مواجهه الفتن

صالح بن مبارك بن أحمد دعكيك

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ حالات الفتن أشد حالات الابتلاء 2/ معالم في التعامل مع الأزمات والفتن

اقتباس

المعلم الثالث: حسن التعامل مع الأخبار: الإعلام اليوم يمارس نوعًا من التحويل للخطاب الإعلامي، والعبث في صياغة الأخبار والتضخيم أو التهوين، جريًا على مصالح القائمين عليه، فهو فاقد لمصداقيته وحياديته في كثير من أخباره، وعليه فإنه يجب علينا أن نقف من هذه القنوات والأخبار موقف التمحيص والتدقيق كما وجهنا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ المسلم منذ بلوغه التكليف إلى مفارقة الحياة يمر بأحوال وأطوار متباينة بين العسر واليسر، والخوف والأمن، والابتلاء والرخاء، والخير والشر، وكل ذلك كان في دائرة الابتلاء سيواجهه حتمًا لينظر الله في عمله: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)، الابتلاء باقٍ مع المسلم يرافقه في سره وعلانيته: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون).

 

ولكل حال من الأحوال التي تمر بالمسلم عبودية تخصها، والتكليف الشرعي يتطلب منه السعي للنجاح في كل مرحلة، وهكذا يسطر أعماله، ثم يعرض بعد ذلك للحساب الأكبر.

 

وتبقى حالات الفتن أشد حالات الابتلاء؛ نظرًا لالتباس الحق بالباطل، وكثرة الإشاعات، واضطراب الناس فيها، وكثرة صوارف الحق، وارتفاع ضريبة الثبات على الحق ومتابعته، وبسبب انشغال الناس عن العبادة واللجوء إلى الله بمتابعة الأحداث وتناقل الأخبار، والاستجابة إلى الإثارة، وتوالي الهموم الدنيوية، وسلامة الأهل والأموال، واشتداد دواعي الأثرة وحب الذات.

 

وأحب في هذه اللحظات، وفي هذه العجالة، أن أضع بعض المعالم التي نستفيد منها في التعامل مع الأزمات والفتن، لتكون إضاءة لنا عند ظلمة الأحداث:

 

المعلم الأول: حكمة الله -جلَّ شأنه-: فلله الحكمة البالغة في تقديره وتدبيره وأمره ونهيه، فلا يقع في الكون شيء إلا بعلمه وأمره، ولم يخلق شيئًا عبثًا ولا شرًّا محضًا، وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "والشر ليس إليك"، وفي حادثة الإفك الكبيرة تزلزل المجتمع فأنزل الله: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ).

 

وجاءت فريضة القتال فكرهه الناس فأنزل الله: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ).

 

وفي حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجبتُ للمؤمن؛ إن الله لم يقضِ قضاءً إلا كان خيرًا له".

 

فكثير من الخير يكون في ثنايا الشر، إن علينا قطعًا -دفع الشر والحيلولة دون وقوعه-، لكن إذا وقع نتذكر هذا الأمر، فما قدره الله لا راد لقضائه، وهذا اليقين بأن الكون لله يقضي فيه بأمره يوجب على المسلم التوجه إلى الملك المدبر لصلاح شؤون الدنيا والدين، وذلك هو "باب التوحيد"، الذي من ضلَّ عنه لم يجد مخرجًا ولا خلاصًا، وليس للعبد غنى عن عون الله طرفة عين؛ لذا أُمرنا أن نقول دائمًا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

 

وقال الله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)، هذا في كل شأن، فكيف عند المحن والأزمات.

 

المعلم الثاني: اصبروا وصابروا: جاء في حديث معاوية -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة فأعدوا للبلاء صبرًا"، والصبر ركيزة من ركائز البناء عند الفتن والأزمات، ويصف النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الأيام بأنها أيام صبر، فيقول: "إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم".

 

والصبر يعني الثبات على المواقف وعدم التزحزح عنه، ويعني تحمل الأقدار وعدم الجزع، ويعني عدم الخفة والطيش وموازنة الأمور.

 

وإن بالصبر تستبين الأمور، وفي الحديث: "الصبر ضياء"، قال النووي: "والمراد أن الصبر المحمود لا يزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمرًا على الصواب".

 

وكم هي حاجتنا إلى معرفة الصواب عند المحن والصعاب؟!

 

والصبر هو زاد الطريق لهذه الأمة التي تحمل الدعوة إلى الله، فطريق الدعوة ليس مفروشًا بالورد، فيكون الصبر على العقبات والألم والإيذاء، ويكون على شهوات النفس ورغباتها وعجلتها، ويكون على شهوات المدعوين ونقصهم وجهلهم وسوء تصورهم وانحراف طباعهم واستعجالهم، ويكون على قلة الناصر وضعف المعين وطول الطريق وانتفاش الباطل وغدر أهله. وإن بين النصر والهزيمة صبر ساعة.

 

المعلم الثالث: حسن التعامل مع الأخبار: الإعلام اليوم يمارس نوعًا من التحويل للخطاب الإعلامي، والعبث في صياغة الأخبار والتضخيم أو التهوين، جريًا على مصالح القائمين عليه، فهو فاقد لمصداقيته وحياديته في كثير من أخباره، وعليه فإنه يجب علينا أن نقف من هذه القنوات والأخبار موقف التمحيص والتدقيق كما وجهنا القرآن: (إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا).

 

وإن معرفة الحقيقة وإن كانت صعبة إلا أنها ممكنة، فيحتاج إلى معرفة المصادر المستقلة وإجراء المقارنة ومراجعة الأكفاء لذلك.

 

ومَنْ فَقُهَ التعامل مع الأخبار اختار ما يصح، فكما أنه ليس كل ما يقال يصح، فليس كل ما يعلم يقال.

 

قال تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ).

 

وهذا إرشاد إلى عدم الاستعجال ومراجعة أهل العلم والخبرة والاستنباط. وكم من أخبار وحقائق في دهاليز السياسة في أصل الأحزاب واجتماعاتهم لا يذيعون منها إلا القليل، بل ربما أشاعوا خلافه، فلا ينبغي أن تكون أسماعنا لما يقولون سامعة مصدقة، لا ينبغي للمسلم أن يكون مذياعًا وبوقًا لكل ما يسمع، فقد عاب الله على من ألقى أذنيه لإرجاف المنافقين فقال: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، وفي الحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع".

 

أيها المسلمون: ومن المعالم المهمة:

 

المعلم الرابع: التأني والتمهل: وذلك بعدم الاستعجال ودراسة الأمور والتفكير فيها بعيدًا عن الضوضاء والانفعال، حتى يعرف المسلم أين يضع قدميه وكيف يرفعها، وفي الحديث: "الأناة من الله، والعجلة من الشيطان".

 

وقد كانت العرب تسمي العجلة أم الندامات، والعجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويعمل قبل أن يجرب، ويعزم قبل أن يفكر.

 

لا تعجلنَّ فربما *** عجل الفتى فيما يضره

وربما كره الفتى *** أمـرًا عـواقبه تسره

 

وإن الأصل عند مواجهة الأزمات هو ترك الطيش وإلغاء العجلة والمناورة عن بعد، والحيد قدر المستطاع عن الرمية، والحال كمن يسير بسيارته في طريق محجوبة بالضباب، فلم تطق نفسه بطء السير، فاستجاب لعاطفة الطيش، فأسرع فخرج عن الطريق، فهوى عند أول منعطف.

 

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

 

أقول ما تسمعون...

 

 

الخطبة الثانية:

 

المعلم الخامس: التعامل مع الأحداث بحكمة: وإن أعظم ما يصيب الناس في الأزمات الانشغال بردود الأفعال التي تكمن خطورته في تحويل المسار والجرجرة إلى ساحات قد لا يحسن المقاومة بها، أو الإلهاء عن الهدف والغاية إلى أمور أحسن ما يقال فيها أنها لا تخدم الهدف، ومن الذكاء التخطيط لمواجهة الأزمة والتحلي بالحكمة والعمق في النظرة وحساب المصالح الشرعية الحقيقية لا الوهمية بدقة.

 

المعلم السادس: تجنب مواجهة الفتنة بفتنة أخرى: وفي الذكر الحكيم: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ)، وذلك ردًا على مَنْ اعتذر عن الخروج في غزوة تبوك خشية الافتتان بنساء الروم على حد زعمه، فوقع في فتنة القعود عن الجهاد.

 

إن الرجل لا يجوز له أن يدفع فتنة قادمة بفتنة أخرى مثلها أو أكبر منها، كان يواجه ما حدث من الشجار بالضرب، أو الضرب بالقتل ونحو ذلك، فتأخذ الأمور أبعادًا أخرى، فتتوقد نار الفتنة، فبدلاً من احتوائها وإطفائها زاد فوق النار عودًا، بل أعوادًا.

 

وحينما يغيب صوت العقل والحكمة وتحكيم الشرع تأتي دعوات الانتقام وآراء أهل الطيش وغياب ذوي الأحلام.

 

المعلم السابع: التعامل مع الحرب بإيجابية: ففي الفتن تنقلب الموازين، ويلتبس الأمر، وتختلط الأوراق، ففي حديث عمران بن حصين قال: "من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث من الشبهات".

 

والاعتزال إنما يجب حينما يلتبس الأمر، فلا ينحاز مع رأي أو جانب حتى تتضح الأمور، أما إذا اتضح الحق فلا يجوز التذرع بالسكوت وترك نصرة الحق والقيام بالواجب.

 

المعلم الثامن: الحفاظ على الأمن مسؤولية الجميع: فلا يصح أن يعيش بعض الناس عند الفتن لا في العير ولا في النفير بحجة العزلة وعدم الخوض في الفتنة، والدفاع عن الحقوق والأعراض والممتلكات واجب شرعه وفرضه الشرع، والواقع أن الجميع مطالب بالمشاركة في إشاعة الأمن ودرء الفتنة وإغاثة الناس والعمل على استقرار الأوضاع، وقد رأينا ما حصل في بعض البلدان عند زوال الأمن ماذا يكون، وهنا نركز على أمرين:

 

الأول: الأخذ على أيدي العابثين بالأمن، سواء قصدوا أم لم يقصدوا، حسنت النية أم ساءت، فلا يصح بحال من الأحوال ترك الأمور تتأزم بأيدي مَنْ لا يحسب العواقب.

 

الثاني: التلاحم والتآزر في القيام بحقوق المجتمع، من تقديم الخدمات، ومؤازرة الضعفاء، وعلاج المرضى، والقيام بواجبات المجتمع على أكمل وجه.

 

أقول ما تسمعون...

 

 

 

 

 

المرفقات

الفتن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات