعي للحضور إلا في حالات الاحتضار والنزع والوفاة، أو عند زيارة المقابر، أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية، وهي قراءات لا تتجاوز الشفاه، ولا تقع في النفس أو القلب موقعها الطبيعي الذي كان يقع عند سلف الأمة. لقد ورث كثير من المسلمين القرآن فيما ورثه عن السابقين، ورثوه ككتاب مقدس تقديسًا شكليًا، تفتتح به الحفلات والمناسبات، تكتب آياته في تابلوهات أنيقة تزين الجدران، أو تدق على مصوغات من الذهب والفضة لتتزين بها النساء. هذه هي الصورة النمطية السلبية عن القرآن عند كثير من المسلمين، فلا ريب إذا ألا ينتفع به الكثيرون، ويصير عليهم حجة وبرهاناً.
ثانياً: طول الإلف:
طبيعة النفس البشرية إذا ألِفت الشيء خفي عليها أسراره، وصرفها هذا الإِلف عن التفكر فيه ثم اكتشاف ما فيه، فإذا ما انتقلنا للقرآن الكريم فإننا نجد أن (طول الإلف) له دور كبير في عدم انتفاعنا به. فمنذ الصغر ونحن قد ألفنا القرآن يُتلى بنغمة وتراتيل معين، وباستمرار سماع هذه النغمة تعودت الأُذن عليها، وألِفتها دون محاولة الإصغاء إلى معنى الكلام الذي يصاحبها. ومما ساعد على عدم الإصغاء للخطاب القرآني وتدبره الصحيح: أن المستمع في الغالب يكتفي بجو الروحانية، والشعور بالارتياح الذي ينشأ عند سماع أصوات المقرئين، وهو الارتياح الناشئ عن جرس القرآن وجماله التوقيعي الذي لا نظير له، ولكنه للأسف لا ينُشئ إيمانًا فاعلاً، فالإيمان يحتاج إلى يقظة العقل وإدراكه للمعنى، مع استثارة العاطفة مع هذا المعنى ليستقر مدلوله في القلب فينشأ بذلك الإيمان المنشود. قال ابن رجب -رحمه الله-: " هذه الألحان تهيج الطباع، وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع، حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة، والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن".
ثالثاً: نسيان الهدف الذي من أجله نزل القرآن:
فإن الإنسان هو موضوع القرآن الرئيسي، بمعنى أن الهدف الأسمى لنزول القرآن هو هداية الإنسان وإصلاحه والسير به في الطريق المؤدي إلى رضا الله وجنته، ومن أجل تحقيق هذا الهدف جعلها الله رسالة موجزة مقارنة بما تحتويه من معان عظيمة؛ ليسهل حملها وقراءتها وحفظها. ولكونها رسالة موجزة، وفقراتها قليلة الكلمات ثقيلة المعاني، كان من الضروري قراءتها بتأنٍ وتؤدة حتى يتمكن القارئ والسامع من فهم المقصود منها (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) [الإسراء: 105].
ولأن وظيفتها في الهداية والتغيير تتطلب الزيادة المستمرة للإيمان في القلوب، كان الأمر الإلهي بترتيلها والتغني بها لتستثير بذلك العاطفة (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل: 4]، ولأنها تخاطب الناس جميعًا، فقد يسرها الله للقراءة، فلا تحتاج إلى أماكن محددة، أو أزمنة خاصة لتقرأ فيها: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر: 17]، ولأن مستويات الناس وثقافاتهم ومداركهم مختلفة فقد جعل الله عباراتها مرنة تستوعب الزمان والمكان والأشخاص أيًا كان مستواهم. ولأن الإنسان من طبيعته النسيان، وكذلك لتعرضه المستمر للمغريات والملهيات خلال يومه وليلته؛ كان من الأهمية بمكان أن يداوم على قراءة القرآن؛ لتحدث له دوام التذكرة والتبصرة، وليُعَوِّض بالقرآن ما فقده من إيمان، وليس ذلك فحسب بل وليمد قلبه بالروح التي تجعله دومًا في إقبال على الله. من هنا كانت التوجيهات النبوية المتعددة بكثرة تلاوة القرآن، وتعاهده كل يوم، وحتى لا تمل النفس كان رصد الجوائز والأجر العظيم لكل من قرأ حرفًا من القرآن ليستمر الحافز والدافع لديها للقراءة، كل ذلك ليتحقق المقصود من اللقاء بالقرآن. ولأن الهداية لن تحدث إلا بفهم المراد من الخطاب كان الأمر بتدبر القرآن لتحقيق المقصود من نزوله ِتَابٌ (أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) [ص: 29].
إذن فهي منظومة متكاملة من الوسائل التي شُرِعت، وندب إليها لتحقيق الهدف العظيم من نزول القرآن (َيأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين) [يونس: 57]. فكثرة قراءة القرآن، وتعلم أحكام تلاوته، وترتيله، وحفظ آياته، وتدبره، وقراءته بصوت مسموع وحزين كل هذه وسائل لتحقيق الهدف. ومن هنا ندرك كلام ابن القيم -رحمه الله-: "أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم".
فإذا ما نُسى الهدف من نزول القرآن، لم يحدث ربط الوسائل بهذا الهدف، وعندها يتعامل الكثير مع النصوص الواردة في فضل وأهمية (الوسائل) كفضل القراءة والترتيل والحفظ وقراءة الليل وخلافه على أنها (غايات) و (أهداف). فيُصبح هم المرء حفظ القرآن كهدف ومن ثم لا يُعطي اهتمامًا يُذكر للقراءة المتأنية الواعية المدركة لمعاني الآيات فضلاً عن التأثر بها. وينصرف الهم كذلك إلى تحصيل أكبر قدر من الحسنات من خلال القراءة السريعة، وينصرف الهم أيضًا إلى استغراق الأوقات في تعلم أحكام الترتيل والتعمق فيها، والتشديد على المتعلمين في أمور قد لا تكون أساسية في الترتيل. كل ذلك وغيره من المتوقع أن يحدث لو نُسى الهدف من نزول القرآن، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أُنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذوا دراسته عملاً، إن أحدكم ليقرأ من فاتحته إلى خاتمته ما يُسقط منه حرفاً، وقد أسقط العمل به". قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يخفى على أولي الألباب أن المقصود بنزوله اتباعه، والعمل بما فيه، إذ العاملون به هم الذين جُعلوا من أهله، وأن المطلوب من تلاوته تدبره، وفهم معانيه، لذلك أمر الله بترتيله والترسل فيه؛ ليتجلى أنوار البيان من مشارق تبصرته، ويتحلى بآثار الإيمان من حقائق تذكرته ".
رابعاً: كيد الشيطان:
إن إبليس – الذي أقسم بعزة الله بأن يعمل على غواية البشر وسوقهم معه إلى النار – ما كان ليترك هذه الأمة ليلتقي أبناؤها بالقرآن فيتزودوا منه بالإيمان، وبالتالي يتحصنون من كيده، ويلتزمون صراط الله المستقيم، فيدخلون الجنة. وكيف يتركهم وقد رأى التأثير العظيم الفذ للقرآن على جيل الصحابة، ومن ثَّم فإن استمرار وجود القرآن بين المسلمين من شأنه أن يُفسد مخططاته، ويغلق الأبواب أمامه. وفي الوقت ذاته فإن الشيطان لا يمكنه تحريف القرآن لأن الله -عز وجل- قد تكفل بحفظه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]. ولا يمكنه كذلك دعوة المسلمين لنبذ كتابهم وإبعاده من بينهم؛ لأنه رسالة نبيهم.
فماذا فعل الشيطان مع القرآن؟!
استطاع الشيطان أن يستدرج المسلمين، ويبعدهم شيئًا فشيئًا عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وفي الوقت ذاته تركهم يتصلون بالقرآن، ويتعاملون معه ولكن من الناحية الشكلية. فيجتمع له بذلك أمران:
الأول: أن يصبح القرآن موجودًا بين المسلمين من الناحية الشكلية اللفظية.
الثاني: أن يكون غائبًا من الناحية الحقيقية الجوهرية.
فيخمد باجتماع هذين الأمرين أي تأنيب للضمير في نفوس المسلمين بهجر كتابهم، ومن ثمَّ لا يمكن لأحد أن يفكر بأن القرآن بات غائبًا مهجورًا.
فعندما تنتشر المصاحف في كل مكان، وتبث الإذاعات آياته ليل نهار، وتُخرِّج المدارس والحلقات والكليات عشرات الآلاف من حفاظه. وينكَبُّ المسلمون على قراءته في رمضان، ويتنافسون على ختمه مرات ومرات بُغية تحصيل أكبر قدر من الحسنات. وعندما يكون هذا وغيره من مظاهر الاهتمام الشكلي بالقرآن هو السائد بيننا، فإن الدعوة إلى العودة الحقيقية إليه، والانتفاع بمعجزته، وقدرته الفذة على إنشاء الإيمان والتغيير لن تجد آذانا مصغية بين المسلمين، بل سيصبح من المتوقع أن يقال لصاحب هذه الدعوة: وماذا عسانا أن نفعل مع القرآن أكثر مما نفعل؟! ألا يكفي هذا الجهد المبذول معه؟!
تلبيس إبليس: لقد نجح الشيطان نجاحًا كبيرًا في استدراج الأمة وإبعادها عن الانتفاع الحقيقي بالقرآن، وهذا لم يتم في يوم وليلة، بل كان استدراجًا هادئًا بطيئًا عبر القرون المتعاقبة حتى وصل إلى الحال الذي وصل إليه الآن. وكانت أبوابه الرئيسة التي يدخل منها على المسلمين هي باب الجهل، وباب الهوى، ومن كل منهما تتفرع أبواب كثيرة تناسب كل الحالات، وتؤدي في النهاية إلى تحقيق هدفه. والشيطان ليس له سلطان مباشر على أحد من الناس، ولكن عندما تصادف وسوسته هوى في النفس، أو جهلاً بالأمر فمن المتوقع أن تتم الاستجابة لها. فالجهل بقيمة القرآن الحقيقية، والهدف من نزوله، كان له دور كبير في الاستجابة لوساوس الشيطان في هذا الباب.
راجع رسالة: تحقيق الوصال بين القرآن والقلب للدكتور / مجدي الهلالي.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم