عناصر الخطبة
1/عناية النبي صلى الله عليه وسلم بشؤون أصحابه الخاصة 2/شفاعة النبي عليه الصلاة لمغيث عند بريرة 3/دروس تربوية نبوية من الحديث وحظنا منه.اقتباس
وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَابَلَ رَفْضَهَا بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَلَمْ يَغْضَبْ لِرَدِّهَا شَفَاعَتَهُ وَعَدَمِ قَبُولِهَا الرُّجُوعَ لِزَوْجِهَا، بَلْ مَضَى مَعَ إِرَادَتِهَا، وَتَمَّ لَهَا مَا تُرِيدُ مِنْ غَيْرِ مَأْثَمَةٍ وَلَا مَعْتَبَةٍ؛ فَمَا أَعْظَمَ هَذَا التَّعَامُلَ النَّبَوِيَّ، وَمَا أَجْمَلَ هَذَا الْخُلُقَ الْمُصْطَفَوِيَّ!...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا أَعْظَمَ أَثَرَ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ فِي قَوْمِهِ حِينَمَا يُعْنَى بِشُؤُونِهِمُ الْخَاصَّةِ، وَيَحْمِلُهُ تَوَاضُعُهُ عَلَى الْحِرْصِ عَلَى تَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ، وَالنَّظَرِ فِي حَاجَاتِهِمْ، وَهَذَا مَا كَانَ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَفْعَلُهُ مَعَ أَصْحَابِهِ؛ كِبَارِهِمْ وَصِغَارِهِمْ، رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، أَحْرَارِهِمْ وَأَرِقَّائِهِمْ؛ يُسَاعِدُ مُحْتَاجَهُمْ، وَيُعِينُ ضَعِيفَهُمْ، وَيَسْأَلُ عَنْ غَائِبِهِمْ، وَيَشْفَعُ لِمُسْتَشْفِعِهِمْ.
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ خَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى حِرْصِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لِلسَّعْيِ فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ؛ فَهَذَا مُغِيثٌ، عَبْدٌ أَسْوَدُ؛ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَ زَوْجَتِهِ بَرِيرَةَ يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ لَمَّا أَرَادَتْ خَلْعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعَبَّاسٍ-: "يَا عَبَّاسُ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا!!". فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَوْ رَاجَعْتِهِ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ". قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَعْتَقَتْ بَرِيرَةَ مِنَ الرِّقِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ إِذَا عَتَقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَإِنَّ لَهَا الْخِيَارَ فِي أَنْ تَبْقَى تَحْتَ زَوْجِهَا الْعَبْدِ أَوْ تَبِينَ مِنْهُ، فَلِمَا عَتَقَتْ بَرِيرَةُ "دَعَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَخَيَّرَهَا مِنْ زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: لَوْ أَعْطَانِي كَذَا وَكَذَا مَا بِتُّ عِنْدَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا رَأَى تَعَلُّقَ زَوْجِهَا مُغِيثٍ بِهَا، وَبُكَاءَهُ عَلَيْهَا؛ رَقَّ لَهُ فَشَفَعَ لَهُ عِنْدَ بَرِيرَةَ حَيْثُ قَالَ لَهَا: "لَوْ رَاجَعْتِهِ".
وَنَظَرًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ قِصَّتُهَا مِنْ فَوَائِدَ وَأَحْكَامٍ، وَمَا حَمَلَتْهُ مِنْ دُرُوسٍ تَرْبَوِيَّةٍ عَظِيمَةٍ فَقَدِ اشْتُهِرَتْ قِصَّتُهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ؛ فَهَذَا الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ كَرَّرَ قِصَّتَهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ صَحِيحِهِ؛ نَظَرًا -كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ عِنْدَمَا تَرْجَمَ لِبَرِيرَةَ-: "وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ فَزَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَخَّصْتُهَا فِي فَتْحِ الْبَارِي".
وَهَذِهِ الشَّهْرَةُ الْكَبِيرَةُ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ تَحْمِلُنَا عَلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا لِنَسْتَلْهِمَ مِنْهَا الدُّرُوسَ التَّرْبَوِيَّةَ؛ فَنَهْتَدِيَ بِهَا وَنَتَأَدَّبَ بِآدَابِهَا؛ فَإِنَّ فِي قِصَصِهِمْ مَنْهَلًا عَذْبًا لِلتَّرْبِيَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ تَنْهَلُ مِنْهُ الْأَجْيَالُ الْقِيَمَ النَّبِيلَةَ، وَتَسِيرُ عَلَيْهِ لِتَرْتَشِفَ الْخِصَالَ الْجَلِيلَةَ.
فَمِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ: رَحْمَتُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَشَفَقَتُهُ بِمُغِيثٍ، وَهُوَ يَطُوفُ خَلْفَ زَوْجَتِهِ بَرِيرَةَ بَاكِيًا وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي وَصْفِ رَسُولِنَا الرَّحِيمِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ:128]؛ فَقَدْ أَثَّرَ هَذَا الْمَنْظَرُ الْمُحْزِنُ فِي قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَشَفَعَ لَهُ عِنْدَ بَرِيرَةَ لِتَرْجِعَ إِلَى عِصْمَتِهِ وَتَعُودَ عَنْ مُخَالَعَتِهِ.
وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ: السَّعْيُ فِي الشَّفَاعَاتِ الْحَسَنَةِ لِلنَّاسِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، سَوَاءً قُبِلَتِ الشَّفَاعَةُ أَمْ لَمْ تُقْبَلْ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)[النِّسَاءِ: 85]؛ قَالَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَفَاعَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ".
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: "اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا شَاءَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ "أَيْ: إِذَا عَرَضَ الْمُحْتَاجُ حَاجَةً عَلَيَّ فَاشْفَعُوا لَهُ إِلَيَّ؛ فَإِنَّ لَكُمُ الْأَجْرَ، قُبِلَتْ شَفَاعَتُكُمْ أَمْ لَا، وَيُجْرِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِي مَا يَشَاءُ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَالْكُلُّ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ -تَعَالَى-".
فَلْنُرَبِّ نُفُوسَنَا عَلَى نَفْعِ النَّاسِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ، وَمِنْ حَاجَاتِهِمُ: الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ لَهُمْ فِي تَفْرِيجِ كُرْبَةٍ أَوْ إِيصَالِ مَنْفَعَةٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ كَالْعَطَاءِ الْمَالِيِّ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَإِذَا امْرُؤٌ أَسْدَى إِلَيْكَ صَنِيعَةً *** مِنْ جَاهِهِ فَكَأَنَّهَا مِنْ مَالِهِ
وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ مِنْ زَكَاةِ الْجَاهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
وَأَدِّ زَكَاةَ الْجَاهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا *** كَمِثْلِ زَكَاةِ الْمَالِ تَمَّ نِصَابُهَا
وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ: الْأَدَبُ الرَّفِيعُ الَّذِي كَانَ يَتَحَلَّى بِهِ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَرِيدُ؛ فَإِنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهَا شَفَاعَتَهُ بِعَوْدَتِهَا إِلَى زَوْجِهَا مُغِيثٍ؛ سَأَلَتِ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: فَقَالَتْ: "أَتَأْمُرُنِي؟" يَعْنِي: هَلْ هُوَ أَمْرٌ مِنْكَ بِالْبَقَاءِ مَعَ الزَّوْجِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْعِتْقِ؟ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَمْرًا مِنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهَا إِلَّا الْقَبُولُ وَالرِّضَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ طَاعَتِهِ -سُبْحَانَهُ-، قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)[الْمَائِدَةِ: 92]، وَقَالَ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)[النِّسَاءِ: 80].
لَقَدْ كَانَتْ تُدْرِكُ هَذِهِ الْمُؤْمِنَةُ أَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ مُلْزِمٌ، وَقَضَاؤُهُ وَاجِبُ التَّنْفِيذِ، فَلَا خِيَارَ عِنْدَهُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الْأَحْزَابِ: 36]؛ لَكِنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَهَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ شَفَاعَةٌ فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ"؛ اخْتَارَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسَهَا، وَأَبَتِ الْبَقَاءَ مَعَ زَوْجِهَا مُغِيثٍ، فَقَالَتْ: "لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ".
فَتَأَمَّلُوا -رَعَاكُمُ اللَّهُ- فِي انْقِيَادِهَا لِلشَّرْعِ، وَكَيْفَ أَنَّهَا سَأَلَتْ مَا إِنْ كَانَ مَا عَرَضَهُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَمْ عَرْضًا؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ شَفَاعَةٌ اعْتَذَرَتْ وَاخْتَارَتْ أَنْ تُخَالِعَهُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ شَرْعِ اللَّهِ؛ فَلَا نُقَدِّمُ رَغَبَاتِنَا عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَبَّيْنَا عَلَى هَذَا الدَّرْسِ التَّرْبَوِيِّ الْبَدِيعِ لَقَلَّتِ الْمَعَاصِي، وَخَفَتَتْ نِيرَانُ الْعَدَاوَاتِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَاتِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ..
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي عَلَّمَنَا إِيَّاهَا هَذَا الْحَدِيثُ: بَيَانُ عَظَمَةِ أَدَبِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَعَ عُلُوِّ مَكَانَتِهِ؛ فَلَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَأْمُرَ بَرِيرَةَ بِأَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا مُغِيثٍ، وَلَا يَسَعُ بَرِيرَةَ إِلَّا أَنْ تُطِيعَهُ فِي ذَلِكَ بِلَا تَرَدُّدٍ، لَكِنِ انْظُرُوا إِلَى أَدَبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي أَدَّبَهُ رَبُّهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ؛ فَإِنَّهُ خَيَّرَهَا وَعَرَضَ عَلَيْهَا وَشَفَعَ عِنْدَهَا.
وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ: أَنَّ النَّبِيَّ الْكَرِيمَ قَابَلَ رَفْضَهَا بِالْقَبُولِ وَالرِّضَا، وَلَمْ يَغْضَبْ لِرَدِّهَا شَفَاعَتَهُ وَعَدَمِ قَبُولِهَا الرُّجُوعَ لِزَوْجِهَا، بَلْ مَضَى مَعَ إِرَادَتِهَا، وَتَمَّ لَهَا مَا تُرِيدُ مِنْ غَيْرِ مَأْثَمَةٍ وَلَا مَعْتَبَةٍ؛ فَمَا أَعْظَمَ هَذَا التَّعَامُلَ النَّبَوِيَّ، وَمَا أَجْمَلَ هَذَا الْخُلُقَ الْمُصْطَفَوِيَّ! وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ عَمَّنْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي وَصْفِهِ مُثْنِيًا عَلَيْهِ بِهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4].
وَمِنَ الدُّرُوسِ التَّرْبَوِيَّةِ مِنَ الْحَدِيثِ: مُرَاعَاةُ مَشَاعِرِ الْمَرْأَةِ، وَإِعْطَاؤُهَا حَقَّهَا فِي اخْتِيَارِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي تُرِيدُهَا فِي حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَالْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ سَكَنٌ دَائِمٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحِلَّ فِيهِ السَّعَادَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ إِلَّا بِالرِّضَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ لَا يُطِيقُ الْعَيْشَ مَعَ زَوْجَتِهِ، وَالزَّوْجَةُ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ جَحِيمٌ.
وَتَقْرِيرًا لِهَذَا الْحَقِّ الشَّرْعِيِّ جَاءَتِ الْأَدِلَّةُ لِتُثْبِتَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا بِرِضَاهَا، وَكَذَلِكَ لَا تُكْرَهُ عَلَى الْبَقَاءِ مَعَ زَوْجٍ لَا تُرِيدُهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحَ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ". قَالُوا: كَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: "أَنْ تَسْكُتَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَهَذَا مَا أَثْبَتَهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ، وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟" قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
عِبَادَ اللَّهِ: لِنَجْعَلْ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ النَّبَوِيِّ هَدْيًا نَسِيرُ عَلَيْهِ، وَمَنْهَجًا نَتَّبِعُهُ فِي حَيَاتِنَا؛ يَدْعُونَا إِلَى الشَّفَاعَةِ الْحَسَنَةِ لِلنَّاسِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، كَمَا يُرَبِّينَا عَلَى تَعْظِيمِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ وَتَقْدِيمِ طَاعَتِهِ عَلَى أَهْوَائِنَا وَمَصَالِحِنَا، كَمَا نَتَعَلَّمُ حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَ الْآخَرِينَ أَيًّا كَانَ مَوْقِعُهُمْ، وَاحْتِرَامَ مَشَاعِرِ الْآخَرِينَ، وَخُصُوصًا الْمَرْأَةَ، وَضَرُورَةَ إِعْطَائِهَا مِسَاحَةً مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي حَيَاتِهَا الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي تُرِيدُهَا.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَنْفَعَنَا بِهَذِهِ الْعِظَاتِ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا أَنْوَارًا لَنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم