مواعظ وعبر من الصغر للكبر

عبدالباري بن عواض الثبيتي

2025-01-17 - 1446/07/17 2025-01-18 - 1446/07/18
التصنيفات: التربية
التصنيفات الفرعية: هدايات القرآن الكر يم
عناصر الخطبة
1/عظة واعتبار من مراحل الخلق 2/تأملات وفوائد من مرحلة الطفولة 3/فوائد وعظات من مرحلتي الشباب والشيخوخة 4/قيمة عمر الإنسان بما يترك من أثر صالح

اقتباس

العمر رحلة قصيرة في ميزان الزمن، تُذكِّر بالمآل المحتوم، وأن النهاية تقترب مع كل لحظة تمر، الحديثُ دعوةٌ للتوازن بين متطلَّبات الدنيا والعمل للآخرة، وحثٌّ على اغتنام كل لحظة من العمر، فالعمر محدود، والفرصة لا تعود، والأعمار لا تقاس بعدد السنين، بل ما يترك فيها من أثر خالد...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله حمدًا لا ينتهي مداه، ولا ينقطع عطاه، ولا يُحصى ثَنَاهُ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، رفع السماوات بغير عمد نراه، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثه الله هداية ورحمة فكان منارًا يهتدى بهداه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، التي جعلها -سبحانه- سبيل النجاة، وزاد المؤمنين، ورفع بها أهل الطاعة إلى مراتب المتقين.

 

قال الله -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)[الرُّومِ: 54]، آية تختصر مسار الحياة في كلمات بليغة، ومعان عميقة، ترسم صورة لمراحل خلق الإنسان، تبدأ بضعف الطفولة، تعلو بالقوة، ثم تعود إلى ضعف يزينه الشيب، آية توقظ العقول؛ لتدرك عجز الإنسان، وتلامس القلوب؛ لتظهر حاجته الدائمة إلى ربه، هي دعوة للتفكر في أطوار الخلق، وفي تقلب الأحوال بين القوة والضَّعْف، وفي قدرة الله المطلقة التي تدبر هذا المسار بحكمة وإتقان، كل شيء بيده، منه المبتدا وإليه المنتهى.

 

الطفولة هي الصفحة الأولى، في كتاب الحياة، تبدأ ببراءة ناصعة، وضعف يحفه لطف الله ورحمته، طفل صغير لا يملك من أمره شيئًا، أودع الله في قلوب من حوله حبًّا وحنانًا، وأحاطه بأيد ترعاه وتخفف عنه ضعفه، مشهد مهيب يبين عظمة التدبير الإلهي؛ إذ يحفظ الله هذا الطفل الضعيف ويمنحه العون من حيث لا يدري، خرج الإنسان من ظلمات بطن أمه لا علم له ولا قدرة، في عجز تام، وجهل مطبِق، ثم فتح الله له أبواب العلم، وهبه السمع والبصر والفؤاد؛ لينهل بها من معين التعلُّم والمعرفة، كل ما اكتسبه الإنسان من علم أو قوة هو هبة من الله، وعطاء من كرمه، قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[النَّحْلِ: 78].

 

هذه الحقيقة تغرس في القلوب أدب العبودية، وتزرع في النفوس تواضُع المخبتين، فلا يطغى الإنسان بعلمه، ولا يغترّ بقوته، يُدرِك أنَّ كلَّ ذرة من قُوَّته، وكل حركة في جسده هي نعمة تَستوجِب شكرًا دائمًا وخضوعًا كاملًا، فالعبد مَهمَا علَا شأنُه يظل فقيرًا إلى ربه، محتاجًا إلى فضله، في كل لحظة حياته كلها هبة من الله، تستحق الحمد في كل حين، فما أعظم غنى الله، وما أبلغ فقر العبد بين يديه!

 

قال الله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)[الرُّومِ: 54]، مرحلة الشباب هي ذروة القوة ونبض الحياة، شعلة النجاح التي تضيء طريق المستقبل، هي العمر الذي تزدهر فيه الطاقات، وتفتح فيه الأحلام، وترسم فيه معالم المجد، ثروة لا تُقَدَّر بثمن، وهي مَيْدان العمل والإنجاز، في هذه المرحلة تكتب أعظم قصص الكفاح، وتبنى أقوى صروح الحضارة، لا تقوم قائمة للأوطان، ولا تنهض أمة إلا بسواعد الشباب اليافعة وهمهم العالية.

 

وممَّا لا شك فيه أن قوة الشباب تزدهر حين تتفيأ ظلال الدين، وتسمو حين تغذى من معين القِيَم والأخلاق، وتتجلَّى في سماء المجد حين تُسخَّر لخدمة البلاد والعباد، من أهدر شبابه فقد أهدر عمره كله، فهو لحظة عابرة في زمن الحياة، ومن استثمره في الخير والنفع خلد أثرًا طيِّبًا، وجنى ثمارًا يانعة في الدنيا والآخرة.

 

ولا يغيب عن الأذهان أن قوة الشباب قد تتحول من نعمة إلى نقمة، ومن بناء إلى هدم؛ إذا تنكبت طريق الرحمن، وتنصلت من أخلاق الإسلام، وتتبعت خطوات الشيطان.

 

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)[الرُّومِ: 54]، القوة ليست في الجسد وحده، بل هي مزيج من روح قويَّة، وهمة عالية، وعزيمة لا تلين، كم من جسد قوي يحمل همة واهنة، وعزيمة خاملة، فلا يصنع شيئًا، ولا يثمر عملًا، يضيع شبابه، ويصبح عالة على من حوله، عاجزًا عن بناء نفسه ومستقبله.

 

القوة الحقيقيَّة تنبع من روح إيمانيَّة، تشحذ بالطاعة، وتعزز بالاستغفار، وتثمر بالعمل الصالح؛ إنها القوة التي تتصل بربها، فيزيدها عزما وثباتًا، قال الله -تعالى- على لسان هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)[هُودٍ: 52].

 

قال الله -تعالى-: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)[الرُّومِ: 54]، هكذا تمضي دورة الحياة بحكمة الله، تبدأ بضعف الطفولة، ثم تعلو قوة الشباب لتصل إلى مرحلة الشيخوخة، حيث تضعف الأجساد، وتخور القوى، ويشيب الرأس، وتتهالك العظام، ويقترب لقاء الله، عندما يعلو الشيب تنقشع غشاوة الدنيا عن الأعين، وتنكشف حقيقتها الزائلة، يدرك الإنسان حينئذ أن السنين مرت كأنها لحظات، وأن العمر انقضى حلمًا عابرا، يهمس في قلبه: "يا ليت قومي يعلمون أن الدنيا دار عبور، وأنها لا تدوم لأحد".

 

الشيبة رسالة صامتة تدعو إلى الرجوع إلى الله؛ لتصبح العودة إليه شغل القلب الشاغل، التوبة تغدو أولويته، ومحاسبة النفس ديدنه، والقرب من الله غايته الكبرى، هي فرصة العمر الأخيرة؛ لتزيين ما بقي، والاستعداد لرب الأرض والسماء.

 

ومن الجدير بالذِّكْر أن الشيبة لا تعني الاستسلام للضَّعْف، ولا الانعزال عن الحياة، بل هي بداية لمرحلة جديدة، تتوهَّج فيها الحكمةُ، وتفيض بالخبرة ونُضج التجربة.

 

في هذه المرحلة يصبح المسن نبراسًا يُضيء طريقَ النجاح للناشئة، ويرسم للأجيال أسس الحياة، يلهم الطامحين، ويشحذ الهِمَم بروح مفعمة بالأمل، فالعمل مع الشيبة لا يتوقف، والعطاء لا ينقطع، ما دام القلب ينبض بالإيمان والعزيمة تتجدد باليقين، هذا درس عظيم تعلمناه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ في قوله: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلَق الإنسانَ في أحسن تقويم، وكرَّمَه بالعقل والدِّين، أحمده -سبحانه- وأشكره، على فضله العميم، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة تكريم وتعظيم، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، بعثه الله معلمًا للحكمة والكتاب القويم، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، أهل الدين القويم.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

 

حدود زمن الطفولة والقوة، ثم الضَّعْف والشيبة، هي متوسط عمر الإنسان، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعمارُ أُمَّتي ما بينَ الستينَ إلى السبعينَ، وأقلُّهم مَنْ يجوز ذلك".

 

العمر رحلة قصيرة في ميزان الزمن، تُذكِّر بالمآل المحتوم، وأن النهاية تقترب مع كل لحظة تمر، الحديثُ دعوةٌ للتوازن بين متطلَّبات الدنيا والعمل للآخرة، وحثٌّ على اغتنام كل لحظة من العمر، فالعمر محدود، والفرصة لا تعود، والأعمار لا تقاس بعدد السنين، بل ما يترك فيها من أثر خالد، وعمل صالح، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله"(رواه الترمذي).

 

ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الْهُدَى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صل على محمد وعلى آله وصحبه، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.

 

اللهمَّ أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصَّر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الْهُدَى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهمَّ إنه قد حل بفلسطين من البلاء والضر ما أنت عليم به وقادر على كشفه، اللهمَّ ارفع عنهم البلاء الذي نزل بهم، اللهمَّ إنهم حفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم، الصهاينة المعتدين.

 

اللهمَّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمَّ أغثنا، اللهمَّ سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهمَّ تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، اللهمَّ وفِّقْه لهداكَ واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، ووفق ولي عهده لكل خير يا أرحم الراحمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وسُنَّة نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

المرفقات

مواعظ وعبر من الصغر للكبر.doc

مواعظ وعبر من الصغر للكبر.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات