عناصر الخطبة
1/ مواقف من غزوة أحد 2/ معجزات وقعت بالغزوة 3/ فوائد تربوية من الغزوةاقتباس
إن الدروس من غزوة أحد التي وقعت بين المسلمين والمشركين لا تنقضي لمن تأملها، كيف لا وهي دروس قدرها الله -جل وعلا- لتكون نبراسًا يستضيء به الناس بعد ذلك الزمان، وهذه من النعم الله التي منّ بها علينا أن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، فإنها وصيته للأولين والآخرين، من تمسك بها نجا، ومن اتصف بها كان من أهل النعيم في الدنيا والآخرة.
معاشر المؤمنين: إن الدروس من غزوة أحد التي وقعت بين المسلمين والمشركين لا تنقضي لمن تأملها، كيف لا وهي دروس قدرها الله -جل وعلا- لتكون نبراسًا يستضيء به الناس بعد ذلك الزمان، وهذه من النعم الله التي منّ بها علينا أن جعل لنا سلفًا نسير على خطاهم ونقتفي آثارهم.
ومن المواقف: ما حصل من قول ابن مسعود، فإنه قال: "لم أكن أرى فينا أحدًا يريد الدنيا يوم أحد حتى أنزل الله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)". وبهذا يتبين للمرء أن إخلاص النية أمر شاق يحتاج إلى جهاد واستحضار جديد لكل عمل، فإذا كان الله بيّن لنا أن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أراد بعمله الدنيا وهو الغنيمة وهم في المعركة التي تستدعي إخلاص النية أكثر لأنه مقبل على الموت، فما بالك بمن يكون في الأمن والسلامة.
قال سفيان الثوري: "جاهدت نيتي عشرين سنة فما استقامت لي".
ومن المواقف التي تستفاد أن المرء قد يفوته الخير في بعض الأحيان، فعليه أن يتهيأ للفرصة القادمة ويعد لها النية الصالحة الصادقة كما فعل أنس بن النضر، أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس قال: قال عمي أنس بن النضر -ولم يشهد بدرًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكبُر عليه، فقال: "أول مشهد شهده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غبت عنه، أما والله لئن أراني الله مشهدًا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد ليرين الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد من العام القابل، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو: واهًا لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، وأنزل الله: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
وفي رواية الإمام أحمد: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه-، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، فقال: يا أبا عمرو: أين؟! قال: واهًا لريح الجنة أجدها دون أحد، فقال: أنا معك، قال سعد -رضي الله عنه-: فلم أستطع أن أصنع ما صنع.
وممن أبلى بلاءً حسنًا في أحد، بل كان الصحابة يعدون معركة أحد كلها لطلحة لما أبلاه في تلك الغزاة، قالت عائشة -رضي الله عنها- في قوله تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...) الآية، منهم طلحة بن عبيد الله؛ ثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصيبت يده، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أوجب طلحة الجنة". وأخرج الترمذي من حديث طلحة أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو، وكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعليّ ثياب خضر، فلما رآني النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين السائل عمن قضى نحبه؟!". قال الأعرابي: أنا يا رسول الله، قال: "هذا ممن قضى نحبه". وأخرج البخاري عن قيس قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد.
وممن أبلى في تلك الغزاة مصعب بن عمير؛ أخرج البيهقي من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين انصرف من أحد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه ودعا له ثم تلا هذه الآية: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
أخرج البخاري من حديث خباب -رضي الله عنه- قال: هاجرنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئًا، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطى بها رجلاه خرج رأسه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر"، أو قال: "ألقوا على رجليه من الإذخر"، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها.
فمن هذا كله نستفيد أن الله -جل وعلا- قد ينعم على العبد في هذه الدار بنعم عظيمة، فعلى العبد أن يتقي الله فيها؛ لأنها قد تكون من الطيبات التي عجلت لصاحبها في الدنيا.
وفيه أن المؤمن قد يُبتلى بالضيق في الرزق، فهذا إن كان صالحًا فهو أعظم وأتم لأجره؛ لأنه لم يأكل من أجره شيئًا، وهذا هو فهم الصحابة كما مضى.
وفيها أن البعض قد يعاهد الله على شيء فيفي به ويمد الله له في عمره، ويكون طول حياته خيرًا له، كما فعل طلحة بن عبيد الله، فقد عاهد الله وصدق كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع هذا طالت به الحياة جدًّا، وهو من العشرة المبشرين بالجنة.
ومن المواقف في هذه الغزوة شجاعة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو مصاب بالجراح؛ قال ابن إسحاق: فلما أسند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشعب أدركه أبيّ بن خلف وهو يقول: أي محمد: لا نجوت إن نجا، فقال القوم: يا رسول الله: أيعطف عليه رجل منا؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه"، فلما دنا تناول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحربة من الحارث بن الصمة، يقول بعض القوم فيما ذكر لي، فلمّا أخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا بها تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها، قال ابن هشام: الشعراء ذباب له لدغ، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها، فرجع إلى قومه يخور كما يخور الثور، فقال له أصحابه: ما هذا الجزع؟! فليس بك بأس، فقال: إن محمدًا قال: إنه يقتلني، فوالله لو بصق عليّ لقتلني، فمات بسرف وهم قافلون.
فيستفاد من ذلك أن الكفار يعلمون صدق النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومع ذلك يجحدون كبرًا وحسدًا كما قال تعالى: (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ).
اللهم وفقنا لهداك، واجعل عملنا في رضاك، أقول قولي وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
ومن المعجزات التي حصلت للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في تلك الغزاة، قال جابر بن عبد الله: إن عين قتادة بن النعمان أصيبت يوم أحد فوقعت على وجنته، فردها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بيده، فكانت أحسن عينيه وأحدهما.
وقد وفد ابنه على عمر بن عبد العزيز، فقال له: من أنت؟! فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه *** فردت بكـف المصطفى أيمـا رد
فعـادت كما كانت لأول أمرها *** فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
فقال له عمر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبًا بماء فعادا بعدُ أبوالاً
ومن تلك المواقف ما قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن قتادة عن محمود بن لبيد قال: لما خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أحد رفع حسيل بن جابر -وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان- وثابت بن وقش في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه -وهما شيخان كبيران- لا أبا لك، ما تنتظر؟! فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمأ حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غدًا، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخذا أسيافهما ثم خرجا، حتى دخلا في الناس لم يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين، فقتلوه ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي، فقالوا: والله ما عرفناه، وصدقوا، قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا.
وفي هذا بيان أن أمر الله غالب، وأن ما قضاه واقع كما قال سبحانه: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ).
وفيه حسن خلق حذيفة -رضي الله عنه- لعلمه حسن قصد أصحابه في القتال.
ومما وقع من المواقف يوم أحد ما أخرج البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن، فإذا أشير له إلى أحد قدمه في اللحد وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصلِّ عليهم ولم يغسلوا.
فدل هذا على فضل أخذ القرآن وحفظه، وأن صاحبه يقدم في القبر في الدنيا، فكيف به يوم القيامة.
وفيها أنه يجوز أن يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر، وذلك عند الحاجة.
ومن المواقف في تلك الغزاة ما أخرج البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهونني، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه".
وأخرج الحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجابر: "ألا أبشرك؟!". قال: بلى، قال: "أشعرت أن الله أحيا أباك فأقعده بين يديه فقال: تمنَّ عليّ ما شئت أعطيكه، قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى أن تردني إلى الدنيا فأقتل مع نبيك مرة أخرى، قال: سبق مني أنك إليها لا ترجع".
ومن الفوائد من هذه الغزاة أن يعلم العبد فضل الشهادة في سبيل الله، وأن الشهداء عند الله في منزلة عالية، وأن من قتل شهيدًا وقبله الله فهو حي لم يمت، بل هو في جنات النعيم من الأحياء.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالوا: يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد، فأنزل الله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).
وعن الربيع قال: ذكر لنا عن بعضهم في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا)، قال: هم قتلى بدر وأحد، زعموا أن الله تعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة، جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة قالوا: ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه، فإذا شهدوا قتالاً تعجلوا إلى ما نحن فيه، فقال الله: إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه، ففرحوا واستبشروا وقالوا: يخبر الله إخوانكم ونبيكم بالذي أنتم فيه، فإذا شهدوا قتالاً أتوكم، فذلك قوله (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب: ألا رسول لنا يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عنا بما أعطيتنا!! فقال الله تعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل أن يأتي بهذه الآية: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم